على الرغم من توقيع إتفاق المصالحة الفلسطينية ،إلا إن الحالة الفلسطينية قد رجعت إلى الوراء كثيرا كاشفة عن هوة في التفكير ، وفى الرؤية للقضايا والأعراض التي بدات تطفو على سطح العلاقات الفلسطينية ، وهى حالة طبيعية ، ففى ظل حالة الإنقسام كثير من المشاكل لم تخرج عن حيز الإنقسام الذي وجدت فيه ، اما مع حالة المصالحة بدأت تبرز القضايا الخلافية بشكل يهدد معه إمكانية الإستمرار في المصالحة وصولا إلى بنية سياسية قابلة للإستمرار ، وقادرة على توفير بنية توافق سياسى في كيفية إدارة الشأن الفلسطينيى المعقد.
فالمصالحة ليست مجرد توقيع على ورقة صغيرة لا تتعدى حدود الورقة ذاتها ، المصالحة في حاجة إلى رؤية إستراتيجية واضحة ألأهداف ، والآليات ، والقدرة على الإستخدام الأمثل للموارد والإمكانات المتاحة والممكنة فلسطينيا ، والقدرة علي صنع البدائل للمشاكل والتحديات وهى كثيرة التي تفرزها حالة المصالحة ، وهنا لا يجوز أن نسمع عن حلول مغلقة أو مطلقة ، نريد،أو لا نريد، هذا منطق مرفوض، وغير واقعى . فالمصالحة في حاجة لمنهاج إلى جانب الرؤية ، وهذا المنهاج يقوم على الوظيفية والتدرج، والتعامل مع السياسة من منظور القدرة علي فن إدارة الممكن ، اى القدرة على التعامل مع المتاح ، والممكن بهدف الوصول إلى حلول كلية في نهاية الطريق للمصالحة ، وأيضا تعنى القدرة على فن الخلاف والإختلاف.
وفى هذا السياق نجد فشلا ذريعا في التعامل مع هذا المنهاج، ففى أعقاب كل أزمة نجد أكثر من مناهج ليس فقط يتعارض مع المنهاج الآخر بل ينفيه ويلغيه ، من منطلق قاعدة فكرية مطلقة تقوم على أن الرؤية الصحيحة ليس لها ألا موقف واحد، وهنا أستحضر مقولة المفكر الفرنسى فولتير: قد أختلف معك في رأيك ، لكننى على إستعداد أن أضحى بحياتي فى الدفاع عن حقك في إبداء رايك. هذه القاعدة في الحوار وإدارة الخلاف غير موجوده فلسطينيا. وقد برز هذا واضحا في الموقف من قضية المخطوفين المستوطنيين الثلاث .
فالرئيس وبحكم منصبه وما يعنيه من مسؤوليات دولية عبر عن رأيه برفض العملية ، والمطالبة بعودتهم أحياء ، متعاملا مع القضية من منظور إنسانى ،وهدفه واضح في وضع إسرائيل في موقف صعب ، وتعرية موقفها ، ولا يعنى هذا التخلى عن الموقف الفلسطينى ، بالمقابل حماس وعلى أكثر من لسان هاجمت ونددت هذا الموقف ، ولم يتوقف التنديد والرفض على حماس بل إمتد ليشمل مواقفا فكرية متعددة ، وتركز الموقف والخلاف على مفردات الخطاب الفلسطينى ، وبدأنا نسمع عبارات التخوين والتشكيك من جهة ، وعبارت عدم القدرة علي التعامل مع الموقف نفسه ، ولعل السبب في ذلك هو غياب منهاج القدرة على إدارة الخلاف والإختلاف، فمن حق كل طرف إن يعبر عن موقفه ورأيه ، لكن دون أن نصل إلى حد أن الرأى ألآخر خطأ ومدان ،منهاج الإلغاء والإقصاء لا يصلح مع الحالة الفلسطينية ، ولا مع الهدف من المصالحة ، والسبب هو تعقيد هذه الحالة ، وتعدد متغيراتها ومؤثراتها .
الحاجة واضحة لإكتساب منهاج إدارة الخلاف والإختلاف ، دون إن تصل الأمور إلى حد التناقض والصراع الذي لا يلتقى عند نقطة مشتركة يمكن البناء عليها , وهذا الذي يفسر لنا التراجع والتدهور في سلم التوقعات الفلسطينية .الفلسطينيون في حاجة للقدرة على الإبداع والتفكير ، وخلق الخيارات ، والقدرة على صنع البدائل لكل المشاكل والقضايا التي تعترض طريق التحرر الفلسطينيى ، فالهدف من المصالحة هو تحقيق التحرر الفلسطينى الكامل ، وقيام الدولة الفلسطينية الكاملة ، وفشل المصالحة هو فشل لهذه ألأهداف، وبدون رؤية ومنهاج تصالحى لا يمكن للمصالحة أن تنجح ، وفى النهاية الخاسر الوحيد هو القضية الفلسطينية ، والسبب في ذلك العجز عن صنع البدائل الكفيلة بحل المشاكل والقضايا الخلافية .وهذا هو الفارق بين الفلسطينيين والإسرائيليين فإسرائيل تعانى من تعددية سياسية ، وقوى سياسية متصارعة ونافية للأخرى ، لكنهم نجحوا في بناء نظام سياسى توافقى ، ولديهم القدرة على إدارة خلافاتهم في إطار هذا النظام السياسى ، الفلسطينيون على العكس يفتقرون لوجود نظام سياسى توافقى ،حتى منظمة التحرير التي يفترض إن توفر هذا البناء تعانى من عدم التوافق، وفى ظل غياب الرؤية ألإستراتيجية والمنهاج التوافقى إتسمت الحالة الفلسطينية وعلى مختلف مراحل النضال الوطنى الفلسطينى بالصراع أكثر من التوافق .
وهذا هو السبب الرئيس في تراجع القضية الفلسطينية ، وعدم القدرة علي تحقيق إنجازات حقيقية والتراكم عليهـا، بل المفارقة أن أى إنجاز فلسطينى حتى لو كان صغيرا السبب الرئيس في فقدانه ليس إسرائيل فقط ، بل العمل المناقض والرافض لأى إنجازقام به الطرف الفلسطينى الآخر. وهذا هو السبب الحقيقى وراء تراجع خيارى المفاوضات والمقاومة. المهم فلسطينيا أن نعرف ماذا نريد خلال فترة زمنية معينه، بمعنى ماذا نريد خلال خمس سنوات مثلا، ونراكم مبدا ألإنجاز وليس الفشل، أن نسير في خط مستقيم بدايته معروفة ، وأيضا نهاياته. هذا العقل الإبداعى ، القادر علي صنع البدائل لا يمكن أن يخلقه أسطورة الرجل الواحدالتى لم تعد قائمة، يمكن للقائد إن يضع رؤية لكنه بمفرده لا يمكن أن يحققها ، هيرتزل وضع رؤية إستراتيجية لقيام إسرائيل خلال حوالى خمسين عاما لكنه مات قبل إن يرى ما وضعهوحلم به، والذى قام بتفيذ رؤيته الحركة الصهيونية . يكفى السؤال اين نحن من ذلك؟ نحن نريد إن نرى كل شأ يتحقق في عصر الحاكم نفسه. والقدرة علي ألإبداع وصنع البدائل أيضا لا يوجدها حزب أو تنظيم او قوة سياسية واحدة حتى لو تسلحت بالدين ، فهذا يتطلب مشاركة جميع القوى السياسية والمجتمعية . هذا و المطلوب فلسطينيا ، وبدون ذلك سنظل ندور في دائرة مفرغة ، وندور حول أنفسنا في الوقت الذي فيه الكل يتحرك للإمام، لنجد أنفسنا كما بدأنا إنتهينا . وهذه هى حالة المصالحة الفلسطينية.
معا