بكيت.. حتى انتهت الدموع، صليت.. حتى ذابت الشموع، ركعت.. حتى ملًنى الركوع، سألت عن محمد، فيكِ وعن يسوع يا قدس يا مدينة تفوح أنبياء يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء، يا قدس يا منارة الشرائع يا طفلة جميلة محروقة الأصابع حزينة عيناك، يا مدينة البتول يا واحة ظليلة مر بها الرسول، يا لؤلؤة الأديان من يغسل الدماء عن حجارة الجدران؟ من ينقذ الإنجيل؟ من ينقذ القرآن؟ من ينقذ الإنسان؟ يا قدس.. يا مدينتي.. لم أجد سوى كلمات نزار قباني في قصيدته الرائعة “القدس” لأعبر بها عن مشاعر الحزن والأسى المتلاحقة التي انتابتني طوال الأيام القليلة الماضية، وأنا أتابع كغيري من ملايين العرب والمسلمين حول العالم، الاعتداءات الوحشية التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي على المصلين بالمسجد الأقصى، واعتقاله العشرات من أبناء الشعب الفلسطيني.
إن استمرار مسلسل التجاوزات والاستفزازات الصهيونية على حرمة المسجد الأقصى فى شهر رمضان المبارك، تارة، بغض الطرف عن عصابات المستوطنين والمتطرفين الذين يقتحمون المسجد الأقصى، وتارة أخرى بفتح الباب على مصراعيه أمام منظمات الهيكل المزعوم المتطرفة بذبح “قرابين الفصح” في باحاته وتنفيذ اقتحامات واسعة للمسجد الأقصى بمناسبة عيد الفصح اليهودي، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أعلنت هذه المنظمات المتطرفة عن مكافأة قدرها 10 آلاف شيكل لمن ينجح من المتطرفين في ذبح قربانه داخل المسجد الأقصى.
وبالرغم من العدوان الإسرائيلي الوحشي إلا أن الشباب الفلسطينيين وقفوا صامدين شامخين يقاومون بكل ما لديهم من قوة وفي شجاعة غير مسبوقة، وهم يعرفون إنهم عرضة للقتل والاعتقال، فكل التحية والتقدير لهؤلاء الشباب الصائمين الصامدين في وجه قوى الطغيان.
إن الصمت الدولى أمام ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من عدوان، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الضمير العالمى يُصاب بالسكتة القلبية، وأن شرايين الأمم المتحدة ومجلس الأمن تتجلط، وأن منظمات حقوق الإنسان العالمية تُصاب بالخرس، عندما يتعلق الأمر بدولة من دول العالم الثالث كفلسطين، ولكن سرعان ما تنتعش ويتجدد شبابها وتتدفق الدماء فى عروقها، عندما يتعلق الأمر بدول أوروبية، مثل أوكرانيا، حيث قامت قيامة العالم بزعامة أمريكا وأوروبا، وهبطت المساعدات على الشعب الأوكراني بمختلف أنواعها، وفُتحت الحدود على مصراعيها لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين، وتبارى الجميع فى مقاطعة روسيا وفرض العقوبات الاقتصادية عليها ومحاصرتها.
وقد أثبت الواقع الدولى المرير الذى نعيشه حاليًا، أن اليد العليا للغة القوة والمصالح، وأن المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة ومجلس الأمن، مجرد أدوات فى يد أمريكا والدول الكبرى تحركها وقتما تشاء وفقا لرؤيتها وبغرض تحقيق مصالحها، وأن حقوق الإنسان التي يتشدقون بها ليل نهار ما هى إلا شعارات جوفاء لا تغنى ولا تسمن من جوع، الهدف منها التغطية والتعتيم على نواياهم الخبيثة ورغبتهم الدفينة في السطو على مقدرات الشعوب الضعيفة ونهب ثرواتها وخيراتها.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ويحتاج إلى إجابة شافية.. كيف يتحقق السلام والتعايش السلمى بين الشعوب العربية وإسرائيل؟ فى ظل ما تقوم به الأخيرة من عدوان وحشي بغيض على الشعب الفلسطينى وعلى مقدساته، وعلى المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، ألا تدرى إسرائيل أنها تلعب بالنار، وتسكب المزيد من الزيت على نار الكراهية والحقد ضدها وتؤججها، وتستفز مشاعر أكثر من مليار و700 مليون مسلم حول العالم فى هذه الأيام المباركة من شهر رمضان المعظم.
وتبقى كلمة لابد منها، إنه مهما حاولت إسرائيل، لن تتمكن من طمس هوية القدس أو تهويدها، وستبقى القدس زهرة المدائن عصية صلبة، شامخة تواجه كل أشكال الطغيان بثبات، وستبقى مهبط كل الأديان، لأنها ليست مجرد مدينة، ولكنها زهرة تسكن فى قلب كل مسلم وكل عربى، ويكفيها شرفا وعزا ورفعة ومكانة، أنها مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن “بوابة الاهرام”