الأزقة الضيقة الصغيرة في برج البراجنة، المخيم الأكثر اكتظاظاً بالسكان من بين مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الثلاثة الموجودة في العاصمة اللبنانية، تعرض ملاذاً شحيحاً من هجوم شمس منتصف الصيف الحارقة. وبعد لحظات فقط من دخول كاتب هذه السطور متاهة الممرات، انهالت امرأة شابة بصمت على الأرضية الإسمنتية المتربة، وقد أغمي عليها بسبب المزيج من الحرارة اللاهبة، وأكثر من عشر ساعات من الصوم في رمضان. ويقول أبو بلال، مرافق هذا الكاتب: “الأمر أشبه برواية غسان كنفاني ‘رجال في الشمس’”، مشيراً إلى الرواية الكلاسيكية التي صدرت في العام 1962 عن مجموعة من المهاجرين الفلسطينيين الذين يموتون بشوائهم أحياء في شاحنة صهريج بينما كانوا يحاولون تهريب أنفسهم عبر صحراء الجزيرة العربية.
يعرف أبو أحمد خبرة الهجرة. فقد خبر الرجل الذي أصبح في السابعة والسبعين من عمره الآن، والذي كان قد ولد في مدينة يافا الفلسطينية، ثلاث هجرات –من فلسطين إلى لبنان في العام 1948؛ ثم إلى سورية عند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975؛ ثم العودة إلى لبنان هذا العام هرباً من جحيم الحرب السورية. وبينما يمسح العرق عن جبينه في شقته غير مكيفة الهواء في قلب المخيم، يروي أبو أحمد كيف أنه كاد يخفق في استكمال الرحلة إلى لبنان. كانت السلطات اللبنانية ترفض منحه الإذن بالدخول عند الحدود، تماشياً مع سياسة جديدة غير معلنة، لكنها موثقة على نطاق واسع، والتي تمنع عملياً لجوء أي فلسطينيين إضافيين من سورية إلى لبنان. وكان فقط عندما أغمي على العجوز أبو أحمد أمام حرس الحدود، حين سمحوا له بالمرور، وطبقوا عليه استثناء يتعلق بالحالات الطبية الطارئة.
كان أبو أحمد واحداً من المحظوظين. ويقول أبو بلال إن أشقاءه ما يزالون عالقين في دمشق تحت تهديد القصف، وكانوا قد حاولوا الخروج، لكنهم مُنعوا من الانضمام إليه في لبنان، حتى مع أن إحدى شقيقاته متزوجة من سوري. وهذه التجربة شائعة جداً بين الفلسطينيين هذه الأيام. ويوثق تقرير صدر عن منظمة العفو الدولية “أمينستي” هذا الشهر لما يدعى “حالات الصدمة” التي تصاب بها النساء الحوامل، حتى إنه يجري فصل الأطفال عن عائلاتهم نتيجة لهذه السياسة التي وصفها التقرير بأنها “تمييزية بشكل صارخ”، والتي تتناقض مع التزامات لبنان بموجب القانون الدولي. وقد رفضت الحكومة اللبنانية الرد على جماعات حقوق الإنسان التي طلبت منها التعليق.
على الرغم من أن الفلسطينيين يشكلون ما يقارب 50.000 فقط من أصل ما يقارب 1.12 مليون لاجئ المسجلين من سورية إلى لبنان، فإن الضعف النسبي لوضعهم القانوني يجعل منهم الهدف الأكثر هشاشة أمام الحكومة اللبنانية التي التزمت رسمياً مؤخراً بالحد من أعداد سكان البلد من اللاجئين، كما يقول أبو بلال. ويضيف أبو بلال: “السوريون يستفيدون من الاتفاقات القانونية التي تسمح بحرية التنقل من وإلى لبنان، لكننا نحن بلا دولة، وليس لدينا شيء من هذا القبيل”.
يأتي هذا التغير في سياسة لبنان في وقت تضيق فيه الحكومة السورية حصارها المستمر منذ 19 شهراً على أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في سورية، “اليرموك” الواقع على مشارف العاصمة السورية، دمشق. وبعد أن أفضت التقارير التي تحدثت عن أكثر من 100 حالة وفاة بسبب الجوع في المخيم إلى السماح بوصول بعض المساعدات الإنسانية المحدودة في وقت سابق من هذا العام، تقول الأمم المتحدة الآن إنها لم تتمكن من إدخال الطعام إلى المخيم منذ شهر أيار (مايو). ويقول سكانه الذين يجري الاتصال بهم بواسطة “سكايب” أن أيام اللجوء إلى أكل أوراق الشجر وعلف الحيوانات ربما تقترب من العودة.
يقول عبد الله الخطيب، وهو واحد ممن يقدر عددهم بنحو 18.000 من السكان الذين تبقوا في المخيم، من أصل عدد سكانه الذي كان يزيد عن 160.000 قبل الحرب: “قبل شهر تقريباً، أعيد إغلاق المخيم مرة أخرى، وعدنا إلى حالة من الحصار الكامل على كافة المستويات. لا يسمح لأي طعام أو مساعدات طبية بالدخول، ولا يُسمح لأي أحد بالخروج أو الدخول، وتم قطع إمدادات الكهرباء والماء. إنها كارثة إنسانية مرة أخرى، ويتوقع أن تقع حالات أخرى من الوفاة الناجمة عن الجوع في الأيام المقبلة”.
يمثل هذا العوز إلى سبل الحياة تحولاً دراماتيكياً في حياة أناس كانوا ذات مرة شبه متساوين مع السوريين، والذين كانوا يتمتعون بمستويات معيشة أعلى بكثير من إخوانهم اللاجئين في الدول العربية الأخرى. لكن السيد الخطيب يتذكر تلك الأيام بسخرية مريرة أكثر مما يتذكرها بحنين: “لقد كنا متساوين تماماً. كان الظلم، والفساد والإخضاع والقمع هي قدر السوريين والفلسطينيين معاً”.
الغد الأردنية