غزة – “الأناضول”: في مراكز النزوح جنوب قطاع غزة، تفتقد النساء خصوصيتهن وسط معاناة “قاسية” يواجهنها في توفير أدنى مقومات الحياة.
ومراكز النزوح تكون في العادة مدارس ومؤسسات تتبع لوكالة الغوث “الأونروا”، وهي تعاني من اكتظاظ شديد يفوق طاقة استيعابها، بسبب نزوح المواطنين إليها من الشمال والجنوب، ما يحول دون قدرة النساء على استخدام دورات المياه، أو النوم وحدهن داخل غرف خاصة.
إلى جانب ذلك، فإن استمرار إغلاق معبر كرم أبو سالم التجاري، أعاق دخول المستلزمات الصحية النسوية، ما تصفه المواطنات بـ”الكارثي”، والذي يتزامن مع غياب المياه اللازمة للنظافة والاستحمام، وحتى للشرب.
كما تمارس النساء في ظل هذه الحرب أعمالاً لا تتناسب مع طبيعتهن الجسدية، مثل تقطيع الحطب لطهي الطعام، والجلوس أمام النيران التي ينبعث منها دخان احتراق الخشب والأوراق لساعات طويلة في العراء.
كل ذلك يحدث في ظل ضغوط نفسية تعاني منها المواطنات في غزة بسبب الآثار الكارثية للحرب بدءاً من ترك منازلهن، مروراً بفقدان مقومات الحياة، وصولاً إلى فقدان أفراد من عائلاتهن وأطفالهن.
وحسب المكتب الإعلامي الحكومي، فإن 1.8 مليون نازح في قطاع غزة باتوا يعيشون في مئات مراكز النزوح والإيواء، حياة غاية في الصعوبة.
وقال المكتب إن “هذه الأعداد الكبيرة من النازحين تحتاج إلى حل جذري لإنهاء معاناتهم المتواصلة، وكلهم بحاجة إلى مساعدات وإمدادات عاجلة على المؤسسات الدولية توفيرها فوراً”.
في 20 تشرين الثاني الماضي، قالت ريم السالم، المقررة الخاصة المعنية بالعنف ضد النساء والفتيات في بيان، إن المرأة الفلسطينية تعرضت وعلى مدى عقود، لهجوم متعدد الطبقات من التمييز والعنف الفظيع والممنهج بسبب الاحتلال والحرمان من حق تقرير المصير.
وأضافت: “الاعتداء على كرامة المرأة الفلسطينية وحقوقها اتخذ أبعاداً جديدة ومرعبة، منذ 7 تشرين الأول الماضي موعد بدء الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة، حيث أصبح الآلاف منهن ضحايا “لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية التي تتكشف”.
وتطرقت السالم إلى “الظروف الصعبة التي تواجه النساء الحوامل مع احتمال الولادة دون تخدير أو تدخل جراحي أو احتياطات صحية”.
إلى جانب ذلك، فإن التقديرات، حرمت “أكثر من 690 ألف امرأة وفتاة في فترة الحيض من الحصول إلا بشكل محدود على منتجات النظافة الخاصة بالدورة الشهرية”، وفقاً لصندوق الأمم المتحدة للسكان.
خصوصية مفقودة
في أحد مراكز النزوح، بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، تقف السيدات في طابور بانتظار دورهن لدخول دورات المياه.
سعاد مقبل (43 عاماً) التي نزحت من شمال غربي مدينة غزة، تصيح بغضب: “حتى دخول الحمامات صار يحتاج طابوراً!! ألا يكفي ما حدث لنا بغزة؛ هل يجب علينا أن نتحمل إهانة كرامتنا هنا أيضاً!”.
وأضافت: “لم يعد لدينا كسيدات أي نوع من الخصوصية، فنحن أصبحنا في الشوارع، على مرأى ومسمع الجميع”.
وأوضحت أن معاناتهن تتفاقم يومياً في ظل الازدحام الشديد داخل مراكز الإيواء، والنقص الحاد للمياه ونفاد مستلزمات النظافة الشخصية.
وتابعت: “في بداية النزوح لم أتقبل هذا الوضع، وكنت محرجة جداً، لدرجة منعتني من دخول الحمام لمدة يومين إلى الحد الذي تسبب بآلام شديدة في البطن والكلى”.
وبينت أنها تحاول التأقلم مع الوضع الحالي رغم صعوبته بسبب فقدان الخصوصية، وقالت: “لم أتوقع في أسوأ الأحوال أن تصل بي الأمور إلى هذا الحد، العيش في مركز إيواء واستخدام حمامات عامة وغير ذلك الكثير”.
أزمة نظافة
النازحة نسرين مسعود (35 عاماً)، أكدت أن النساء النازحات يواجهن أزمات مرتبطة بنقص مواد النظافة الشخصية والمستلزمات الخاصة بالسيدات.
وقالت: “نواجه أزمة صحية حقيقية داخل مراكز الإيواء بفعل نقص مستلزمات النظافة والمستلزمات الصحية الخاصة بالنساء”.
وذكرت مسعود أن نقص المياه يتسبب أيضاً بأزمة نظافة، ما يؤدي إلى إصابة العديد من النساء بأمراض فضلاً عن انتشار الأمراض المعدية.
وأشارت مسعود إلى أن انعدام خصوصية النساء في مراكز الإيواء يولد لديهن “شعوراً بالخوف وعدم القدرة على التصرف بحرية”.
ونقلت عن النساء النازحات شعورهن بـ”حرج شديد وتقيد في الأماكن العامة، فيما دفعتهن الظروف المعيشية الصعبة في ظل انعدام مصادر الدخل ونفاد البضائع من الأسواق، للاقتصاد في استخدام أي مواد أو مستلزمات خشية فقدانها في حال طال أمد الحرب”.
ومع بداية العدوان في7 تشرين الأول، أعلنت إسرائيل إغلاق المعابر المؤدية إلى غزة، لكن بعد ضغوط أممية ودولية سمحت بدخول مساعدات إنسانية محدودة جداً إلى غزة عبر معبر رفح المصري، والمخصص للمسافرين في المقام الأول.
ومنذ اندلاع الحرب المدمرة على القطاع، قطعت إسرائيل إمدادات الماء والغذاء والأدوية والكهرباء والوقود عن سكان غزة، وهم نحو 2.3 مليون فلسطيني يعانون بالأساس من أوضاع متدهورة للغاية؛ جراء حصار متواصل منذ 17 عاماً.
وكان القطاع يستقبل يومياً نحو 600 شاحنة من الاحتياجات الصحية والإنسانية، قبل العدوان، إلا أن العدد تدنى إلى نحو 100 شاحنة يومياً في أفضل الظروف.
أعمال شاقة
في أرض زراعية بمدينة دير البلح وسط القطاع، تجلس النازحة سعاد أبو حصيرة (43 عاماً) أمام فرن مصنوع من الطين تعد الخبز لنحو 35 فرداً من عائلتها وأقاربها الذين نزحوا من مدينة غزة، بفعل الغارات العنيفة والهجوم البري الإسرائيلي.
وتبذل أبو حصيرة بمساعدة مجموعة فتيات بدت عليهن ملامح الإرهاق، جهداً كبيراً في إشعال النار بالحطب، حيث تكون هذه المهمة في الوضع الطبيعي من مهمات الرجال.
ويتطلب ذلك قوة في قطع الأخشاب بما يتناسب مع حجم الفرن، وإدخال متواصل لها كي لا ينخفض مستوى النيران، فضلاً عن أن احتراق الأخشاب يبعث بدخان يسبب أذى وأمراضاً في الجهاز التنفسي.
وبشكل يومي، تخبز أبو حصيرة حوالى 100 رغيف من الخبز لإطعام هذا العدد الكبير من النازحين، وقالت: “الحياة هنا صعبة جداً والوضع لا يطاق، لكننا مجبورون على تحملها وتجرع الألم والمرارة، إلى حين العودة إلى منازلنا في غزة”.
وبينت أبو حصيرة، التي بدت آثار الحروق والجروح واضحة على يديها: “كنت صاحبة القرار في منزلي قبل النزوح، في إعداد وتجهيز ما أشاء من الطعام، لكنني اليوم لست صاحبة القرار، إنما أنفذ ما يقرره أصحاب الأرض التي تقيم فيها حالياً”.
وتتساءل بصوت متحشرج: “متى تنتهي هذه الحرب ونرجع إلى منازلنا مرة أخرى؟ يكفي بهدلة وذلاً، والله تعبنا”.