واشنطن/ مع نهاية عام 2012، كما في نهاية الأعوام الطويلة الماضية ، تنطفئ شمعة أخرى من آمال الفلسطينيين في اقامة دولتهم المستقلة المتماسكة والمتواصلة المستجيبة لطموحاتهم الوطنية والمتجاوبة مع حقوقهم التاريخية، وأولها، حق العودة الذي أقره العالم بشرعية كاملة قبل أكثر من 63 عاما.
وكما في كل عام مضى، فإن سبب هذا المأزق هو التعنت الإسرائيلي الرافض لقيام أي دولة فلسطينية ذات سيادة حقيقية فوق الأرض الفلسطينية التاريخية مهما كان حجمها؛ مهما كان ضعفها؛ مهما كان هوانها ودرجة تجريدها من السلاح وهشاشتها، لأن إسرائيل، سابقاً، وحالياً ومستقبلا ترى في قيام دولة فلسطينية، ولو في عالم آخر ، اعترافا بحقوق فلسطينية تعتبرها خطراً على شرعيتها، وتحدياً لوجودها، ولا ترى في الفلسطينيين جدوى إلا بمقدار ما يقدمونه من دعم للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي.
التعنت الإسرائيلي الذي أبدع في التعبير عنه بكل الوسائل العملية بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي خلال هذا العام الذي شارف على الانتهاء، تواكب مع غياب الإرادة أو الرغبة الأميركية التي لم يبدها الرئيس الأميركي باراك أوباما في توجيه احتجاج فعلي ومؤثر على الأرض على الإنتهاكات الإسرائيلية المستمرة حتى لأبسط المعطيات الأساسية لإقامة الدولتين، فلسطين المستقلة وإسرائيل الآمنة، التي طالما تشدق بها هو والإدارات الأميركية السابقة بحماس وهم يراقبون الاستشراء الاستيطاني القبيح على أراض طالما وعدوا الفلسطينيين بها لإقامة دولتهم المستقلة.
إلا أن هذا العام الذي شارف على الرحيل حمل معه للفلسطينيين أيضاً لحظات وومضات من الإشعاع والامل رغم كونه باهتاً. فقد أكدت الأمم المتحدة يوم 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وقوفها إلى جانب الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة. وصوت 138 بلدا مع مشروع منح فلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة، وصوتت ضدها الولايات المتحدة وكندا وإسرائيل ومايكرونيشيا وجزر مارشال وأربعة دول اخرى يصعب لفظ اسمها على اللسان. يقول الفلسطينيون وأصدقائهم أن قرار الأمم المتحدة، يمنح شهادة ميلاد للدولة الفلسطينية بعد 65 عاما على تبني قرار التقسيم 181 الذي منح الشرعية لقيام دولة إسرائيل.
كما صمد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في وجه ضغوط دولية غير عادية، خصوصا الأميركية منها والتي اتسمت بالابتزاز والتهديد وقطع المساعدات المالية لثنيه عن التوجه للأمم المتحدة، وإجباره على التخلي عن الخطوة التي أدهشتنا، حيث أنها حظيت بدعم، ليس فقط من تنظيمه السياسي، حركة فتح، بل أيضاً من حركة حماس التي كانت قد خرجت للتو من ما اعتبرته “امتحان المقاومة” في حربها مع إسرائيل، ودعم شعبي واسع رغم رمزية الخطوة وعدم قدرتها على تغيير الواقع.
موافقة الأمم المتحدة على العضوية الفلسطينية رغم أنها ناقصة، أعادت بعضا من الاهتمام بالقضية الفلسطينية التي تراجع الاهتمام بها كثيرا في ظل “الربيع العربي” الذي يشهد تصدر الحركات الإسلامية وامساكها بزمام الامور في العالم العربي على حساب القضايا القومية، وتفاقم عدم الاستقرار الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط. ولعلها قد رممت بعضا من صورة عباس التي اهتزت عقب تصريحات جرى تأويلها بتخليه عن حق العودة، واستبعاده وتهميشه بشكل كامل عن مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة بين حماس وإسرائيل قبل التصويت بأسبوع.
في غزة، انتهى عام 2012 بدوي فرضته صواريخ المقاومة، وايضا بدوي “التهدئة” التي فرضت على إسرائيل وفق شروط فلسطينية لأول مرة في تاريخ الصراع.
عملية “عمود السحاب” التي أطلقها جيش الاحتلال الإسرائيلي بدءاً باغتيال قائد الجناح العسكري لحركة حماس أحمد الجعبري يوم 14 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ردت عليها كتائب المقاومة بإطلاق عملية “حجارة السجيل” واستطاعت الأجنحة العسكرية لحماس والجهاد وباقي الفصائل الفلسطينية استهداف تل أبيب والقدس لأول مرة في تاريخ الصراع. وبعد أيام من العملية التي أطلقها تحالف بنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان وإيهود باراك لرفع حظوظهم في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة بداية العام 2013، بدا واضحا أن إسرائيل باتت تلهث وراء حل يحفظ لها ماء الوجه، ما دفع الرئيس الأميركي باراك أوباما الى تجميد زيارته لأسيا والتدخل المباشر وإيفاد وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون على عجل لتضع بصمتها على اتفاق التهدئة.
بالنسبة للمصالحة أضاف طرفي الانقسام الفلسطيني، حماس وفتح، اتفاقين جديدين إلى ركام أربعة اتفاقات سابقة لإنهاء الانقسام. ففي بداية شهر شباط (فبراير) وقع الطرفان “إعلان الدوحة”، تلاه “اتفاق النقاط الثماني” في القاهرة الذي خول الرئيس عباس قيادة حكومة توافق وطني، إلا أنه وبعد توقيع الاتفاقين مباشرة، شهدت أوساط حركة حماس في غزة موجة غير مسبوقة من الانتقادات لرئيسها خالد مشعل، بينما آثرت قيادة السلطة الفلسطينية الجمود تحت ذريعة الانتظار لنتائج الانتخابات الأميركية، لأن المضي في المصالحة المرفوضة إسرائيليا وأميركيا يمكن أن تؤثر على حظوظ باراك أوباما في الانتخابات.
كما أنه ومع نهاية عام 2012 تفاقمت الأزمة بين فتح وحماس على خلفية تحديد مكان الاحتفال بالذكرى الـ 48 لانطلاقة حركة فتح. والحقيقة هي أن تعطل المصالحة بين الطرفين يكشف شرخاً عميقاً من التناقض بينهما يشمل رؤيتين ومشروعين متناقضين، واحد في رام الله وآخر في غزة، وينذر بتوسيع الانقسام الكياني والسياسي بين الضفة وغزة، قد يكون إلى غير رجعة.
على الأرض، شهد الشهر الأخير من عام 2012 إطلاق إسرائيل لمشاريع استيطانية لم يسبق لها مثيل. وطالت المخططات الاستيطانية المنطقة (إي1) وهي واحدة من أماكن خاصة حول القدس لم يطرأ عليها أي تغيير منذ أكثر من 2000 عام ، وكشفت إسرائيل عن عشرات المخططات للبناء في هذا المنحدر الواقع على الطريق المؤدي إلى الصحراء والبحر الميت. وفي حال نفذت إسرائيل مشروعها المذكور على أراضي الضفة الغربية، وهو فعلياً قيد التنفيذ، تكون إسرائيل قد أكملت عملية عزل القدس عن محيطها العربي، وقسمت أوصال الضفة الغربية مما ينهي مرة وإلى الأبد فرصة إقامة دولة فلسطينية ذات مقومات للبقاء ويقضي على حل الدولتين.
وكأنها لم تكتف بإقناع العالم على أنها تسد الطريق تماماً أمام تسوية تنتهي بقيام دولة فلسطينية، أعلنت إسرائيل قبل أسبوعين بوضوح أن أي تسوية يجب أن “تتضمن ضم منطقة الأغوار لمدة 40 عاما” ، ما يعني قضم نحو 28 في المئة من أراضي الضفة الغربية المحتلة، إضافة إلى ضم الكتل الاستيطانية الرئيسية في الضفة، وتأجيل موضوع القدس إلى أجل غير مسمى.
ولعل أكبر دليل على مأزق وإحباط ويأس القيادة الفلسطينية في رؤية حل في الأفق هو ما جاء في تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لصحيفة (هآرتس) في 28 كانون الاول (ديسمبر)، حيث كشف للصحيفة استحالة المأزق الذي وصلت إليه عملية التسوية والمفاوضات مع “عدم وجود ضغوط جدية على إسرائيل من المجتمع الدولي، وتغييب الرباعية، وعدم وجود خيارات بديلة عند قيادة السلطة في حال استمرار التعنت الإسرائيلي.”
عباس لوح بالاستقالة، ودعا نتنياهو إلى الجلوس مكانه واستلام مفاتيح الضفة، في حال عدم موافقة نتنياهو على استمرار المفاوضات بعد استلام السلطة نتيجة الانتخابات المقبلة في بداية العام المقبل.
اقتصاديا، ينتهي العام والسلطة الفلسطينية تحدق بعين الكارثة نتيجة تراجع الدعم الدولي وتراجع النمو الاقتصادي جراء سياسة الحصار الإسرائيلي، وايضا بسبب حجز اسرائيل لأموال “المقاصة” وهي العائدات الجمركية والضريبية للسلطة وبهذا تعمقت الأزمة الاقتصادية والمالية للسلطة التي تعتمد موازنتها بشكل رئيس على الموارد السابقة.
العام الجديد بات على الأبواب وإن غداً لناظره قريب.
القدس دوت كوم – سعيد عريقات .