لم يكن المخرج السينمائي السوري مصطفى خليفة إلا واحداً من الشبان العرب الذين حلموا بالتغيير، وانكسروا عند حدود الوطن، فكل أحلامه ومشاريعه التي فضلها على محبوبته الباريسية تحطّمت في لحظة واحدة عند تخوم الفاجعة والصحوة المؤلمة، التي جسدتها أجهزة النظام الأمنية، فبدلاً من أن يرسم تصوراته عند بوابة الوطن، فاجأه الجلاد “أبو رمزت” بفلقة مهينة، كانت مدخله البائس إلى عالمه الجديد، الذي سيعيشه 13 سنة بكل قسوتها وفظاعتها.
ولكنّ الفاجعة الكبرى التي كسرت زمن “خليفة” وأطاحت بأحلامه ودفنت أجزاء عزيزة من إنسانيته، لا تكمن فقط في السجن والخوف والعذاب والبرد والجوع والجرب وكل أشكال الامتهان، بل في سنوات طويلة عاشها منبوذاً محتقراً ممن هم معه في نفس السجن ويقاسون نفس المعاناة، والسبب في ذلك أن حظه العاثر قاده لأن يُسجن مع مجموعة من المتشددين الإسلاميين الذين حاربوه وعزلوه وهددوه بالقتل مرات عديدة، لأنه “مسيحي وملحد”!
ولكن “خليفة” الفنان والمرهف أدرك أن السجن قد ينتصر عليه ويهشّم كل ما هو جميل في داخله، فجاهد بكل قوته ليحول دون ذلك، فعزل عقله عن واقعه وعاش عالمه الخاص، ولأنه لم يحمل قلما طوال سني سجنه فقد ظل يخـزّن في ذاكرته يومياته أولاً بأول، ويدوّن عليها آلامه وأحلامه في محاولة منه للتغلب على جبروت السجان والحيلولة دون الانهيار النفسي، أو احتراق صفحات حياته بلا مقابل، وقد ظل مؤمناً بأن الكتابة هي فعل حضاري وشاهد تاريخي على المرحلة، ولأنها تبقى الذاكرة التي لا تقهر، لهذا كتب روايته كمخطوطة بعد تحرره، وأراد لها أن تمزق جدار الصمت، وتعلن الفضيحة على الملأ.
بعد قراءة الرواية لا بد أن تثور الأسئلة: كيف سنعيش حياتنا اليومية بجانب هذا الرعب الذي يبعد عنا أمتاراً قليلة؟ وأي جدار سميك سيحجب عن آذاننا صرخات المقهورين وأنينهم؟ وأي مجد زائف وأي انتصار وهمي وأية ديمقراطية كاذبة تتيح لنا أن نتناسى آلاف الأسرى والمعتقلين، ممن تسفك أيامهم على عتبات السجون، وتذوي أجسامهم دون أن تتاح لهم فرصة تقبيل أطفالهم، أو توديع أمهاتهم اللواتي متن شوقاً وانتظاراً، هذا عار يصل حد التواطؤ. عار علينا لأن سلبيتنا هي التي غزلت للجلاد سياطه، وصمتنا هو الذي بنى سور السجن.
لقد كان خليفة واحداً من ضمن عشرات الآلاف ممن أمضوا شطراً من حياتهم أو جلّها في غياهب السجون، وَلَئِن تحدثت تجربته الشخصية عن جوانب معيّنة من مرحلة فظيعة عاشتها سورية، فقد شاركه نفس الآلام وربما أكثر منها معتقلون إسلاميون وشيوعيون وعرفاتيون، صبية وشيوخاً، عمالاً وفلاحين وأطباء ومهندسين ومفكرين وأميين.. كان أكثرهم من الإخوان المسلمين، الذين خاضوا معركة كسر عظم مع النظام السوري، ومهما كانت أسباب الخلاف فإنه لا شيء يبرر تلك القسوة والسادية التي تعامل بها السجانون مع المعتقلين.
فقد كان ممنوعاً على المعتقلين الصلاة أو قراءة القرآن، أو قراءة كتاب، حتى الجريدة كانت ممنوعة، وكذلك التلفاز والراديو، العلاج، الرياضة، غسل الأسنان، إخراج النفايات خارج المهجع، الطعام كان رغيفاً واحداً في اليوم وأحياناً أقل من ذلك، لا زيارة للصليب الأحمر أو حتى الأهل، المرة الوحيدة التي سمحت فيها الزيارات كانت نوعا من الفساد، إذْ كانت تتطلب زيارة الأهل تقديم كيلوغرام من الذهب الخالص لزوجة مدير السجن، ويؤكد المساجين أن مجموع ما تلقاه مدير السجن من رشاوى بلغ 665 كيلو من الذهب!
يقول الكاتب في وصفه السجن: “ضم هذا السجن بين جدرانه في لحظة من اللحظات أكثر من عشرة آلاف سجين، وكان يحتوي على أعلى نسبة لحملة الشهادات الجامعية في البلاد، ولم يرَ السجناء – وبعضهم قضى أكثر من عشرين عاماً – أية ورقة أو قلم”.
ويضيف في موقع آخر: “كان عدد أفراد دفعتنا 91 شخصاً، قُتل منهم ثلاثة في الساعة الأولى أثناء الاستقبال، وخلال فترة غيابي عن الوعي والتي دامت بضعة أيام مات عشرة آخرون متأثرين بجروحهم البليغة من جراء التعذيب، واثنان أصيبا بشلل دائم نتيجة كسر بالعمود الفقري، واحد أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج فقأت عينيه”.
أما المحاكمات (إذا صحت تسميتها بهذا الاسم)، “تبدأ حفلة التعذيب أمام غرفة المحكمة، يبدأ الضرب والصراخ، تشرب هيئة المحكمة القهوة، بعد قليل يدخل الشرطي والسجين يترنح، يصيح القاضي: إعدام.. طالعوه لبرّه.
أغلب السجناء لا تستغرق محاكمتهم أكثر من دقيقة، لا يرون القاضي، كانت الإعدامات تتم كل اثنين وخميس.. ثماني مشانق منصوبة وجاهزة، بعد أن يخرج المحكومون بالإعدام من المهجع يقومون بلصق أفواههم حتى لا يهتفون قبيل موتهم (الله أكبر)”.
أما عن مجزرة سجن تدمر، فيروي الكاتب على لسان أحد الناجين: “كان في السجن قرابة الألف سجين إسلامي، وفي يوم حزيراني قائظ، حطت طائرات الهليوكوبتر محملة بالجنود الذين يقودهم شقيق الرئيس، مدججين بالأسلحة، نزلوا من الطائرات في ساحات السجن، دخلوا على المهاجع وبالرشاشات حصدوهم حصداً، كانت الدماء والشعر ونتف اللحم والأدمغة لا زالت لاصقة على جدران وأرضية المهجع”.
لن أصف حفلات التعذيب، وأعتذر عن ساديتي في الكتابة، ولكن ما حـدث مع “خـليفة” ورفـاقه، الذين قاطعوه ونبذوه، حدث ويحدث في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ومعظم سجون الأنظمة الشمولية في العالم العربي وخارجه، ومن حق هؤلاء المعذبين أن نعرف حجم آلامهم، وعدد السياط التي كوت ظهورهم، ونوعية الإهانات التي هشمت دواخلهم، وأسماء من قضوا منهم، وأن نمسح دمعة أطفالهم، من حقهم علينا أن نصرخ عالياً بدلا عنهم، لأن أفواههم مكممة..
في سورية اليوم، حسب تقارير متخصصة هناك أكثر من ألف سجين فلسطيني مفقودين تماما، وأكثر من 12 ألف سجين فلسطيني موزعين بين سجون النظام وسجون “المعارضة”.. فضلا عن عشرات آلاف السجناء السوريين، وهؤلاء يعيشون ظروفا فظيعة ومهينة ومخيفة.. لا تقل وحشية عما وصفه “خليفة” في القوقعة..
وفي فلسطين، يكمل اليوم أسرى الحرية شهراً كاملاً من صمودهم الأسطوري في إضراب الكرامة..
الــقــوقـــعـــة ..بقلم :عبد الغني سلامة
Leave a comment