خطوة الإدارة الأمريكية تنفيذ قرار نقل سفارتها إلى القدس، هي ليست استفزازاً للفلسطينيين والعرب جميعاً، مسلمين ومسيحيين، فحسب بل، وتأكيداً، أيضاً، على أن هذه الإدارة لن تتراجع، كما يظن البعض، عن أي من قراراتها بشأن فلسطين وشعبها. أما توقيت هذه الخطوة في ذكرى النكبة، فقرار آخر، بعد قرارها بشأن «الأونروا»، يشي باستهداف اللاجئين و«فلسطينيي 48»، بوصفهم الرمز الأول للقضية الوطنية، والضحية المباشرة لأبشع عملية تطهير عرقي معاصرة، والمركب الأساسي للمشروع، وللنضال التحرري الفلسطيني، وجوهر الصراع، ووجع الاحتلال الأشد، وسؤاله المفتوح.
إذ يبدو أن أمريكا الحالية تعتمد، فعلاً، سياسة خارجية عالمية، و«شرق أوسطية» تحديداً، عمادها تقسيم العالم، وفقاً لاستراتيجية «أمريكا أولاً»، إلى دول معادية تُعالج بالإخضاع أو ب«التدمير» إذا لزم الأمر؛ ودول منافسة ينبغي التغلب عليها، ودول حليفة تُمنح دعما أمريكياً شاملاً، في مقدمتها دولة الاحتلال إسرائيل، ودول يجوز التضحية بها، أولاها فلسطين المحتلة، وقضية العرب المركزية، كأن شعب فلسطين شعب زائد، أو«مكسر عصا» المنطقة.
لكن يبدو، أيضاً، أن الإدارة الأمريكية تتجاهل، وربما لم تفكر في أن إجازة شطب هذا الشعب بقرار منها، أو من غيرها، لا تعادل أن شطبه ممكن، اتصالاً بحقائق، لعل أهمها:
أولاً: إن المسعى الأمريكي، هنا، هو مجرد محاولة جديدة تضاف لعشرات محاولات فشلت في تصفية شعب فلسطين، إذ صحيح أنه يمر، بالمعنى الوطني والقومي، بأسوأ حالاته منذ انطلاق ثورته المعاصرة، لكنه صحيح، أيضاً، أن مصيره لن يكون مصير «الهنود الحمر»، (مثلاً)؛ فتعداده اليوم 13 مليوناً، نصفه في الوطن، ونصفه الثاني، (اللاجئون)، ما زال يصر، ويعمل، على العودة لهذا الوطن، ما يعني استحالة طمس وجوده، أو استسلامه، وكل محاولة في هذا الاتجاه هي «حرث في البحر».
ثانياً: شعب فلسطين جزء من أمة عربية، وقضيته ما زالت حاضرة في وجدان شعوبها، وبالتالي، فإن الاحتلال الجاثم على صدره ما زال يواجه محيطاً معادياً، وقابلاً للاشتعال، ولإسناد فلسطين، بأشكال مختلفة، في كل محطة من محطاتها النضالية.
ثالثاً: إن الإدارة الأمريكية إذ تستفز الفلسطينيين في أكثر عناوين قضيتهم حساسية، إنما تدير ظهرهم للحائط، وتضعهم في حالة تشبه حالة مرجل يغلي قابل للانفجار الشامل، تقدم الأمر أو تأخر؛ آخذين في الحسبان أن أياً من انتفاضاته لم تندلع بقرار، بل بشرارة أشعلت لهيباً «في السهل كله».
رابعاً: إذا كانت القرارات الأمريكية الاستفزازية كافية لانفجار الفلسطينيين، فما بالك وأنها شجعت حكومة الاحتلال على سن قوانين، واتخاذ قرارات وإجراءات تستفز البشر والحجر، آخرها، (مثلاً)، إجراء، (اضطرت لوقف تنفيذه مؤقتاً)، فرض ضرائب، بأثر رجعي، على ممتلكات كنائس القدس، كآلية للاستيلاء على أراضيها، وإضعاف الوجود المسيحي، كمكون وطني فلسطيني أصيل؛ والعودة إلى معزوفة سن قانون يمنع الأذان للصلاة؛ وموافقة «الكنيست»، (بالقراءة الأولى)، على مشروع قانون يشرِّع احتجاز جثامين الشهداء، ويمنع إقامة جنازات حاشدة لهم.
لكن، ومنعاً للالتباس، فإن الكلام أعلاه لا يعني التقليل من شأن المخاطر والتحديات المترتبة على القرارات الأمريكية، إنما إبراز أن «كل شي ينطوي على نقيضه»، لأجل رؤية حالة الصراع الراهنة من كل جوانبها، وإبصار عوامل القوة، وعوامل الضعف، لدى طرفيْ الصراع، في محطته القائمة الفارقة.
عن “الخليج”