ثلاثة وسبعون عاما، هي عمر حلف الناتو، أمضى منها 40 عاما وهو يعتبر الاتحاد السوفييتي العدو والخطر والتهديد. ومنذ سقوط جدار برلين عام 1989، وتفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، وانتهاء حلف وارسو، والناتو يبحث عن عدو دسم ليبرر وجوده واستمراره، ويبرر ميزانياته الهائلة، فطرح منظرو الغرب نظرية “الصراع الحضاري”، و”الاسلاموفوبيا”، الى ان جاءتهم الفرصة الثمينة، الحرب في أوكرانيا، لتنعش الناتو من جديد وتنعش ميزانياته أكثر مما كان يحلم بيروقراطيو الحلف.
في مؤتمره الذي عقده الناتو في مدريد الأسبوع الماضي، أعاد الحلف عقارب الزمن الى الوراء، وأعاد انتاج العدو الشرقي القديم، وأعلن بصوت مرتفع، أن روسيا الاتحادية هي التهديد. وبعملية التفافية هدفها تحييد الصين إن أمكن ومؤقتا، قال الحلف ان هذه الأخيرة لا تمثل خصما.
في السنوات التي سبقت الحرب الأوكرانية، كان الحلف يمر في مرحلة تآكل، لدرجة أن الرئيس الفرنسي ماكرون قد وصف حال الناتو بأنه في “حالة موت سريري”. من جهته الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب كان يبتز الأوروبيين بالحلف ويهدد بالانسحاب منه قائلا، ان واشنطن لن تحمي الأوروبيين بعد اليوم على نفقتها، وعليهم أن يدفعوا لبلاده مقابل حمايتها لهم. وخلال ذلك كانت اوروبا تقوم بعملية استيعاب وهضم لروسيا عبر مشروعات اقتصادية عملاقة في الغاز والنفط، وإقامة علاقات سلسلة عبر المؤسسات الأوروبية، وفي طليعتها مجلس اوروبا.
القارة العجوز الذي أصابها الكسل العسكري، واعتمدت لعقود طويلة على الردع النووي ومنظومات الصواريخ الأميركية بأنواعه، تنتفض اليوم وتخصص ميزانيات ضخمة للتسلح، وتنخرط بحماس أكبر في الناتو. ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، نقرأ ونسمع كل يوم عن مليارات الدولارات تدفع إما ثمنا لأسلحة ترسل إلى كييف أو لاعادة بناء جيوش الدول الأوروبية، وخاصة المانيا، التي بدأت تتحدث عن مسؤوليتها في الدفاع عن حليفاتها الأوروبيات.
حلف الناتو، الذي تأسس عام 1949 على وقع اشتعال الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي، والرأسمالي الغربي بزعامة الولايات المتحدة، وتغذى ونما الناتو على فكرة الخطر السوفييتي، ولاحقا على نظرية صامويل هنتنغتون صراع أو صدام الحضارات، هذا الحلف، بدأ بـ 12 دولة تحت شعار “الكل للواحد والواحد للكل” فهو اليوم يضم 32 دولة بعد انضمام فنلندا والسويد له مؤخرا (سيصبح هذاالضم رسميا يوم الثلاثاء القادم). ومن أبرز محطات تطور الناتو عام 1955 عندما انضمت المانيا الغربية للحلف ورد المعسكر الاشتراكي في حينه بتأسيس حلف وارسو، وبعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي، انضمت عدة دول من شرق ووسط اوروبا للناتو، ومع تفكك يوغسلافيا في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين التحقت كرواتيا والبوسنة والجبل الأسود بالحلف.
دون شك ان الناتو يمثل من وجهة نظر واشنطن ضرورة اسراتيجية لنظام دولي تتزعمه الولايات المتحدة منفردة، كما اثبتت التجارب، انه يمثل حاجة أمنية لأوروبا. ولكن الأهم هي شبكة المصالح الكبيرة المستفيدة من وجود الحلف وابقائه على قيد الحياة، خاصة شركات الأسلحة الكبرى، ويكفي ان نتخيل خطط الناتو وكم يقابلها من صفقات أسلحة، ويكفي أن نراقب الفوائد الهائلة التي جنتها هذه الشركات في الأشهر الأربعة الأخيرة، أي منذا اندلاع الحرب الاوكرانية، فكل يوم نسمع عن ارساليات أسلحة بالمليارات لكييف، فبالاضافة إلى مئات المليارات التي بدأت العديد من الدول الأوروبية ترصدها لتحديث جيوشها وتسليحها بأحدث الأسلحة.
في المقابل فإن الناس العاديين في كل دول العالم دون استثناء تحت وطأة ارتفاع الأسعار، وارتفاع الضرائب، فالمواطن، وخاصة في الدول الفقيرة يدفع أكثر من غيره، ودون أن يشعر مباشرة، تكلفة تسليح الكبار لجيوشهم وخوض حروبهم، فهو مضطر لشراء بضائعهم بالأسعار التي يفرضونها عليه. ومن يتوقع الفرج القريب سيكون واهما، فالتاريخ هو عبارة عن حروب تتخللها هدن وفترات قليلة من السلام، كما لا يتوقع ان تنتهي الحرب في أوكرانيا بهذه السرعة، بل على العكس، هي مرشحة ان تستمر لسنوات، كما يخبرنا الخبراء الاستراتيجيون، وتستمر معها المعاناة، ويستمر نهم شركات الأسلحة وتجار الحروب.