عندما زار البابا بندكتوس السادس عشر الأراضي المقدسة قبل خمسة أعوام، رفعت إسرائيل وتيرة إجراءاتها الأمنية، مؤكدة بحبور على التهديد المحتمل أن يواجهه من المتطرفين الإسلاميين في إسرائيل.
وعندما وصل خلفه، البابا فرنسيس، إلى إسرائيل يوم الأحد الماضي، لم تكن الحالة الأمنية أقل صرامة وشدة. فقد تم استدعاء نحو 9000 شرطي لحمايته، وكانت المؤسسات المسيحية تحت الحماية على مدار الساعة، وعملت الأجهزة المخابراتية وقتاً إضافياً. ووفقاً لمسؤول في الفاتيكان، فقد حولت استعدادات إسرائيل “الأماكن المقدسة إلى قاعدة عسكرية”.
لكن إسرائيل كانت في هذه المناسبة أقل حرصاً على الإعلان عن مصدر مخاوفها، لأن التهديد الأكثر مادية لم يأت من الإسلاميين، وإنما جاء من المتشددين اليهود المرتبطين بالحركة الاستيطانية. وكان هؤلاء قد أصدروا في الشهر الماضي تهديداً بالموت ضد أسقف الناصرة الكاثوليكي وأتباعه، بينما شهدت الأسابيع الأخيرة رجال الدين وهم يهاجمون، والكنائس والصوامع وهي تشوه برسوم هجومية والمقابر وهي تدنس. ولطخت البناية التي كان من المقرر أن يجتمع فيها البابا الحالي مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بعبارات من قبيل “الموت للعرب وللمسيحيين”. ويوم الجمعة الماضي، كتب بدهان الرش على كنيسة في مدينة بئر السبع عبارة “المسيح ابن عاهرة”.
بالإضافة إلى ذلك، اعتقلت الشرطة الإسرائيلية عدة عشرات من المتطرفين اليهود أو أصدرت بحقهم أوامر بتقييد الحرية في الأيام القليلة الماضية. وكان بطريرك اللاتين في القدس فؤاد الطوال، قد حذر من أن “تصرفات مثل التخريب تسمم الأجواء”. وفي الحقيقة، فإن مزاج عدم التسامح قد تجاوز هامش الخطورة. وقد تظاهر مئات من اليهود الإسرائيليين بغضب في القدس ضد البابا، بينما منعت الشرطة السلطات الكاثوليكية من تعليق لافتات ترحب بالبابا وزيارته، في ما ظهر أنه خوف من احتمال أن تقدح زناد احتجاجات أعرض. ويشعر المواطنون المسيحيون المحليون في الأراضي المحتلة وفي داخل إسرائيل على حد سواء، بأنهم محاربون أكثر من أي وقت مضى -وليس بسبب المستوطنين وحسب.
في بيت لحم، توقف البابا بشكل غير مقرر مسبقاً، للصلاة أمام الجدار الإسمنتي الضخم الذي أحال مكان مولد المسيح إلى سجن للسكان الحاليين. وذُكر في مخيم مجاور للاجئين أن إسرائيل تمنع السكان من العودة إلى بيوتهم التي أصبحت راهناً في داخل إسرائيل. وقدم نتنياهو دعمه الشخصي لخطة أخفت بالكاد وراءها هدفاً لتقسيم الأقلية الفلسطينية الضخمة في داخل إسرائيل -لتأليب المسيحي ضد المسلم- عبر السعي إلى تجنيد المسيحيين في القوات الإسرائيلية.
المسيحيون الفلسطينيون
بالرغم من هذه الشعبية للبابا، فإن هناك شعورا عام بالاستياء من هذه الرحلة القصيرة التي استمرت ثلاثة أيام. والهدف الرسمي من الرحلة هو الاحتفال بالذكرى السنوية الخمسين لاجتماع عقد في القدس بين البابا بولص السادس والبطريرك أثيناغوراس، والذي أنهى 1000 عام من الشقاق بين روما وبين الكنيسة الأرثوذكسية.
وكانت الفاتيكان قد شددت على أن رحلة فرانسيس “ليست سياسية مطلقاً”. وقد أوحى مسار رحلته الذي لم يتضمن وقتاً لزيارة الجليل، حيث يوجد معظم المسيحيين الفلسطينيين، بأن من غير المرجح أن يقدم البابا السلوى لأتباعه بأكثر من الأمل العام الذي أعرب عنه في بيت لحم من أجل قيام “سلام مستقر” في المنطقة.
مسيحيو الأراضي المقدسة، كما تجدر الإشارة، أقلية تصبح أقل عدداً بازدياد. ففي داخل إسرائيل، على سبيل المثال، هبطت نسبتهم من ربع الفلسطينيين تقريباً في أوائل الخمسينيات إلى 10 في المائة فقط اليوم. كما سجل تراجع مماثل في المناطق الفلسطينية المحتلة. وبالرغم من أن إسرائيل تحيل اللوم إلى التشددية الإسلامية كسبب لهذا الاتجاه الذي طال لعقود، فإن الحقيقة ليست كذلك. وقد بينت الاستطلاعات المتكررة أن هناك أقلية ضئيلة جداً من المسيحيين، والتي تنحو باللائمة على المسلمين في هذه الهجرة.
تراجعت نسبة المسيحيين مع الوقت، جزئياً بسبب ميلهم إلى تكوين العائلات صغيرة العدد مقارنة مع المسلمين. لكن ما ينطوي على أهمية بنفس المقدار هو حقيقة سياسات إسرائيل القمعية التوأم من الاحتلال القاسي في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، ومن نظام سياسي يعطي المزايا حصراً لليهود في داخل إسرائيل.
لا يغيب عن البال أن كل الفلسطينيين، المسلمين والمسيحيين على حد سواء، تضرروا من الحكم الإسرائيلي. لكن المسيحيين يظلون أفضل في استغلال روابطهم مع المجتمعات الغربية، ما يعطيهم مروراً أسهل للخارج.
ولا يناسب أي شيء من هذا القبيل رواية إسرائيل عن وجود صدام بين العالم اليهودي –المسيحي وبين الإسلام، أو رغبتها في عرض نفسها على أنها ملاذ فريد من نوعه فيما تغوص الدول العربية المجاورة في أتون صراع طائفي. ويوم الأحد الماضي ادعى نتنياهو بأن إسرائيل هي البلد الشرق أوسطي الوحيد الذي يعرض “الحرية المطلقة لممارسة كل الأديان”.
الواقع، مع ذلك، يشير إلى إن العنف الذي يمارسه المستوطنون يغذي عدم التسامح الديني والإثني الذي تتم رعايته على العديد من الجبهات من جانب الدولة الإسرائيلية نفسها. وهو يبدأ مبكراً، حيث يتلقى أغلبية من الأولاد اليهود التعليم في مدارس دينية تزدري المنهاج الحديث. بل انهم يحفرون في أذهان التلاميذ تفسيرات حرفية للإنجيل تشجع الشوفينية اليهودية.
يرفض برنامج إسرائيل في تعليم الهولوكوست (المحرقة) الدروس العالمية، ويفضل تغذية شعور اليهود بأنهم الضحايا الأبديون للتاريخ. وفي الأثناء، يعتقد العديد من الإسرائيليين بأنه يتوجب عليهم أن يكونوا دائما حذرين -ومسلحين- في وجه عالم من غير اليهود المعادين للسامية. وقد أصبح العديد من الحاخامات المتشددين الأرثوذوكس، الذين يتمتعون بالسيطرة على مناطق ضخمة من الحياة الإسرائيلية، المحكمين الوحيدين للقيم الأخلاقية للعديد من الإسرائيليين. كما صممت جهود الحكومة الأحدث لتمرير تشريع يؤكد أن إسرائيل هي “الدولة القومية للشعب اليهودي” للقضاء على أي أمل لمستقبل متعدد الثقافات.
أخيراً، تستغل إسرائيل عقوداً من حكمها للفلسطينيين لاستثمار رمزية دينية يهودية أكبر في أماكن مقدسة مشتركة أو خاضعة للتنافس، وعلى نحو ملحوظ أكثر ما يكون في الحرم القدسي الشريف الذي يضم المسجد الأقصى المبارك. وسوف نرى الصراع على المناطق وهو يكسب بالتدريج سمات الحرب الدينية.
يفهم قادة الكنائس المحليون هذا جيداً. ففي التحضير لزيارة البابا، سأل الطوال بوضوح ولغاية: “ما الأثر الذي يخلقه خطاب رسمي عن كون إسرائيل دولة لمجموعة واحدة فقط؟” وكان البابا قد أشار في الأردن يوم السبت الماضي إلى إن الحرية الدينية هي “حق إنساني أساسي”. وتلك بالتأكيد رسالة كان القادة الإسرائيليون في حاجة إلى سماعها عندما يلتقون البابا.
إن زيارة بابوية تنحّي السياسة جانباً لتركز على الدين وحسب، بحيث ترفع المواقع المقدسة فوق الناس الذين يعيشون في جوارها -إنما تخيب أمل الطائفة المسيحية التي تمس حاجتها لكل المساعدات التي تستطيع الحصول عليها فيما هي تقاتل من أجل استمرار بقائها في الأرض المقدسة.
(ميدل إيست أونلاين)
*صحفي فائز بجائزة مارثا غيلهورن الخاصة للصحافة. كتبه الأحدث هي “إسرائيل وصدام الحضارات: العراق وإيران والخطة لإعادة صنع الشرق الأوسط” (مطبعة بلوتو). و”فلسطين المتلاشية: تجارب إسرائيل في البؤس الإنساني”. (كتب زد).