إذا ما غابت فرص انفساح الأفق على التسويات السياسية للحرب الأوكرانية، فإن الفوضى سوف تضرب النظام الدولي كله، أو ما تبقى من أطلال تشير إليه.
الإشارات تتواتر أن الحرب سوف تمتد إلى آماد طويلة، وأن أحداً ليس بوسعه أن يتوقع متى تتوقف النيران، التي وصلت شرارتها إلى الشرق الأوسط وأفريقيا بأزمات اقتصادية ومالية وغذائية تتهدد بلدانها بالإفلاس والجوع.
لا روسيا بوارد وقف عمليتها العسكرية قبل أن تحقق أهدافها الأمنية والسياسية، ولا هي مهيأة لتقبل أي هزيمة في الصراع على موازين القوة والنفوذ الدوليين مهما كانت الفواتير باهظة والتضحيات فوق كل احتمال.
ولا الولايات المتحدة الأميركية، على الجانب الآخر من الصراع المحتدم، بوارد البحث عن أي حلول وسط قبل الذهاب بعيداً في إنهاك الدب الروسي، وإحكام الخناق عليه، واستنزافه تماماً بالعقوبات الاقتصادية وشحنات السلاح المتقدم التي لا يتوقف الدفع بها إلى ميادين القتال.
المعنى في ذلك كله أن الحرب سوف تتمدد في الزمن، النظام الدولي القديم لا يريد أن يغادر والنظام الجديد تتعثر ولادته.
بين القديم المتهالك والجديد المتعثر يوشك العالم أن يدخل في أحوال فوضى قد تطول.
بالحسابات الروسية، فإن هناك هدفين رئيسَين لا يمكن التفريط بهما.
الأول: حفظ الاعتبارات الأمنية بمحيطها الإستراتيجي، وهذه مسألة تدخل في العقيدة العسكرية الروسية منذ «بطرس الأكبر».
الثاني: إنهاء النظام الدولي أحادي القطبية، الذي انفردت بقيادته الولايات المتحدة، إثر انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وتفكك منظومته العسكرية والسياسية مطلع تسعينيات القرن الماضي.
معضلة موسكو أنها تفتقد حلفاً دولياً يقف معها لفرض توازنات جديدة في بنية النظام الدولي وتغيير طبيعته.
الصين غير مستعدة الآن، أو في أي مدى قريب، للدخول في مثل هذا التحالف عسكرياً وإستراتيجياً واقتصادياً بمواجهة محاولات ترميم التحالف الغربي، وتوسيع حلف «الناتو».
تتفهم بكين موقف موسكو دون أن تنخرط في تحالف كامل معها؛ خشية أن يتأثر مشروعها الرئيس لتصدر الاقتصادات الدولية، أو أن تكون رقم واحد فيه، الذي يستدعي توسيع نطاق المبادلات التجارية مع الغرب لا تضييقها.
الأميركيون يدركون بالمقابل أن روسيا إذا خرجت منتصرة من الحرب الأوكرانية، فإن مشروع التحالف بين موسكو وبكين سوف يأخذ مدى واسعاً، ويكون عنصر جذب لأعداد كبيرة من الدول في العالم الثالث.
هناك فارق جوهري بين أن تكون روسيا منتصرة أو متصدعة، ناهضة أو منهكة.
الهدف الأميركي الماثل هو الوصول بروسيا إلى درجة تقارب الإنهاك الإستراتيجي الكامل؛ حتى لا يمكنها التفكير ــ مجرد تفكير ــ في تغيير طبيعة النظام الدولي الحالي، أو إنهاء انفراد الولايات المتحدة بقيادته.
هكذا احتدمت الحرب الدبلوماسية بالطرد من هنا وهناك.
إذا ما أقدمت الدول الغربية على خطوة ردّت عليها روسيا بخطوة مماثلة.
سدت بالوقت نفسه نوافذ الحوار المعلن وغير المعلن للتوصل إلى تسوية سياسية ما.
ليس هناك سقف للتصعيد يقف عنده ولا يتخطاه.
كل سيناريو محتمل وماثل حتى الانزلاق إلى استخدام السلاح النووي.
في أجواء التصعيد تبحث موسكو عن نسخة محدثة من حلف «وارسو»، الذي أنشئ العام 1955 في العاصمة البولندية وضم سبع دول من المنظومة الاشتراكية الأوروبية.
إثر انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، جرى تفكيك ذلك الحلف بصفقات وتفاهمات لم يلتزم بها الجانب الأميركي على خلفية فوارق القوة التي ترتبت على الانهيار السوفياتي، وبقى حلف «الناتو» وحده على المسرح الدولي.
في لحظة بدا «الناتو» من مخلفات الماضي، بلا دور أو هوية.
لم يكن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب متحمساً للإبقاء عليه، فكل دولة مسؤولة عن أمنها، وإذا كان هناك من يطلب في أوروبا أو الشرق الأوسط حماية القوات الأميركية فعليه أن يدفع!
الصورة اختلفت في إدارة جو بايدن، الذي يسعى لاستعادة الدور الدولي القيادي للولايات المتحدة دون تدخلات عسكرية مباشرة، لكنه تورط في حرب بلا نهاية.
لم يرسل جندياً واحداً خارج الحدود، إلا أن التكاليف والأعباء الاقتصادية بدت منهكة ومنذرة في دول الاتحاد الأوروبي وداخل الولايات المتحدة نفسها.
في السعي الأميركي الحثيث لتذليل أي عقبات تحول دون انضمام السويد وفنلندا إلى حلف «الناتو» تصعيد في مستوى المواجهة.
التحفظات التركية سوف يتم تجاوزها بتفاهم أو آخر كإتمام صفقة حصول أنقرة على 40 مقاتلة من طراز أف 35 كانت قد أوقفت في وقت سابق، كما التفاهم على حل وسط مع الدول الأوروبية في الأزمة الكردية.
كان مثيراً اندفاع السويد وفنلندا في طلب الانضمام إلى «الناتو» رغم حيادهما التاريخي.
الأخطر مستوى التصعيد الكلامي ضد روسيا على نحو لم يذهب إليه أمين عام «الناتو» نفسه!
لم يكن ذلك مفاجئاً تماماً، فهناك ــ على سبيل المثال ــ إدارة كاملة في وزارة الدفاع السويدية مخصصة للرد على «الشائعات الروسية»!
الهاجس الروسي موجود، وقد وجد من يزكيه في أجواء قلق وتوتر!
هذا الضم المنتظر يمكن أن ينظر إليه على أنه «ضربة إستراتيجية» لموسكو، فإذا ما كانت قد أجهضت بالعملية العسكرية أيّ فرص لانضمام أوكرانيا إلى حلف «الناتو»، فإن هناك الآن دولتين أوروبيتين مهمتين بأي نظر إستراتيجي روسي أعلنتا رغبتهما في الانضمام إلى ذلك الحلف.
أين أوكرانيا من ذلك كله؟!
لا أدخلت «الناتو» كما وعدت قبل بدء العمليات الروسية، ولا ضمت إلى الاتحاد الأوروبي بوعود متواترة من القادة الأوروبيين بلا استثناء واحد!
هكذا غلبت حسابات القوة والمصالح دعايات الإنسانية والتضامن مع الضحية الأوكرانية.
«روسيا شنّت بقرار من رجل واحد غزواً وحشياً على العراق»!
لم تكن تلك محض زلة لسان من الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، فقد ذكر الحقيقة تماماً، كان غزو العراق وحشياً، استدرك مصحّحاً أنه يقصد «أوكرانيا»، وقال مازحاً وسط ضحكات الحضور: «إنه في الخامسة والسبعين الآن!».
في الحالتين العراقية والأوكرانية تأسست أوضاع فوضى، الأولى ضربت العالم العربي وموازين وحسابات القوة فيه بالتفكيك، والثانية تهدد العالم كله بالفوضى التي قد تتمدد قبل أن ينزاح النظام الدولي القديم.