طبول الحرب تقرع، وحديث الساعة يدور حول الرد والرد على الرد وما يمكن أن يتبع ذلك من تطورات، وكأن الحرب لم تبدأ منذ أكثر من عشرة أشهر، وكأن شعبنا لا يتعرض لأبشع عملية إبادة وتطهير عرقي يشهدها العصر الحديث. يتدخل القاصي والداني، وتمارس القوى العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية كل الضغوط لتحديد ضوابط الرد والرد على الرد، في الوقت الذي يقدمون فيه كل الدعم لدولة الإحتلال في حرب الإبادة بحجة حقها في الدفاع عن النفس.
فنتنياهو المتفلت من أي قيد، بربط مستقبل إسرائيل بمستقبل حكومته كما يؤكد الاكاديمي والباحث في الشأن الإيراني د. جمشيد اسدي من باريس. يحلم بنصر حاسم واستعادة مبدأ الردع الإسرائيلي. فهو كان قد اكد يوم الخميس في ٨-٨-٢٠٢٤ أنه ورغم إدراكه لمدى خطورة اتساع رقعة الحرب لتتحول إلى صراع إقليمي فإنه مستعد لخوضها ، ومجددا رغبته برؤية إدارة مدنية يديرها سكان غزة وربما بدعم من الشركاء الاقليميين. وبذلك نعود إلى نقطة الصفر ، وهي رفض أي دور للشرعية الفلسطينية ضمن أي حل محتمل. بل على العكس من ذلك، فإن تصعيد دولة الاحتلال لاجراءاتها العدوانية وآخرها إلغاء الصفة الدبلوماسية لممثلي النرويج لدى السلطة الفلسطينية، بحجة أن النرويج على حد زعم غانتس اتخذت تدابير وصفها بالمعادية لإسرائيل منذ بداية الحرب على غزة وخاصة فيما يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية، يؤكد اصرار هذا الكيان ليس فقط على إلغاء الشرعية الفلسطينية، وإنما محاولة تصفية قضيتنا وإنهاء الوجود الفلسطيني. ولذلك لم يكن مستغربا تصريح وزير ماليته سموتريتش الذي لا يرى مانعا من رؤية مليوني فلسطيني يموتون جوعا في قطاع غزة طالما هناك رهائن إسرائيليين. فما يقوله سموتريتش يجسد حقيقة هذا الكيان وكيف يفكر.
أما نحن، فكل يوم نقرأ عشرات المقالات عن حرب الابادة وتطورات المنطقة لكتاب وصحفيين مرموقين ومعروفين، لكن في جولة عفوية في الشارع الفلسطيني، وفي لقاءات ونقاشات غير مخطط لها مسبقا ولم تكن مقصودة شملت لاجئين من أبناء شعبنا في لبنان ومن قطاعات مختلفة، يتبين أن اهتمامهم والتصاقهم بقضيتهم ووعيهم بالاحداث المتلاحقة يشكل في بعض المواضع حالات متقدمة على تحليلات المحللين. وهذا كان دافعا لتلخيص وتبويب هذه الاهتمامات وتحديد الاستنتاجات، خاصة وأن لبنان الغارق منذ سنوات في ازماته السياسية وانقساماته الطائفية وانهياراته الاقتصادية، قد دخل في مرحلة من الضبابية والقلق الكبير في انتظار ارتدادات العملية الصهيونية الإرهابية باغتيال القيادي الكبير في حزب الله فؤاد شكر في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، وحجم وشكل رد حزب الله على هذه العملية، وما يمكن أن يتبع ذلك من خروج عن كل الضوابط وتجاوز أو إلغاء لكل قواعد الاشتباك في المواجهات المستمرة على الحدود الجنوبية للبنان منذ الثامن من أكتوبر ٢٠٢٣ ، وتمددها لتشمل العمق اللبناني كما عمق دولة الاحتلال، مما زاد من حدة الانقسامات داخل المجتمع اللبناني.
وبالعودة إلى مجموعة الاستنتاجات المستخلصة من اللقاءات العفوية مع مجموعة عشوائية من أبناء شعبنا الفلسطيني، فاللاجىء في لبنان على اختلاف موقعه الاجتماعي والعلمي والطبقي، فهو مجمع على أن الاحتلال هو أصل البلاء حسب تعبيره، لكنه يحمل حالة الانقسام مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع على الساحة الفلسطينية. وبغض النظر عن الإنتماء السياسي لهذا اللاجىء أو ذاك، فهم يحملون الجميع مسؤولية استمرار الانقسام، ولا يراهنوا على أي حل في أي عاصمة طالما لا يجتمع الفرقاء فيما بينهم ويعملوا على التوافق وانهاء الانقسام. وذهب البعض إلى أبعد من ذلك معتبرين أن بعض القوى الفلسطينية غير جادة بإنهاء الانقسام رغم ما يتعرض له شعبنا من حرب إبادة، وما تتعرض له قضيتنا من محاولات تصفية، بسبب ارتباطها بقوى خارجية واجندات إقليمية. وهنا نمتنع عن ذكر أسماء من التقيناهم طالما أن اللقاءات كانت غير رسمية وعبارة عن دردشات، وهذا ما يعطيها مزيدا من المصداقية.
ان التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها اللاجئين من أبناء شعبنا الفلسطيني في لبنان نتيجة للظروف القاسية والتهميش والحرمان من معظم الحقوق الإنسانية من مدنية واجتماعية وسياسية، كان من الممكن أن يدفعه إلى وضع قضيته الوطنية جانبا والبحث عن عمل يؤمن لقمة العيش لاطفاله وعائلته. إلا أن الفلسطيني في لبنان ، وباجماع مطلق، يعتبر حق العودة أمرا مقدسا، وهو ايمان تتناقله الأجيال، ولدى الجميع قناعة كاملة بالتحرير وقيام الدولة والعودة. وحين تحاول استفزازهم بأن الاحتلال يحول قطاع غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة، ويمارس التطهير العرقي في الضفة ويعمل عل تصفية قضيتنا، يواجهونك بالقول إن الصهاينة حاولوا إبادتنا عام ١٩٤٨ لكننا بقينا، طردوا من أرضنا لكن أرضنا مزروعة فينا. ربما نحن لا نعود ، لكن الأمل بابناءنا واحفادنا. ويعودون للتساؤل: حرب الابادة مستمرة. فمتى نتوحد!!!
ولكي نكون أمناء على نقل آراء من التقيناهم، وبغض النظر عن رأينا وما نعتقده، فقد أبدى الكثيرون تخوفهم من ان يكون التنافس والصراع بين دول إقليمية وبالتحديد إيران وتركيا على النفوذ والدور في المنطقة قد ترك بصماته على اختيار القيادة الجديدة لحماس ، فنصبح أداة في لعبة الأمم ومصالحها الإقليمية. كما ابدوا تخوفهم من ان تؤدي تلك التغييرات إلى فقدان أي ضغط لإنهاء الحرب، بل على العكس من ذلك، فبعضهم يعتقد أن الساحة أصبحت مفتوحة على المزيد من التصعيد طالما أن دولة الاحتلال مع كل الشركاء والحلفاء يعتبرون القيادة الجديدة هي المسؤولة الأولى والمباشرة عن أحداث السابع من أكتوبر.
ان شعبنا في لبنان يعيش الحرب العدوانية الصهيونية على أهلنا في غزة والضفة والقدس بكل تفاصيلها. فهذا العدو كان قد مارس حرب الإبادة على شعبنا في لبنان منذ عقود . وما تدميره وابادته واخفاؤه لمخيم النبطية من الوجود في الجنوب اللبناني في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي وتشريد قاطنيه في مختلف أصقاع الأرض ، إلا دليل على إجرام هذا العدو وتعطشه للدم الفلسطيني.
وما حرب الإبادة التي يمارسها اليوم في غزة بحق أهلنا إلا استمرار لذات النهج وبذات العقيدة التي تتلخص بقتل الفلسطيني أينما كان. فالفلسطيني أينما وجد يشكل تهديدا له ولوجوده.