مما لا شك فيه أن الإعلام بكل أنواعه وتقنياته قد أحرز نجاحاً باهراً في جميع المجالات وهو من أقوى وسائل الإقناع الذاتي في أتباع الأسلوب الهادئ والرزين دون اللجوء الى العنف. لكنه في نفس الوقت أنفذ الى القلوب من السهام وأشد وقعاً على النفوس، إذ له ظاهر أنيق ومنظر جذاب وهيكل أخاذ إضافة الى مجموعات الإثارة الكاملة والمواد الغزيرة والمعلومات المتدفقة الى ما لا نهاية. فلا بد من تأثيره الفعال ونفاذه الى الأعماق بصورة سريعة ومباشرة. والغرب من حيث طول الباع لديه في هذا المجال لديه خبرة طويلة، واهتمامه التام في تطويره قطع شوطاً مهماً في سبيل ذلك .
إن الإعلام الغربي حقيقة ضخمة، كبيرة في حياتنا السياسية والثقافية ولن تجدي نفعاً محاولات التقليل من شأنه وقدرته على الإساءة إلينا. وإذا كان الإعلام الغربي قبل خمسين سنة ضئيل الفاعلية في تأثيره علينا وعلى قضايانا فإن ثورة الإتصالات جعلته يتفوق بقدرته على الزعزعة والإضرار بقدرة الجيوش.
ولم يكن للصحافة قبل عدة عقود تأثير يتجاوز حدود المحيط الذي تصدر فيه، فما كانت تنشره جريدة صادرة في باريس أو عاصمة أخرى يظل محصوراً في قرائها التقليديين، وجاءت أعجوبة الأقمار الصناعية والطباعة عبر الفضاء وشيوع الانترنت لتزيل ما كان قائماً من حواجز وعقبات، وأصبح المقال الذي يحمل الأذى والبهتان جاهزاً لمن يسعى إليه خلال ساعات من صدروه.
و قد حذرت دراسات علمية من ظاهرة الغزو الإعلامي الأجنبي في وسائل الإعلام العربية، وبالذات البرامج الواقعية المعربة من البرامج العالمية، ومن الدراسات تلك دراسة أعدها الدكتور ياس خضير البياتي الأستاذ في كلية المعلومات والإعلام والعلاقات العامة بشبكة جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا ، بعنوان (الغزو الإعلامي والانحراف الاجتماعي: دراسة تحليليّة لبرامج الفضائيات العربية) ، وكذلك شاركت وسائل الاعلام العربية بدور اساسي في تعميق الغزو الإعلامي الأجنبي، من خلال مدة ساعات البث للمواد الأجنبية، وبروز ظاهرة البرامج الواقعية او ما يسمي (تلفزيون الواقع) في بعض الفضائيات العربية دون الاخذ بعين الاعتبار قيم المجتمع العربي وتقاليده وانماطه الاجتماعية. [1]
ولكن هل صحيح أن كل ما يقوله الإعلام الغربي عن العرب تطاول وافتراء وأنه من إفرازات (صدام الحضارات) الذي يجاهر به ويدعو إليه ساسة الغرب ومفكروه، وأن الحملات الإعلامية المتعاقبة التي لا يكاد ينجو منها بلد عربي ليست إلا وجهاً من وجوه حرب الإساءة والتشويه التي اعتمدتها سلاحاً ماضياً في صراعها؟ [2]
ولأن العرب اعتادوا على إعلام رسمي يرضي الحاكم وقد لا يرضي المحكوم فإن الصراحة وكشف الحال التي يعالج بها الإعلام الغربي شؤوننا الداخلية تثير في الأوساط الرسمية الاسلامية من ردود الفعل ما قد يضر ولا يفيد ويستهوي في الوقت نفسه أوساط العامة والمثقفين، وهناك من يرى في الإعلام الغربي طرفاً كارهاً مسكوناً بحقده علينا، يغمض عينه عن كل ما هو إيجابي لدينا.
وبعيداً عن الاسترسال في رأي الطرفين وأحقيتهما فإن الإعلام الغربي حقيقة ضخمة كبيرة في حياتنا السياسية والثقافية ولن تنفع محاولات التقليل من شأنه وقدرته على الإساءة إلينا.. فهو قوة عريقة في النشوء، مذهلة في التطور، كاسحة في التأثير تغطي القارات الخمس بلا منازع لتزرع في أذهان الشعوب ما تشاء من الصور، وتدفع بهم إلى ما تشاء من المواقف، لا تبالي في ما تتناوله من أحداث العالم بالعرض والتحليل إلا ما تراه – خطأ أو صواباً – معبراً عن قناعاتها.
وقد وصل الغزو الثقافي إلى حدّ إهمال اللغة العربية في الجامعات والكليات وخصوصاً الطب والصيدلة والهندسة، إذ يجرى التدريس فيها باللغة الإنجليزية. ويقارن المؤلف ذلك بموقف اليابان التي رفضت بإصرار شديد، أي تعديل في لغتها من جانب الأمريكيين عند توقيع معاهدة السلام عام 1950م، ونلاحظ في بعض الدول العربية مسألة شيوع اللهجة العامية في بعض القنوات الفضائية والإذاعات ،ولكن بالحقيقة ماهي إلا محاولة من دول الاستعمار في محاولة للسيطرة على هذه الإذاعات لتشويه اللغة العربية وإفراغها من محتواها وشيوع العامية.
وللغزو الثقافي عن طريق وسائل الإعلام جوانب تشمل تدني الدنو باللغة العربية وتقليص حجم العلوم الشرعية ومقررات الهوية الإسلامية والعربية في المدارس والجامعات العربية والتوسع في إقامة المدارس الأجنبية الهادفة لنشر الثقافة الغربية في البلاد العربية.
وهنا تأتي أهمية الحفاظ على مستوى الثقافة المطلوب فهي تعمل على تماسك البناء الاجتماعي داخل المجتمع، والنهوض بالمحتمع بجميع النواحي ، وتحقيق الطمأنينة للفرد وإشباع حاجته للأمن، وتحفظ للمجتمع تراثه وقيمه ومبادئه التي ينشأ عليها الفرد .
[1] غسان منير حمزة سنو، علي أحمد الطرح, الهويات الوطنية و المجتمع العالمي و الإعلام : دراسات في إجراءات تشكل الهوية في ظل الهيمنة الإعلامية العالمية, بيروت : دار النهضة العربية، 2002, ص 82
[2] محمد نصر مهنا – في النظرية العامة للمعرفة الاعلامية – المكتبة الجامعية – الاسكندرية – 2003 – ص 30.