بيروت /تحاول السيطرة على الحشرجة التي تتسلل إلى صوتها، مؤذنة باقتراب الدموع من مقلتيها. تبدو الغصة واضحة في كلامها الذي يقلّ شيئاً فشيئاً بعد كل زيارة، لأحد مراكز الأونروا أو للمخيم القريب من مكان إقامتها. باتت تستعيض عن الشرح برفع رأسها نافية، أو بهزه يمنة ويسرة قبل أن تطأطئه حسرة، في كل مرّة تفشل فيها بالحصول على إعانة ما. تتابع مع مَن تهجّرت معهم من مخيم اليرموك من أقارب وجيران، الأماكن التي «يحق» للاجئ «الفلسطيني – السوري» الحصول على إعانة منها، تسأل جارتها هل تسجّلت هنا؟ وهل اتصلوا بها من هناك؟ تترقّب الرسائل النصية على الموبايل علّها تعلن عن «فرج قريب» من مؤسسة تلحظ وجودهم كلاجئين أو مهجّرين إلى لبنان.
هي أمّ لثلاثة أولاد، لجأت إلى لبنان مع تأزم الوضع في مخيم اليرموك. زوجها هُجّر داخل سورية إلى مدرسة، في حين أنها لجأت إلى لبنان مع أولادها إلى منزل أهلها. الهروب كان بدافع الحفاظ على حياة أولادها أولاً، «من الصعب أن نسلم في الداخل، بات أهالي المخيم عرضة للخطر من كل الجهات، من غير المجدي الوقوف على الحياد». وتشرح: «كل من الجيش النظامي وأفراد الجيش الحر يعتبر أن مَن ليس معنا فهو ضدنا، أصبحت شوارع مخيم اليرموك عرضة للتنكيل من الطرفين، إمّا بالقتل أو الخطف، وبتهم تنقلب وفق الطرف: الجيش الحر يتهمك بأنك مع النظام فيقتلون فرداً من عائلتك، والجيش النظامي يتهمك بإيواء أفراد من الجيش الحر وفي اليوم التالي يختفي ابنك أو زوجك أو ابنتك». ناهيك بالخوف من أن يدخل أحدهم المنزل فيعتدي على البنات أو حتى على الشبان، وتضيف بحسرة: «أولادي في العشرينات من العمر، الخوف عليهم كبير».
صباح ربة عائلة تشكل نموذجاً من أصل نحو 6000 عائلة، وفق آخر إحصاء غير رسمي للجان الشعبية في المخيمات الفلسطينية، يبلغ تعداد أفرادها أكثر من 23 ألف شخص، يتوزع معظمهم في المخيمات الفلسطينية في لبنان. عائلات وجدت نفسها محاصرة بـ «خصوصية» لبنانية، تحيط اللاجئين الفلسطينيين من كل حدب وصوب. يوميات أولادها، تنحصر بمتابعة مجريات الأحداث في «وطنهم» سورية، من مواقع التواصل الاجتماعي إلى الصفحات الخاصة بمنطقتهم وصولاً إلى الأخبار على شاشات التلفزة في انتـظار خـبر انــفراج في الـواقع المـؤلم.
يعلو صوت التلفزيون فجأة ليتابعوا خبراً خاصاً بمخيم اليرموك، ويخبو الأمل في عيونهم لمجرد أن الخبر ينقل قصفاً مستمراً أو حصاراً مفروضاً أو مجزرة مرتكبة لا يدرون إن كان بين ضحاياها جار أو قريب. تسارع ريم إلى نفي هذه الأخبار مؤكدة أن إحدى صديقاتها ترتاد المدرسة وفق ما قالت لها خلال محادثاتهما، إلى أن تتدخّل الوالدة «بلا مدرسة بلا شي، هلق مين باله بالمدرسة». وحده أخوها الشاب يراقب ما يحصل من حوله بأقل كلمات ممكنة، قبل أن يقول «بشرفكم بدي اشتغل أي شي»، ليجد نفسه أمام الجواب نفسه، «ألا يكفي أنك لاجئ سوري؟ أنت سوري – فلسطيني وفي لبنان… لا تحلم!».
«أضعف الإيمان»
دخلت تعابير «لاجئ فلسطيني»، «لا يحق للفلسطيني العمل»، «اقفلوا الحدود، لا ينقصنا لاجئون»، «لا يحق لأمي أن تعطينا الجنسية»… قاموس عائلة صباح، وجدوا أنفسهم جزءاً من النسيج اللبناني العام بـ «خصوصيته العنصرية»، كما تصفها الأكثرية، و«المنطقية» كما يراها البعض. يخرج إيهاب فجأة بنظرية مغايرة للواقع المتداول: «لن نستطيع الصمود في وجه النظام بعد الآن، نحن لسنا فلسطينيين هناك، نحن أكثر من مواطنين. إذا كان التغيير سيؤدي بنا إلى ما يشبه أوضاع الفلسطينيين هنا، أنا أصبحت ضد التغيير». موقف الشاب «المتألم» مما يعيشه، دفعه إلى وصف انتحار لاجئ فلسطيني – سوري في مخيم عين الحلوة قبل أسابيع بـ «أضعف الإيمان»، موضحاً: «لم نعتد على هذا النوع من الذل، كنّا أسياداً في وطننا، نحن احتضنّا اللبنانيين، لماذا يحاولون إذلالنا؟». ويضيف: «الموت أسهل من هذه الحياة، قال لي والدي اذهب مع والدتك فالقتل أصبح رخيصاً هنا، بألف ليرة سوري، حوالى 12 دولاراً أميركياً، يقتلون أياً كان… وعندما وصلت إلى هنا فوجئت بأن الحياة هي الرخيصة».
التساؤلات التي يطرحها الشاب العشريني، تتحوّل دموعاً في عيني والدته اللبنانية التي تجد نفسها مكبّلة اليدين، في التخفيف عن أولادها من جهة وتأمين احتياجاتهم في ظل «غلاء فاحش» مقارنة بما يجنيه زوجها في سورية، والذي لا يكفي لأيام معدودة لسد الرمق في لبنان، من جهة ثانية، بعدما كانت الـ 200 دولار أميركي نفسها في سورية تضعهم في خانة العائلات «المرتاحة».
لا تهمل فرصة، صباح اللبنانية الأصل، من دون أن تذهب إلى مكان قالوا لها إنه يقدم مساعدات لتجد نفسها أمام جواب يتردد «نحن نساعد السوريين»، وعند قولها «نحن سوريون»، يؤكد الناظر إليها «السوريون فقط». لتعود خائبة إلى البيت قبل التوجه إلى مخيم ما أو أحد مراكز الأونروا بعدما سمعت أنهم يقدمون مساعدات مالية، مردّدة «ما رماني على الذل إلاّ الأكثر ذلاً». في المرة الأخيرة انتظرت أكثر من ثماني ساعات دورها من أجل التسجيل في «حصّة غذائية»، وفي النهاية لم يُدرج اسمها لولا أن جارتها أصيبت بانهيار عصبي دفع بالمسؤولين عن المركز إلى النظر في الأمر. في اليوم التالي أتت نساء من بلد خليجي لتوزيع 100 دولار لكل عائلة، وخلال التوزيع صرخ رجل «كبّروا»، وكرّر «كبروا بصوت عالٍ لا يخيفنّكم أنكم في الضاحية»، والتكبير هو لازمة يستخدمها «الجيش الحر» في تحركاته في وجه النظام السوري، في إشارة منه إلى الإعلان عن المواقف المناهضة للنظام، وإن كانوا في مخيم برج البراجنة. تسترجع هذه المشاهد أمام أولادها، عند عودتها كل يوم، متمنية أن يتمكنوا من العودة إلى سورية بعدما وعدها زوجها في الاتصال الأخير بأن يؤمن لهم بيتاً في منطقة «آمنة»، خصوصاً أنه قرّر عدم العودة إلى لبنان إثر توقيفه في الزيارة السابقة والأولى لـ «تشابه الأسماء»، وكاد يخسر وظيفته في سورية بعد أن علق في لبنان لأكثر من 15 يوماً، عاشها أمرّ من الحرب وفق وصفه، موضحاً: «يمكن لأي كان أن يقول في الدائرة حيث أعمل أني أصبحت مع الجيش الحر أو أني هربت، وسيؤدي ذلك إلى خسارة وظيفتي أو قتلي».
المخاوف من المستقبل كثيرة لصباح وعائلتها، الذين يشكلون نموذجاً من آلاف الفلسطينيين – السوريين في لبنان، بين واقع يعيشونه ومستقبل مجهول، فيجدون أنفسهم منخرطين في صراع لبناني – لبناني لا «ذنب لهم فيه». تغمض عينيها، مبعدة الدموع عنهما، بعد أن تصف مشهد شخص ما من الموكلين توزيع المساعدات في مخيم ما، وهو يرمي «صواني الحلوى» على الناس المتجمهرين مردداً «كلوا وأطعموا من هم حولكم»، فتتدافع النساء للفوز بقطعة… وتقول: «وحده عجوز عبّر عن المشهد، بالقول يرمون لنا الحلوى لننحني ونلتقطها… ذل ما بعده ذل».
فاطمة رضا- الحياة اللندنية.