يعاني المشروع الوطني الفلسطيني حالة من الانسداد وفقدان الاتجاه، تجلت بشكل سلبي في قدرته على العمل، وفي قدرته على الاستفادة من الفرص المتاحة، وفي قدرته على الاستفادة من الإمكانات الهائلة المذخورة في الشعب الفلسطيني وفي الأمة العربية والإسلامية. وفي الوقت الراهن، هناك انسداد في مسار التسوية السلمية الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح. وهناك تعطل في مسار المقاومة المسلحة الذي تبنته حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي. وهناك تعثر في مسار المصالحة الفلسطينية الذي وقعت عليه القوى والفصائل الفلسطينية.
وتعاني منظمة التحرير غياب مؤسساتها وتراجع دورها، كما تعاني السلطة الفلسطينية انقساماً إلى سلطتين في الضفة الغربية وقطاع غزة، والهيمنة الإسلامية في الضفة والحصار الإسرائيلي في غزة، علاوة على أزماتها المالية، ووجود حالة إحباط واسعة في الشارع الفلسطيني جراء أداء القيادات السياسية الفلسطينية، فضلاً عن ضعف التفاعل مع التغيرات في العالم العربي، وعدم الاستفادة منها على النحو المطلوب.
يجادل البعض بمرارة ساخرة: وهل لدينا مشروع وطني أصلاً؟! وعلى أي أساس يمكن أن يصبح المشروع الوطني «وطنياً»؟! وهل يمكن أن يكون التنازل عن معظم فلسطين للصهيونيين عملاً وطنياً أو جزءاً من برنامج وطني؟ وما هي الخطوط الحمراء والثوابت الوطنية التي لا يمكن تجاوزها في المشروع الوطني، والتي يُعد اختراقها ضرباً من الخيانة أو سلوكاً غير وطني ومعادياً لمصالح الشعب الفلسطيني؟ وكيف يمكن التفريق بين ما هو «خيانة» وبين ما هو مجرد «وجهة نظر»، إذا كانت الثوابت نفسها محل نقاش واجتهاد؟!
ما هي الأزمة؟
أزمة المشروع الوطني ليست أزمة جديدة، فمنذ أيام الاحتلال البريطاني كان هناك صراع بين الحسينية والنشاشيبية، وهو ـ وإن اتخذ شكلاً عائلياً ـ يحمل مضامين مرتبطة بطرق العمل الوطني وبشكل العلاقة بالاحتلال البريطاني، وبالبيئة الإقليمية، وأولويات اللجوء لأساليب المقاومة والعمل السياسي السلمي. كما ظهرت الأزمة عندما نشأت منظمة التحرير بقيادة أحمد الشقيري في وسط مقاطعة بعض الفصائل الفدائية الفلسطينية وتحفظ حركة فتح التي رأت في إنشاء المنظمة محاولة للهيمنة الرسمية العربية على العمل الوطني الفلسطيني.
أين تكمن الأزمة الحالية للمشروع الوطني الفلسطيني إذاً ولا سيما أن ليس هناك عامل واحد لهذه الأزمة؟ هل هي أزمة الهوية والإيديولوجيا حيث تتنازع التيارات الإسلامية والقومية واليسارية والليبرالية؟ لعل ذلك سبب مهم، خصوصاً عندما يتعلق الخلاف بقضية مرتبطة بثوابت دينية حيث ترفض التيارات الإسلامية الاعتراف بـ«إسرائيل» أو بالتنازل عن أي جزء من فلسطين، بينما تربط تيارات أخرى الأمر بالاعتبارات الواقعية وبالمصلحة والتكتيك والعمل المرحلي.
وينطبق ذلك مثلاً على التعامل مع شروط اللجنة الرباعية الدولية التي وُضعت بعد فوز «حماس» في انتـــخابات المجلس التشريعي الفلسطيني سنة 2006، والتي كـــان في مقدمها شرط الاعتراف بـ«إسرائيل». وقد أدى رفض «حمـــاس» لهذا الشرط وغيره إلى فرض حصار قاس على «حماس» وحكومتها وعلى الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع قادته أميركا والدول الغربية، كما أدى وما زال يؤدي إلى نزاع بين «فتح» و«حماس» على طريقة التعامل مع شروط الرباعية، والتطبيقات المرتبطة بذلك في إدارة السلطة الفلسطينية.
الكرامة المهدورة
هل هي أزمة تحديد الأولويات والمسارات؟ لعل هذا سبب آخر لأزمة المشروع الوطني الفلسطيني، إذ يبرز الخلاف عادة على ما يلي: هل إن الأولوية لمسار المقاومة المسلحة أم لمسار التسوية السلمية أم للمقاومة المدنية؟ وهل الأولوية يجب أن تُعطى لتأليف حكومة الوحدة الوطنية وإجراء الانتخابات، أم لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وتفعيلها، أم لإصلاح الأجهزة الأمنية، أم للبرامج الاقتصادية، أم لرفع الحصار وإعادة الإعمار، أم لتحقيق الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، أم لقضية اللاجئين، أم لمواجهة برامج التهويد، خصوصاً في القدس؟ وكيف يمكن التعامل مع القضايا السابقة بما تستحقه من اهتمام، وكيف يمكن تحديد الوزن النوعي لكل قضية، وعلى أي أساس يتم تقديم أو تأخير أي من هذه القضايا، وما هي القضايا التي يمكن الانشغال بها في وقت واحد؟!
من جهة ثانية، هل هي أزمة العمل المؤسسي، وأزمة انعدام وجود مظلة مؤسسية واحدة للعمل الوطـــني الفلــسطيني؟ هذا جزء أساسي من الأزمة، إذ إن هناك فصيلاً فلسطيـــنياً واحداً تقريباً هو «فتح»، يتولى إدارة منظمة التحرير الفلسطينية منذ نحو 44 عاماً، بينما لم تدخل حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي» اللتان تمثلان قطاعات واسعة من الـــشعب الفلسطيني في عضوية المنظمة، مع غياب لتمثيل كثير من الفاعليات الشعبية والرموز والمستقلين. وبالتالي ما عادت المنظمة تعبر عن مجموع الشعب الفلسطيني، وليس هناك الآن بيت فلسطيني واحد يجـــمع الفلســـطينيين كلهم، يتدارسون فيه أوضاعهم، ويضـــعون فيه برنامجهم الوطني والسياسي، ويحددون من خلاله أولويـــاتهم وبرامجهم.
تغوّل السلطة وتضاؤل المنظمة
تعطلت دوائر منظمة التحرير ومؤسساتها وفقدت فعاليتها، وتضاءل حضورها مع «تغوّل» السلطة الفلسطينية عليها. ولم يعقد المجلس الوطني الفلسطيني جلسة حقيقية منذ سنة 1991، ولم يتم تجديد انتخاب أعضائه بشكل سليم منذ سنوات طويلة. إن حركة «فتح» تتحمل مسؤولية تاريخية تجاه ما حدث لمنظمة التحرير، كما تتحمل مسؤولية تاريخية في وجوب المسارعة إلى فتح أبواب المنظمة ليتم إعادة بنائها وتفعيلها على أسس جديدة.
من جهة رابعة فإن التأثير الخارجي الإقليمي والإسرائيلي والدولي ما زال لاعباً مؤثراً في صناعة القرار الفلسطيني، وما زالت مواقفه تنعكس بدرجات متفاوتة على أزمة المشروع الوطني الفلسطيني. إذ لا يخفى دور مصر وسوريا والأردن والسعودية في صنع القرار الفلسطيني. وتلعب مصر عادة دوراً أساسياً في إعطاء الغطاء للقيادة الفلسطينية، وفي ترتيبات البيت الفلسطيني. وقد كانت وراء إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، فضلاً عن الغطاء الذي وفرته لمسار التسوية السلمية لقيادة المنظمة، كما كانت مسؤولة (قبل ثورة 25 يناير 2011) عن طريقة التعامل مع «حماس»، ومحاولة عزلها وإضعافها وإفشالها. وفي المقابل فإن سوريا (قبل الثورة التي تشهدها حالياً)، شكلت حاضنة لـ«حماس» وقوى المقاومة، وكان لذلك تأثيره في مواجهة ما يسمى محور الاعتدال.
وتتحمل الدول العربية، وخصوصاً دول الطوق، مسؤولية تاريخية في تعميق أزمة المشروع الوطني الفلسطيني بسبب تضييقها أو منعها العمل المقاوم، والنشاط السياسي والشعبي الفلسطيني، وعدم قدرة الشعب الفلسطيني على تنظيم نفسه بحرية في تلك الدول، وتعطيل عقد الانتخابات أو المجالس الوطنية الفلسطينية وعدم السماح بذلك أو بعضه إلا بأثمان سياسية باهظة.
أما من الناحية الإسرائيلية، فإن دخول منظمة التحرير (ومن ثم السلطة الفلسطينية) في «عصر أوسلو» وما نتج عنه من ترتيبات على الأرض، جعل الجانب الإسرائيلي «الحاضر الغائب» في كثير من الأحيان في صناعة القرار لدى قيادة المنظمة وقيادة السلطة. إذ إن اتفاقية أوسلو أدت إلى انتقال قيادات «المقاومة» للإقامة تحت الاحتلال الإسرائيلي في الضفة والقطاع، وألزمت المنظمة عدم اللجوء إلى المقاومة المسلحة، وإقامة سلطة وطنية يتحكم الإسرائيليون في مدخلاتها ومخرجاتها، وفي وارداتها وصادراتها، وتحويل أموالها وانتقال أفرادها وقياداتها. وهذا ما منح الإسرائيليين فرصاً واسعة لاستخدام أدوات ضغط هائلة على القيادة الفلسطينية وعلى الشعب الفلسطيني من خلال تعطيل مؤسساته واعتقال قياداته وخنقه اقتصادياً وتدمير البنى التحتية، بحيث أصبح السلوك الإسرائيلي المحتمل محدداً أساسياً في نقاشات ومفاوضات المصالحة الفلسطينية وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني.
الأثر الأميركي
بالتأكيد، فإن الموقف الغربي وخصوصاً الأميركي له تأثيره الذي لا يستهان به في المسار الفلسطيني، إذ إن الدعم الأميركي المطلق لـ«إسرائيل» وتوفير الغطاء الدائم لاحتلالها وانتهاكاتها وممارساتها ضد الشعب الفلسطيني، وكذلك التدخل لفرض شروط اللجنة الرباعية على القوى الوطنية الفلسطينية بما في ذلك الاعتراف بـ«إسرائيل» شكل تدخلاً سافراً ومحاولة لتحديد تصورات الشعب الفلسطيني ومواقفه. وقد ساهم السلوك الأميركي المتحيز في إفشال مسار التسوية السلمية، وفي انسداد أي آفاق لتحصيل الحقوق الفلسطينية أو بعضها من خلال مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، وساهم أيضاً في إدخال المشروع السلمي الذي تحمله القيادة الفلسطينية الحالية في أزمة حقيقية.
وكان جزء أساسي من نقاشات المصالحة الفلسطينية منصباً على طريقة تكييف تأليف الحكومة الفلسطينية بما يتواءم وشروط الرباعية و«الفيتوات» الأميركية والإسرائيلية المحتملة، وهو ما ينطبق أيضاً على إجراء الانتخابات وعلى إصلاح الأجهزة الأمنية وغيرها.
ولعل هناك سبباً خامساً له أبعاد ثقافية حضارية مرتبطاً بحالة التخلف وبأمراض المجتمع الفلسطيني، خصوصاً تلك المتعلقة بفن إدارة الاختلاف وبالتداول السلمي للسلطة، وبفن التعايش والالتقاء على القواسم المشتركة، والبعد عن الأنانية الفردية والحزبية، ونزعات السيطرة والاستئثار، وتغليب الشك وسوء الظن والمكايدة السياسية على برامج بناء الثقة والعمل المشترك.
مستوطن وصاحب الأرض
من ناحية سادسة فإن هناك بُعداً تاريخياً للأزمة، إذ تكرست من خلال العلاقات الفصائلية وخصوصاً بين «فتح» و«حماس»، وطوال ربع قرن، أزمة ثقة كبيرة. فمن لغة الاتهام القاسية بين الطرفين بالفشل والعمالة، إلى حملات المطاردة الأمنية والاعتقالات والإقصاء التي قامت بها السلطة خلال الفترة 1994 ـ 2000 التي كانت ترى في عمليات المقاومة تعطيلاً لمسار التسوية المؤدي إلى تحقيق حلم الدولة الفلسطينية، إلى محاولات الإفشال والإسقاط والتعطيل ونزع الصلاحيات التي قامت بها قيادة السلطة في مواجهة المجلس التشريعي الذي فازت «حماس» بأغلبيته، وفي مواجهة الحكومة التي شكلتها «حماس»، إلى حالة الانقسام التي نتجت عن سيطرة «حماس» بالقوة العسكرية على قطاع غزة، إلى الإجراءات الأمنية المتبادلة التي قام بها الطرفان لضمان سيطرتيهما، مع بلوغ التنسيق الأمني بين السلطة في رام الله وبين الطرف الإسرائيلي والأميركي حدوداً قصوى، في السعي لاجتثاث العمل المقاوم، وتفكيك البنية التنظيمية لتيار الإسلام السياسي في الضفة. كما كان للانفلات الأمني وسيل الدماء بين الطرفين أثره في تعزيز انعدام الثقة بينهما.
لا يخلو الأمر ـ من ناحية سابعة ـ من أزمة في القيادة الفلسطينية، التي لم ترقَ إلى مستوى تطلعات شعبها إليها، والتي وقعت بدرجات متفاوتة في مسالك الإدارة الدكتاتورية الفردية، والحسابات الشخصية، وإضعاف العمل المؤسسي التنفيذي، وعدم احترام السلطات التشريعية، والسلوك الزبائني الأبوي، والمكايدات الحزبية الرخيصة، والانتهازية السياسية، والفساد المالي، وعدم القدرة على توظيف الطاقات الهائلة والأدمغة المذخورة في الشعب الفلسطيني، والفشل في إدارة الاختلاف السياسي… وغيرها.
الربيع العربي والأمل الفلسطيني
ثامناً وأخيراً، لعل حالة التشتت والتشرذم الجغرافي التي يعانيها الشعب الفلسطيني، أسهمت في تعقيد القدرة على الاجتماع والتفاهم وصناعة القرار. إذ لا يجمع الفلسطينيين مكان واحد، ولا يحكمهم نظام سياسي واحد. وتختلف ظروفهم من وجود نحو مليونين و600 ألف في الضفة الغربية تحت الاحتلال، ووجود نحو مليون و600 ألف في قطاع غزة تحت الحصار الإسرائيلي، ووجود نحو مليون و300 ألف في فلسطين المحتلة سنة 1948، ووجود نحو ثلاثة ملايين و400 ألف في الأردن، ونصف مليون في سوريا، و430 ألفاً في لبنان، ونصف مليون في السعودية، وربع مليون في أوروبا، وربع مليون في أميركا… إلخ.
وعلى الرغم من تطلع الشعب الفلسطيني كله إلى تحرير فلسطين وتحقيق حلمه في العودة والاستقلال، فإن بيئات الحياة وظروف الحكم المختلفة أثرت في ثقافة الفلسطينيين وطريقة تناولهم وفهمهم للأمور.
إن المشروع الوطني الفلسطيني يواجه أزمة حقيقية. ولعل حالة الانتفاضات والتغيير التي يشهدها العالم العربي تعطي أملاً بإمكان حدوث تغيير إيجابي حقيقي في الوسط الفلسطيني. غير أن المدخل الحقيقي لمشروع وطني جــــاد هو إصلاح البيت الداخلي الفلــــسطيني، تــــحت مظـــــلة فلسطينية واحدة (م. ت. ف.) تتســـع للجميع، وتستفيد من طاقات الجميع، وبناء على ميثاق وطني جامع، وعلى برنامج سياسي متوافق مع الثوابت، تنفذه قيادة وطنية منتخبة، تلتزم أولويات العمل الوطني، بعيداً عن الضغوط والحسابات الخارجية.
محسن صالح– السفير اللبنانية.
المدير العام لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ـ بيروت.