على أي أوروبا سنصحُو؟ وأي ثقافة سياسية نعيش؟ وهل سيظل لمواطنين يتحدّرون من أصول غير أوروبية مكانٌ في القارة التي انطلقت منها «حروب الفرنجة» (الحروب الصليبية)، واندلعت على ترابها حربان عالميتان، عندما يضيق عنصريّوها بأوروبيين مسيحيين بيض السحنة وشقر الشعور؟
أزعم أنَّ علينا السعي إلى إجابات واقعية، لا تخدعنا بطمأنينة زائفة.
اقتراع الفرنسيين اليوم أكثر من مجرّد اقتراع لانتخاب رئيس. إنه اختيار تاريخي بين هويّتين حضاريّتين. فإما يقرّر الناخبون الفرنسيون الانزلاق نحو «صدام حضارات» قائم على الكراهية والعداء والأنانية تتجاوز تداعياته أوروبا، أو يختارون «دولة المؤسسات» ومنطق الحوار والتفاهم في الداخل والخارج.
ومن ثَم، ما كانت هناك في تاريخ فرنسا الحديث مفاضلة أكثر وضوحاً وتمييزاً… ولا رهانات أعلى تكلفة.
شخصياً، أتفهم تماماً ضيقَ كثرة من الفرنسيين، وكذلك الأوروبيين، بل الغربيين عموماً، من الأوضاع الراهنة.
أدرك حجم التحدي الديموغرافي الضخم. فالعالم الغربي في صلبه الأبيض الأوروبي المسيحي لم يعد محوَر الكون، ولا تعداده السكاني يعمل لصالحه. وإذا ما أمعنا النظر في قطاع الاقتصاد نلحظ أنه لم يعد يحتكر القرار الاقتصادي العالمي، ناهيك عن الأسواق العالمية. وبالتالي، بات «سيف» العولمة المسلط على الغرب مصدر خوف من الذوبان وقلق على المصير.
ومع الخوف، الذي تبرّره الأرقام هذه الأيام، لا تنفع عبارات الدبلوماسية المهذبة والتعابير المنمقة عن التعايش، وبالأخص، عندما تتولّد في كيانات كانت «مهد الديمقراطية الغربية» نوازع ضعيفة الإيمان بالديمقراطية أصلاً. ثم أضف إلى هذا الواقع المأزوم تساقط «الهويات» الكلاسيكية، القومي منها والآيديولوجي، والهرب إلى الدين، وجعله ملاذاً ضد تعصّب مجنون مقابل يتزيّا زي الدين… ويقتل باسم الدين.
المواطن الفرنسي ابن الطبقة العاملة، المتوسط التعليم، المفتقر إلى مهارات تخصّصية مطلوبة في عالم التقنيات الحديثة… تحوّل – قبل بضعة عقود – من التصويت لأحزاب اليسار، ومنها الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان ذات يوم ثاني أكبر حزب شيوعي في أوروبا الغربية بعد الحزب الشيوعي الإيطالي، إلى تنظيمات اليمين العنصري المتطرف. والسبب بسيط ولا يحتاج إلى فلسفة.
هذا العامل اليدوي غير الماهر وجد مَن ينافسه في سوق العمل، ويرضى بأجور أدنى؛ لأنه مهاجر فقير أو ابن مهاجر فقير. وعليه، ما كان العامل الفرنسي قد تلقنه من «رفاقه» اليساريين الكبار عن «الصراع الطبقي» و«جشع رأس المال» و«استغلال أرباب العمل تعب العمال وصغار الموظفين»… سقط فجأة عندما أقنعه رب العمل أنه ليس غريمه الحقيقي، بل إن ذلك الغريم هو المهاجر الذي يقبل بأي أجر يعطيه، وهو مَن يحرمه من فرص العمل.
هذا «المنطق» الذي أخذ يسري في فرنسا، وبالذات في المناطق الصناعية والمنجمية بشمال البلاد، وكذلك في مناطق كثافة المهاجرين من شمال أفريقيا في كبريات مدن الجنوب مثل مرسيليا، ما عاد مقتصراً على ناخبي اليسار الفرنسي.
في بريطانيا أيضاً صوّتت لصالح الـ«بريكست»، أي الخروج من أسرة الاتحاد الأوروبي، معاقل تاريخية لحزب العمال في مدن شمال إنجلترا ووديان المناجم القديمة في جنوب ويلز. وكان موقف زعيم حزب العمال جيريمي كوربن – أحد رموز اليسار المتشدد في الحزب – بالذات ملتبساً جداً في هذا المجال. وهكذا، استفاق البريطانيون على مشهد غريب صبّت فيه أصوات أقصى اليسار وأقصى اليمين باتجاه واحد. وكان المسوّغ الأبرز لهذا التوجه، أقله بالنسبة لليسار العمالي، الاعتراض على تكامل أوروبي يسمح للعمالة الوافدة من دول أوروبا الشرقية (الشيوعية سابقاً) بتهديد فرص العمل التقليدية. أما بالنسبة لقوى اليمين المتطرف التي تخفّت طويلاً ضمن طيّات حزب المحافظين، فإنها وجدت لنفسها في هذه المرحلة الحساسة منبراً صريحاً تعبّر عن أولوياتها من خلاله هو «حزب استقلال المملكة المتحدة». والجدير بالذكر، أن تصاعد التأييد الشعبي لهذا الحزب الانعزالي هو ما أقلق رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون (محافظ معتدل) فقطع وعداً بإجراء استفتاء ما كان مجبراً على إجرائه.
ولكن بعد التصويت على الخروج، ظهرت حقيقة «حزب استقلال المملكة المتحدة» كما هي في الانتخابات المحلية التي مُني فيها بهزيمة ساحقة قبل أيام. هذه الحقيقة هي أنه صوت اعتراضي له مطلب واحد، ولما تحقّق هذا فقد مبرّر وجوده، وعاد اليمينيون الانعزاليون وعدد من ناخبيه المتطرفين في معاداة الأجانب إلى حزب المحافظين.
كذلك في الولايات المتحدة، أكبر وجهات الهجرة و«أم اقتصاد السوق الحرة» وعدو الحمائية الاقتصادية والحصن الآيديولوجي للتنافسية، وقف في الانتخابات الرئاسية الملياردير دونالد ترمب مطالباً بمنع «تهجير الوظائف» دفاعاً عن الطبقة العاملة، ويعد ببناء سور مع المكسيك والتشدد في إجراءات الهجرة لقطع الطرق على العمالة الأجنبية الرخيصة… والإرهاب. وكما كانت الحال في «بريكست» بريطانيا، تشابهت طروحات اليمين مع اليسار عبر المرشح بيرني ساندرز، فارتفعت سيوف ناخبيهما ضد «المؤسسة» ورموزها ومقوّماتها…
في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، الدول الكبرى الثلاث التي أعادت بناء النظام العالمي بعد الحرب العالمية، انتكست «المؤسسة» وخسرت «العولمة» معركة استراتيجية مهمة.
ولكن النظام الرأسمالي بطبيعته لا يرتاح لوضعية كهذه إلا إذا كانت الحرب بديلاً، مع أن الحرب، أي حرب، مكلفة…
بعض القوى المعادية وجودياً للغرب، وعلى رأسها القيادة الروسية، تدرك هذا الأمر؛ ولذا فهي تريد حروباً داخلية في الدول الثلاث. وحقاً، لم تُخفِ الدوائر المقرّبة من موسكو والمعبّرة عن سياساتها، أن الخيار المفضّل لموسكو في فرنسا اليوم هو مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان؛ وذلك بعدما أيّدت صراحة خروج بريطانيا من أوروبا، وانقلاب الولايات المتحدة على حلف شمال الأطلسي.
هكذا، فإن تصويت الفرنسيين اليوم هو إما للحرب… أو لعالم يقوم على التفاهم والتفهم ومواجهة التحديات المشتركة أمام البشرية بأسرها.
إنه مفترق طرق.
عن الشرق الأوسط
الفرنسيون… على مفترق طرق ..بقلم :إياد أبو شقرا
Leave a comment