تعزز عمليات الاغتيال التي ينفذها العدو الإسرائيلي مؤخراً في المنطقة فكرة العسكرة المتصاعدة للمنطقة برمتها، بما يخدم مصالح كلٍّ من تل أبيب وواشنطن بلا شك، لكن القراءة واسعة المنظور لهذه العمليات تشير إلى ما هو أخطر من “عمليات موضعية” تهدف إلى تخفيف ضغط الفشل العسكري عن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنامين نتنياهو، أو خلط الأوراق الذي يستغل الفترة الحساسة قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
الأمر يتعدى ذلك كله –على أهميته– إلى فكرة عادت لتطفو على السطح مؤخراً، واسمها الفعلي “الناتو الشرق أوسطي”. فكرة طرحتها الولايات المتحدة قبل سنوات عديدة، أثناء موجة التطبيع العربي التي قادها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في العام 2020، واستمر بالعمل عليها سرَّاً الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن، من خلال اجتماع سرِّي عُقد في شرم الشيخ المصرية خلال آذار/ مارس 2022، وضم مسؤولين عسكريين أمريكيين وإسرائيليين وأردنيين ومصريين وخليجيين، لتنسيق المواقف والتحركات عسكرياً، وربما كان هذا الاجتماع النواة الأولى الفعلية للفكرة المشؤومة.
غاب الطرح لسنتين، ليعود إلى الظهور بقوة على لسان نتنياهو نفسه أمام الكونغرس الأمريكي، وترى روسيا وهي المعنية كثيراً بهذا الطرح أنه تم بإيعاز من القيادة الأميركية، ولمصالح انتخابية، وربما أبعد. الكرملين على لسان المتحدث باسمه ديمتري بيسكوف وصف الطرح بأنه “آلية دعائية” لا يحتاجها الشرق الأوسط، فيما وصفه الخبير السياسي الروسي ماكسيم غاروف بـ “المغامرة اليائسة” التي انخرط فيها نتنياهو، لكنه رأى أنه لن يتمَّ تنفيذها.
الانزعاج الروسي له العديد من المبررات، ربما يشكل اسم التحالف الجديد أحدها. مسمى “الناتو” يخلق أزمة في الوعي الروسي نظراً لتاريخ العلاقة المتوترة بين موسكو وحلف شمال الأطلسي، والتي تتمظهر في أعلى صورها من خلال العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، كرد روسي عسكري حازم على تمدد “الناتو” نحو الحدود الروسية، فما بالك بتمدد هذا الحلف منذ وقت طويل إلى المناطق الحيوية لروسيا في الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، وشرعنة هذا التمدد بمسمى من نوع “ناتو” شرق أوسطي.
التحالف المتين بين موسكو وطهران سبب آخر للانزعاج الروسي، موقف إيران من مجمل القضايا العالمية يميل بشكل واضح لا لبس فيه إلى المعسكر الشرقي، ويعادي بوضوح أيضاً كل مصالح الولايات المتحدة التخريبية في المنطقة، وهو ما ترى فيه روسيا موقفاً يجب أن يُحسب حسابه من دولة إقليلمة ذات وزن في المنطقة، وبالتالي فإن استهدافها بهذا الشكل العلني غير مرحَّب به من قبل موسكو.
تغضب موسكو أيضاً من تجاهل تل أبيب المتعمد لجهود روسيا في حل الصراع في الشرق الأوسط، وما بيان مجلس الدوما الروسي الذي يدين قرار الكنسيت الإسرائيلي الرافض لحل الدولتين إلا أحد مفردات هذا الانزعاج. فموسكو التي دخلت على خط المصالحة الوطنية الفلسطينية بقوة عبر اجتماعات الفصائل الفلسطينية فيها، ترى أن تغير معطيات القوة في العالم، والتحول نحو عالم متعدد الأقطاب، يجب أن ينعكس على دورها في حل أطول وأقسى صراع في التاريخ، القضية الفلسطينية، لكن هذا الدور الذي كفلته يوماً الأمم المتحدة عن طريق “اللجنة الرباعية الدولية”، تتجاهله “إسرائيل” يومياً.
تسترجع موسكو في نقدها لمشروع “الناتو الشرق أوسطي” انغماس إسرائيل في الحرب على غزة دون أن تتمكن من الخروج من الرمال المتحركة هناك بأي إنجاز يُذكر. يقول مسؤولون روس بوضوح: “فلتخرج تل أبيب من ورطتها في غزة قبل أن تفكر باستراتيجيات عالمية”، لكن الأمر يبدو إنقاذياً لتل أبيب هذه المرة أكثر من كونه رفاهية استراتيجية. الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة التي تنذر بتوسيع دائرة الحرب في المنطقة توحي بأن “إسرائيل” إما حصلت على تأكيدات معينة بشأن التزام قوى في المنطقة بفكرة التحالف العسكري مع تل أبيب، وإما تريد وضع الجميع تحت الأمر الواقع، وبالتالي أن يحسم الجميع في المنطقة والعالم خياراتهم تحت النار.
وفي كلا الحالتين، فإن الضوء الأخضر أو غض النظر الأمريكي هو “بيضة القبان”، بالنظر إلى أن المفردات المطروحة للتحالف الجديد (الأمنية والسياسية والاستخبارية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية إلى جانب العسكرية) لا يمكن أن تتم إلا تحت غطاء أمريكي مباشر. وهذا كفيل بأن يؤجج الغضب الروسي أكثر فأكثر. ويبقى أن تقول لنا الأيام ما الذي ستقوم به موسكو فعلياً لترجمة غضبها من هذا التهديد الاستراتيجي لأمن المنطقة وأمنها المباشر.