بقلم خليل النعيمي: الترجمة ليست إبداعاً، وإنما استعارة.
هي ليست عملاً مبدئياً في الأدب، بل فعل لاحق، أو نشاط ثانوي إذا أردنا الدقة. هي لحظة استهلاك، إذن، قبل أن تكون إنتاجاً. إنها نوع من السفر في الأدب، بعد أن كانت الكتابة إقامة فيه.
نحن نترجم، إذن، لأننا نريد أن نرى. أن نرى بعيون الآخرين الذين استطاعوا أن يمعنوا النظر فيما لم نرَ نحن منه شيئاً. من وجهة النظر هذه، الترجمة هي الاختلاف الذي يجمع الفاتر، نحن، بالباهِر، الكاتب الموهوب. إنها ثلاثية الأبعاد، تجمع مَنْ يعلم، بمن لا يعلم، بواسطة إرادة التعلّم. وهو شأن خطير. لأن مَنْ يعلم أكثر منا يتسلّط علينا بمعرفته. وهذا «التسلّط الفاضل» هو الذي سينقلنا من طور إلى آخر، نكون فيه أقلّ سذاجة وأكثر علماً. وهي في النهاية تلاقح ثقافيّ، ومعرفيّ جدير بالاهتمام، حتى لا نبسّط الأمور أكثر مما هي مبسّطة.
لكن الترجمة في ثقافتنا الراهنة، أو الرغبة فيها، صارت نوعاً من الاستلاب الثقافي المعمم. حتى أننا يمكن أن نقول بلا خوف من الخطأ إن الكاتب العربي المعاصر يكتب صامتاً، لكنه يصرخ في أعماقه: «ترجموني، ترجموني»! كما كتبت سلوى النعيمي، ذات يوم. وبفعل هذه الاستماتة من أجل ترجمة مرغوبة بشدة إلى لغات الغرب بشكل خاص، ولا ننسى أنها لغات الاستعمار القديم الذي لا يزال حاضراً بقوة، صارت الترجمة تناقلاً بدلاً من أن تكون تفاعلاً.
وهو ما فرّغ الكتاب العربي المترجم من جوهره، ووضعه في أدنى المستويات مبيعاً ومقروئية. ويكاد لا يشذّ أحد منا عن هذه القاعدة المؤلمة اليوم، إلاّ في حالات نادرة جداً، سنذكرها فيما بعد.
الترجمة ليست إشهاراً شكلياً، وإنما هي حمّالة معارف وإشكاليات. ومن وجهة النظر هذه لا يجدي استجداؤها، ولا الجري وراءها، لأي سبب كان. لأن مبررها الوحيد كون الإبداع أصيلاً يفوق بثرائه ولمُوحاته ماعداه.
وهي مسألة فردية بحتة، على العكس من تصوّر المؤسسات الثقافية في العالم العربي التي تريد أن تزجّ بجحافل من الكتاب في معركة ترجمة معممة خاسرة سلفاً، رغم أنها مدفوعة الأجر، ومحتفى بها بشكل لا علاقة له بالأدب.
لكأن هذه المؤسسات الثقافية ذات الإمكانيات المادية الباذخة تجهل أن الإبداع، ونقله إلى لغات العالم الحية، «هي أشياء لا تُشترى» كما يقول الشاعر أمل دنقل.
الفرد المبدع هو الذي يستحق الترجمة إلى لغات العالم، وهو في هذه الحال غني عن المؤسسات المتسلبطة، التي تريد أن تستوعبه وتحتويه، أيا كان حسن النية التي تدعيه.
والشعور القومي الثقافي المتضخّم في الثقافة العربية يناقض جذرياً حالة الإبداع الصامتة بالضرورة لأنها تبدع بتأملها وحصافتها، وليس بضجيجها الفارغ.
وفي الغرب الذي نطمح بالترجمة إلى لغاته، ليس ثمة شعور قومي للإبداع، وإنما اعتراف أخلاقي بدور الكُتّاب الذين أغنوا الإنسانية بتساؤلاتهم وشُكوكهم واكتشاف أوهامهم، وليس بدافع شعور قومي، سيكون، بالضرورة، سلطوياً مهما كان القناع الذي يتستّر به.
وفي النهاية، فشل المشروع العربي للترجمة في أحد وجوهه يعود إلى كونه «مشروعاً أعرج». نحن نعرف أن الثقافة الأدبية العربية معزولة عن الثقافة العلمية. ففي كل البلاد العربية، باستثناء سوريا، تُدرّس العلوم باللغات الأجنبية بحجج واهية جداً وكاذبة كما تأكدنا منها بالتجربة في الغرب نفسه.
نصف المعرفة إذن لا وجود لها باللغة العربية في جامعاتنا ولا في مدارسنا العليا. الكاتب العربي إذن مسجون في بيت من غرفة واحدة لا منفذ فيها، هي غرفة اللغة الأدبية الضحلة مهما كانت الصيغ اللامعة التي يلجأ إليها.
وهي بالضرورة لغة عرجاء، فقيرة، ومعزولة، وتتضاءل يوماً بعد يوم، حتى لتكاد تكون مهملة. وما التزاحم الفج والقبيح اليوم على إنتاج أدب لا علاقة له في أغلبه بمفهوم الأدب، إلا نتيجة لهذا الكسر الثقافي العربي العميق.
ولا ننسى أن العالم العربي هو الوحيد على وجه الأرض الذي تسود فيه مثل هذه العزلة اللغوية المخيفة بين الآداب والعلوم، والذي يلهث، مع ذلك، من أجل ترجمة المكتوب بلغته إلى لغات العالم الحية، عبثاً.
____________________________
•مداخلة قدمها النعيمي في ندوة “ترجمة الرواية العربية .. السؤال الجمالي والنقدي”، ضمن فعاليات ملتقى فلسطين الثاني للرواية العربية.