خَفَتَ الصخب الذي ثار حول إعلان إسرائيل الاستيطاني الجديد فجأة كما ظهر. فبعد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29 تشرين الثاني (نوفمبر) على منح فلسطين وضع الدولة المراقب غير العضو، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي تفويضاً بدفعة استيطانية عدوانية كبيرة في القدس الشرقية ومحيطها. وتم تسريع خطط البناء التي كان بعضها يتخذ مساراً سريعاً في الأساس، كما تمت الموافقة على بناء الآلاف من الواحدات السكنية الجديدة، وذلك بهدف ردع القيادة الفلسطينية عن اتخاذ خطوات إضافية على المسرح الدولي، وليكون أيضاً مغامرة انتخابية غير ناجحة لتأمين نجاح اتجاه نتنياهو اليميني. وفي غضون أسابيع، تراجعت البيروقراطية لتعود إلى الخطو المتثاقل، فيما يعود في جزء منه إلى أن الضجة استنفدت غايتها، وفي جزء آخر إلى ردة الفعل الدولي السريعة والقوية نسبياً.
غالباً ما تكون الإدانات الدولية للاستيطان الإسرائيلي شكلية على المستوى الواقعي. ولكن، ليس هذه المرة. فقد كانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دائماً حساسين تجاه هذه الخطط بالذات لما يقارب العقد، لأنه يُنظر إليها كعقبات ربما يتعذر تجاوزها أمام التوصل إلى حل سلمي للصراع. وسيعمل المشروع الأكثر استفزازية –إحداث أعمال تطوير وبناء في المنطقة المعروفة باسم E-1، وهي منطقة تقارب مساحتها 4.5 ميل مربع تقع قرب القدس وتمتد إلى مستوطنة معاليه أدوميم- على فصل العاصمة الفلسطينية المفترضة عن عمقها العربي، واستبعاد إمكانية الإبقاء على التواصل الجغرافي للمناطق الحضرية في الضفة الغربية.
وثمة خطة مشابهة، ولو أنها أقل تهديداً إلى حد ما، والتي تستهدف جنوب القدس. وأهم معالمها جفعات هماتوس، أول مستوطنة جديدة في القدس منذ تأسيس مستوطنة هار حوما على أراضي جبل أبو غنيم في العام 1997. وسوف تشكل هذه المستوطنة الحلقة الأخيرة في سلسلة مشاريع تقوم بتوسيع الوجود السكني اليهودي في عرض المدينة، وسوف تعزل منطقة بيت صفافا الفلسطينية التي سيتم شطرها أيضاً بطريق جديدة لاستيعاب حركة مرور المستوطنين. ومثل المنطقة E-1، فإن ذلك سيمزق، أو أنه سيفرض تغييراً مهماً على الأقل، في النسيج الحضري للضفة الغربية.
يمكن لهذه المستوطنات، كما يقول العديد من الخبراء والدبلوماسيين، وضع نهاية لفكرة تقسيم المدينة على النحو الذي اقترحه الرئيس الأميركي بيل كلينتون في العام 2000، وبحيث تكون الغالبية العظمى من اليهود في القدس ضمن إسرائيل وعربها ضمن فلسطين. وقد دفع ذلك الدول الأوروبية إلى إدانة الإعلانات الإسرائيلية سريعاً وبقوة، وكذلك فعلت الولايات المتحدة -ولو بلغة أضعف، وذهب الجميع إلى شجبها باعتبارها تشكل ضربات قاتلة لإمكانية قيام عاصمة فلسطينية، وبالتالي لإمكانية قيام دولة فلسطينية.
سوف يفضي المضي قدماً في هذه الخطط بالتأكيد إلى جعل الوضع السيئ أصلاً أكثر سوءاً، ولكن التوقعات المحذرة من الزوال الوشيك لإمكانية قيام كيان فلسطيني قابل للحياة يمكن أن تصرف الانتباه عن المشاكل الهائلة القائمة الآن وبالفعل. صحيح أن التوسع الاستيطاني يجعل من أمر تقسيم المدينة أكثر صعوبة من خلال رفع التكلفة السياسية على أي رئيس وزراء إسرائيلي مستقبلي قد يفكر في هذا الخيار. ومع ذلك، وكما هو واقع الحال اليوم، فإن مقدار رأس المال السياسي الذي قد يتطلبه اتخاذ مثل هذا القرار يظل هائلاً مسبقاً، كما أن الاستعداد لدفع هذا الثمن غير موجود. وبالنظر إلى الاتجاهات السياسية، فإن فرص تحققه ضئيلة. وبهذا المعنى، فإن تركيز المجتمع الدولي على الاحتمالات المستقبلية لتوزيع الأرض يقوم بصرف الانتباه عن الحقائق السياسية الراهنة. وينطبق المنطق نفسه على المناطق العربية التي تلفها اليوم مشاعر الحزن والغضب والإحساس بالخذلان في كل شيء تقريباً. فعندما احتلتها إسرائيل في العام 1967، كانت هذه المناطق تشكل كياناً حضرياً متماسكاً ومتصلاً. وبعد أربعة عقود ونصف، لم تعد “قابلة للحياة”، بمعنى أن تكون قادرة على النمو أو التطور بشكل مستقل.
ولا يقل أهمية عن ذلك أن ميوعة مفهوم “القابلية للحياة” تجعل من الصعب تصور أي تطور مخصوص قد يعني نهايته المطلقة. ويقع مفهوم “القابلية للحياة” في عالم المفهومات التقنية وليس السياسية، بما يجعله قابلاً للتكيف مع الحلول العملية. وإذا كانت المنطقة E-1 تهدد بقطع القدس العربية عن الضفة الغربية، أو إجبار المسافرين على التفاف وعبور تحويلات طرق غير واقعية، فإن بوسع المرء دائماً اختصار طريق، وبناء جسر، أو أي ممر آمن آخر للعرب الذين يعبرون ما تعتبره إسرائيل منطقة سيادتها الإقليمية، وينطبق المنطق نفسه في أي مكان آخر من الضفة الغربية أيضاً. ويقوم مفهوم القابلية للحياة بتحويل ما يراه الفلسطينيون مسألة تحرر إلى مسألة تنمية، بحيث تخضع مسائل تقرير المصير والسيادة لتدخل الخبراء. وبهذا المعنى، فإن اعتماد مفهوم “قابلية الحياة” -التي ليس للفظته الإنجليزية viability معادل لغوي طبيعي في اللغة العربية، والذي تتم ترجمته بألفاظ مرتجلة خرقاء- ليكون المعيار لما هو ضروري، يمكن أن يقيد الحقوق السياسية: يمكن أن تكون فلسطين قابلة للحياة، نظرياً، وأن تفتقر مع ذلك للسمات الأساسية للدولة.
وحتى لو احتشد المجتمع الدولي ومارس ضغطاً باسم “القابلية للحياة” لحماية القدس العربية، فإنه ينبغي للمرء أن يكون واقعياً إزاء ما قد يحققه مثل ذلك الضغط. فمع مرور الوقت، وفي ظل غياب تسوية دبلوماسية شاملة، يرجح أن تعثر الجهات الفاعلة الإسرائيلية، الحكومية وغير الحكومية، على طرق للإفلات من القيود، والالتفاف على الضغوط، والاستمرار في التغيير التدريجي للواقع على الأرض. ويرجح كثيراً أن تخف حوافز الولايات المتحدة وأوروبا -وتصميمهما- على الضغط تدريجياً بدورها. وستكون واشنطن بشكل خاص مترددة في إنفاق رأس مال سياسي محدود على شيء لا ينطوي -من خلال منع تحقق حاصل أكثر من العمل على إنتاج حاصل- على مكافأة مرئية فورية، والذي يتضمن الرصد المستمر والغطرسة، وسوف يثير التوترات حتماً مع حليف (وينطوي في بعض الحالات على دفع كلفة سياسية داخلية).
ينبغي أن تدفع قتامة الأفق الدبلوماسي المجتمع الدولي إلى توسيع قائمة أولوياته السياسية. وبدلاً من تركيز كل اهتمامه تقريباً على منع التطورات السلبية، ينبغي عليه أن يدفع أيضاً من أجل إحداث تغييرات إيجابية اليوم. وربما يكون أحد الأماكن الرئيسية التي يمكن البدء منها مسألة المساكن، التي يشكل الافتقار إليها، لكل من العرب واليهود (ولو لأسباب مختلفة جداً)، واحداً من بين أكبر التحديات الحضرية.
من بين الأشكال التي لا تعد ولا تحصى من الحرمان والتمييز اللذين يواجههما السكان الفلسطينيون في القدس الشرقية، تقع مسألة الإسكان على القمة أو بالقرب منها. فمنذ العام 1967، لم يتم إنشاء أي أحياء فلسطينية جديدة في المدينة على الإطلاق؛ وقد حصرت الخطة الحضرية الرئيسية البناء الفلسطيني في 13 % من المدينة، وهي المساحة التي تَغطى الكثير منها فعلياً بامتداد فوضوي وغير منظم من البناء. هذا على الرغم من تضاعف عدد السكان الفلسطينيين أربعة أضعاف، وبحيث يشكلون اليوم 36 % من سكان القدس. وقد دفعت عوامل انخفاض معروض السكن، والإيجارات المرتفعة، والخدمات البائسة، ببعض السكان العرب إلى المستوطنات اليهودية المجاورة -وخاصة بسغات زئيف، مما وضع منظمة التحرير الفلسطينية أمام مأزق: إن منح الفلسطينيين الإذن بالعيش هناك سوف يبدو إضفاء للشرعية على ذلك، لكن مستشاراً للفريق اعترف لي بأنه بسبب كون الإسكان عزيزاً جداً ومع عدم قدرة منظمة التحرير الفلسطينية على تقديم أي حل على الإطلاق، فإن المنظمة لا تستطيع تحمل كلفة إدانة هذا السلوك. وهي تلتزم الصمت إزاء ذلك كما هو حالها إزاء قضايا أخرى، متخلية بذلك عن المسؤولية عن المدينة.
عندما وجد الفلسطينيون أنفسهم غير قادرين على البناء بشكل قانوني، عمدوا إلى البناء من دون التصاريح اللازمة لذلك، وهو ما يترك 30 % من سكان المدينة العرب عرضة للطرد والتشريد، وفقاً للأمم المتحدة. ويبقى تبطيء وتيرة هدم المنازل نتيجة للضغوط الأميركية تطوراً مرحباً به؛ وكذلك أيضاً خطة رئيس بلدية القدس نير بركات لتسوية أوضاع الكثير من البناء غير القانوني في القدس الشرقية. ولكن، مع الإلحاح الشديد للحاجة إلى الإسكان في وقت تظل فيه اللوائح والقوانين الحضرية شديدة التقييد، فإن تعليق الإجراءات العقابية هو أمر بعيد كل البعد عن أن يكون كافياً. وينبغي على الجهات الفاعلة الأوروبية، بوجه خاص، أن تضع ثقلها وراء أولئك الذين يعملون على معالجة هذه المسألة.
ينبغي أن يكون الوزن الذي يضعه المجتمع الدولي سياسياً بقدر ما هو تقني. ويبدو الاتحاد الأوروبي متردداً إزاء تمويل مشاريع في القدس الشرقية احتراماً للحساسيات الإسرائيلية (كما هو حاله غالباً في المنطقة (ج)، التي تشكل 60 % من مساحة الضفة الغربية، والتي تمتلك إسرائيل فيها حق النقض على كل مبنى). وهذا معقول بالطبع، ولكن الحساسية لا ينبغي أن تأتي على حساب الأولويات السياسية. وكان فصل المساعدات عن السياسة قد قلل من فعالية الأمرين على حد سواء. ولا تبدو كيفية التوفيق بين الأمرين واضحة دائماً، لكن من الواضح أن القدس الشرقية لا يمكن أن تكون عاصمة للدولة الفلسطينية -أو حتى عاملا وظيفيا من الأساس- من دون توفر الإسكان لسكانها العرب. ويمكن للنشاط في هذا المجال أن يمكّن أوروبا من لعب الدور السياسي الذي تدعي أنها تريده، لكنها تجد صعوبة في تحقيقه.
ويواجه غرب القدس أزمة إسكان أيضاً. فقد تم منع التوسع إلى الغرب بسبب غابة القدس، التي تدافع عنها حركة البيئة الإسرائيلية بقوة. كما واجه التكثيف الحضري وإنشاء المباني السكنية الشاهقة عقبات مثل ضرورة الحفاظ على جاذبية المدينة السياحية، وتفضيل الكثير من اليهود الحريديم عدم استخدام المصعد في أيام السبت. ولذلك، أصبح التوسع إلى الشرق خيار توافق العقائديين والبراغماتيين على حد سواء. لكن لدى إسرائيل خيارات أخرى لزيادة الرصيد السكني على الجانب الغربي من المدينة، بما في ذلك التجديد الحضري والتكثيف، وكذلك التوسع في الغابة، على الرغم من المخاوف البيئية. وبالنظر إلى تعقد هذه الاستراتيجيات التي شرعت المدينة بتطبيقها تواً، فإنه يمكن لإسرائيل الاستفادة من مساعدات من نوع مختلف: خبرة التخطيط.
بطبيعة الحال، هناك الكثيرون في إسرائيل ممن لا يقلون إصراراً على الاحتفاظ بسيادتهم في القدس الشرقية عن عزم الفلسطينيين على تأسيس سيادتهم هناك. وبالنسبة لهؤلاء، ستكون الحلول التقنية لأزمة السكن في القدس الغربية غير مرضية، مثلما سيكون أمر إنتاج هندسة مصطنعة لدولة قابلة للحياة بالنسبة للفلسطينيين. ولو كان من الممكن إنهاء الاحتلال وحل الصراع من خلال اتخاذ مثل هذه التدابير البسيطة نسبياً، لكان ذلك قد حصل الآن بالتأكيد. لكن هذا لا يعني أن خطوات عملية من هذا القبيل غير مهمة. ولأن الوضع الحالي مرشح للديمومة، سوف تحسن قوى المجتمع الدولي صنعاً إذا هي بدأت التفكير في فكرة “القابلية للحياة” هنا والآن، بدلاً من مطاردة الأفق الدبلوماسي الذي يضيق باستمرار بينما تتآكل المدينة تحت أقدام سكانها.
(فورين بوليسي) ترجمة: علاء الدين أبو زينة – الغد الاردنية.
* مدير المشروع الفلسطيني-الإسرائيلي في مجموعة الأزمات الدولية.
*نشر هذا الموضوع تحت عنوان: Jerusalem in the Here and Now