تروج نظرية المؤامرة، أي تفسير العالم المحيط بنا، والسلوك فيه على أساس التآمر الغربي الدائم علينا، لدى التيارات الأكثر راديكالية في ثقافتنا العربية، سواء القومي المتآكل بشقيه الأساسيين: الناصري والبعثي، أو الوطني الزاعق المتصاعد في غير بلد عربي، أو الإسلامي/ التقليدي/ السلفي المستبطن فكرة المؤامرة الصليبية على الإسلام.
ويبدي التياران الأولان خطاباً مناوئاً للغرب ولكن من أفق سياسي، حركي، دعائي، يتشكل في أقنية التعامل الواقعي واليومي ولكنه غير قادر على تأطير موقف نظري عام من أفق حضاري شامل، كما أنه غير قادر على حفز جماهير واسعة على ذلك النحو الذي يتوافر لدى التيار الثالث الحاضن الأساسي لهذه العقدة، والمؤسس الحقيقي لعقل الإسلام السياسي، القادر على حفز جماهير واسعة تنتمي إليه وتدين له، إذ يقيم فهمه للعالم على قاعدة رؤية ثقافية ترفض الحداثة نظرياً وإن تعاملت مع وسائلها وأدواتها نفعيًا، الأمر الذي يجعل موقفه المناوئ للغرب من أفق حضاري شامل، يبرر لديه فكرة المؤامرة المطلقة.
تستند هذه التيارات الثلاثة إلى خبرات ثلاث سلبية كبرى لعلها كانت حاسمة في تعقيد العلاقة بين العالمين: العربي الإسلامي، والغربي المسيحي. تنبت الأولى من أفق تاريخي حضاري وهي الهجمة الاستعمارية على العالم العربي ما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين. والثانية من فضاء سياسي عسكري يتعلق بالهجمة الصهيونية على الأرض العربية منذ القرن الماضي وحتى الآن، والثالثة من سياق إستراتيجي كوكبي يتعلق بالنزعة التدخلية الأميركية في الجغرافيا السياسية العربية بموازاة تنامي دورها العالمي، وبالذات منذ نهاية الحرب الباردة. ورغم أن تلك الخبرات تتناثر في قرون متوالية، وتنتمي إلى أنماط مختلفة من الذكاء التاريخي، وتحركها دوافع مختلفة، إلا أنها ترتبط معاً في اللاشعور الثقافي لهذه التيارات الثلاثة عموماً، كما تضغط بقوة أكبر على الذاكرة النفسية للتيار التقليدي/ السلفي خصوصاً لتثير لديه هاجس المؤامرة الغربية الكونية.
وهنا نجد أنفسنا أمام تصورين مختلفين ولا نقول نقيضين لذلك الهاجس: أولهما ينتمي إلى التيارين القومي والوطني، المفترض قيامهما على مرجعية تحديثية أو توفيقية، لعلها كانت الحامل الموضوعي لفكر النهضة العربية قبل انتكاسته ووقوعه في أسر التلفيق والاختزال والاستبداد. وهي المرجعية التي تعتبر بالحداثة وتقبل بالغرب كأحد روافد إلهامها الثقافي، كما تعتبر أن الحضارة السائدة إنجاز إنساني كان ساهم فيه بنصيب، وإن كان الغرب يساهم فيه الآن بالنصيب الأوفر، ومن ثم فإنها تؤمن بإمكانية بل وضرورة التوفيق بين الحضارتين.
لدى هذين التيارين تبقى مقولة المؤامرة أقل من مستوى النظرية، أقرب إلى هاجس نفسي، يستخدم على سبيل التوظيف النفعي والموقوت، إذ يعترف التياران، بوطأة السياقات التاريخية المحيطة بالصراع الإستراتيجي وتحولاته الجارية على الساحة العالمية بين المناطق المختلفة، ويدركان أيضاً كيف اتخذ الغرب العديد من المواقف المشابهة ضد عوالم أخرى في أقصى الجنوب الإفريقي أو أقصى الشرق الآسيوي، بل إن هذا الغرب هو ما تقاتل مع نفسه، وانقسمت دوله إلى معسكرات دخلت في حروب دينية شرسة حول المذهب والطائفة، ثم حروب قومية علمانية حول المستعمرات والاستثمارات لقرون عدة قبل أن يكمل مسيرة حداثته، ويتجاوز ضيق أفقه الذي يشبه ما نعاني منه الآن. ورغم أن هذين التيارين لا يستطيعان الإفلات من صوت عميق يضج بالشكوى من ممارسات غربية كثيرة متحيزة ضد مصالحنا على الأرض، وضد رؤانا في العقل ربما بأكثر مما يشكو الآخرون في هذا العالم، فإنهما يرفضان القول التبسيطي بالمؤامرة الغربية على العرب وحدهم، وذلك لأن سعي الغرب إلى الهيمنة، وهو حقيقة تاريخية، لم يكن لينجح وهناك قوة كبرى في العالم خارجه حتى وإن لم تكن في الجغرافيا العربية، ومن ثم فإنهما لا يتجاهلان حقيقة التحيز الاستراتيجي الغربي ضد العالم العربي – الإسلامي، ولكنهما لا يقبلان بخطاب المؤامرة الزاعق الذي يطال من الوقائع ما يبدو تلقائياً ومباشراً وواضحاً، بل يأتي خطاب نقد الغرب هادئاً في نبرته، واقعياً في لغته، نسبياً في رؤيته، ملتحفاً بمفاهيم من قبيل (المراوغة) و(الكيل بمكيالين)… وهكذا.
وثانيهما ينتمي إلى التيار السلفي/ التقليدي الذي يحيل مقولة المؤامرة إلى ما يفوق مستوى النظرية، إذ يجعل منها رؤية تفسيرية للوجود، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهومه عن الهوية المغلقة. فطالما كان الآخر غريباً على الذات بالضرورة، يتوجب التمايز الأبدي عنه، فإن كل محاولة يبذلها هذا الآخر للتفاعل مع الذات أو التأثير فيها لابد وأن تكون عملاً معادياً، يهدف الى إيذائها والنيل منها، ومن ثم التآمر عليها. وإذ لا يسعى إلى التأثير ولا يقدر عليه سوى الأقوياء، القابعين في قلب مراكز التأثير والنفوذ العالمي، يصبح العالم الغربي المسيحي، الذي احتل موقعاً مركزياً في الجغرافيا السياسية والحضارية للعالم الحديث، هو المتآمر الأبدي. وهكذا يصير العالم الغربي، على تنوعات دوله ونظمه وثقافاته، بل وتعاركها أحياناً، كلاً مصمتاً يتم اختزاله في المسيحية.
في المقابل يصير عالمنا العربي الإسلامي كلاً مصمّتاً هو الآخر، يتم اختزال تنوعاته العرقية والجغرافية والثقافية الممتدة من الشرق الأقصى حتى الغرب الأوسط، في العقيدة الدينية، فنصير هنا وببساطة شديدة أمام عراك ديني واضح القسمات بين المسيحية والإسلام، وبالأحرى «مؤامرة غربية» كاملة على العالم الإسلامي بالذات، وبدافع وحيد جوهري (ديني) هو اقتلاع الإسلام من جذوره العربية، ولزمن أبدي يتجاوز الشروط والمراحل التاريخية، إلى حدود الأبدية والإطلاقية. بل ويمعن هذا التيار، لدى أكثر تجلياته تطرفاً، في صياغة تناقض وجودي مع الغرب الذي يلتبس لديه بصورة الشيطان التي أنتجتها المخيلة الدينية للشر المحيط بعقيدة الخلق التوحيدية، ذلك الشيطان الذي يقضي العمر كله باذلاً الجهد كله في محاولة إغواء الإنسان وجره إلى الهاوية.
ومن ثم يتحول خطاب المؤامرة لديه ليس فقط إلى نظرية سياسية، بل إلى نموذج تفسيري كامل للعالم، ومن ثم فهو يتبنى خطاباً دعائياً زاعقاً يستحضر المؤامرة ليس فقط في منطلقاته الفكرية أو تحليلاته السياسية، بل وأيضاً في مواجهة أكثر الحوادث تلقائية ومباشرة طالما صدرت عن الغرب الأورو – أميركي باعتباره الآخر الثقافي، أو إسرائيل باعتبارها الآخر الاستراتيجي.
الحياة اللندنية