أدى «الربيع العربي» إلى إبراز بعض الظواهر التي تجد جذورها في خصوصيات تطبع منطقتنا، وخاصة المشرق العربي، وهي الدِين (أو وللدقة المذاهب) والنفط، لعل التطرق إليها يساهم في فهم الوضع الحالي القائم والفوضى التي تعم.
صمود الدول الملَكية/ النفطية
الظاهرة الأولى: صمدت بعض الدول في وجه انتفاضات المنطقة التي اندلعت منذ ثلاث سنوات ونيف. وباستثناء الجزائر، التي ما زالت حربها الأهلية الطاحنة ماثلة في أذهان أبنائها وخيالهم، يبدو أن الدول التي لم تتأثر بالعاصفة التي هزت المنطقة، تطبق كلها الشريعة الإسلامية وتعتمد نظاماً سياسياً ملكياً. وباستثناء الأردن الذي أمكن إخماد بدايات التحرك فيه بسهولة نسبية، فإن كل تلك الدول هي ذات اقتصاد ريعي مبني على النفط والغاز.يتبين من الوهلة الأولى أن «العمود الفقري» للعالم العربي مبني على الدِين والنفط. المفترض ان الدين يؤمن اللحمة والنفط الرخاء، وهذا أفضل ما يمكن ان يتمناه الحاكم لضمان سلطته والسيطرة على أراضيه.
أما باقي الدول العربية فعصفت بها حروب داخلية/ أهلية (وإن كان لبعض جذورها أبعاد خارجية)، عبّرت عن نفسها من خلال المذاهب والعشائر والقوميات، منها القديم كالسودان والصومال ولبنان، ومنها الحديث كالعراق وسوريا واليمن وليبيا… وسواء أكانت هذه الحروب تمر بمرحلة ساخنة (العراق) أو باردة تحت الرماد (تونس)، فهي تغرف من تمويل سخي للدول النفطية/ الدينية (وإن كان ليس حصراً). وعلى الرغم من ذلك، لم يتمكن لا الدين ولا النفط من حسم أي معركة في أي بلد عربي، بل أصبحت المذاهب المموَّلة أساس تفرقة وقسمة بعدما كان الدِين والنفط عنصري قوة وتوحيد في بعض الأحيان.
هل «الشعب» يعرف عدوه؟
الظاهرة الثانية: أدى الانفتاح الجزئي للأنظمة العربية على العولمة والليبرالية إلى فتح المجال أمام إمكانية إسقاطها، إذ خلق ريفاً فقيراً مهمشاً متضرراً من العولمة الليبرالية. هذا الريف هو ذاته، مع المدن الصغيرة كحمص وبنغازي والاسكندرية، هو الذي أمّن القاعدة الشعبية لتحركات «الربيع العربي». لكن تلك القاعدة لم تكن تملك قيادات «عضوية» مثقفة، فتبنتها قيادات خارجة عنها، لا صلة لها بأرض الواقع إلا عبر المال والقنوات الديبلوماسية، وأغلبها ليبرالية تستمد نفوذها من الدول الغربية أو العربية التي تعيش فيها. أي أن «الشعب» في تونس وليبيا ومصر وسوريا.. تبنى المشروع الليبرالي نفسه الذي تسبب بدماره، وحين انتصر جلب إلى السلطة ممثلين عنه لا يمثلونه فعلياً، لا اجتماعياً ولا اقتصادياً. أليس في هذا سوء تفاهم تاريخي، أفضل ما يؤدي إليه هو عودة النظام القديم من الباب العريض (مصر، تونس).
«الشعب» ذاته الذي انتخب مرسي عاد وانتخب السيسي خلال عام واحد… فإن لم يتمكن الأول، بالرغم من محاولاته، من تمرير إملاءات صندوق النقد الدولي، فالثاني بدأ بتنفيذها (رفع الدعم، مشروع النيل الجديد الخ.. ). هذا يعني أن السيسي ينفذ السياسة ذاتها التي أدت الى» ثورة الخبز» أيام حسني مبارك. كيف يقبل الشعب المصري الآن ما لم يقبله من مبارك؟ثم إن تلك «الثورات» لم تولِّد فكرة ثورية واحدة على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، سواء كانت ليبرالية أو إسلامية، إذ اكتفت بالخضوع لصندوق النقد الدولي أو سارعت لبناء علاقات أفضل مع إسرائيل، أو الاثنين معاً، كما حصل في مصر وتونس وغيرهما.
المذهبية كاستحالة للديموقراطية
الظاهرة الثالثة: لا أكثرية دينية أو عرقية ساحقة في المشرق العربي، فالأكثرية المذهبية في أحد الأوطان أقلية في البلد المجاور، فيتبع ذلك أن الأكثرية المذهبية في وطن ما هي الوحيدة التي تطالب بالديموقراطية، لأنها تصبح أداة سيطرة أبدية سرمدية دون أي إمكانية لتداول السلطة. فالطائفة (وأحيانا القبيلة أو العرق) الأقوى تسيطر على الطوائف الأخرى بالمعنى الخلدوني. هذا حين يمكن الاتفاق على قانون انتخابي يُفترض به أن يُرضي الجميع. وأي اتفاق هو بالضرورة مؤقت بانتظار أن يتعدل ميزان القوى الداخلي نتيجة عوامل داخلية بحتة (ديموغرافية) كما في لبنان، أو خارجية كما في العراق (الغزو الأميركي)… أما الأقليات فهي تفضل إجمالاً حكم العسكر الذي يؤمن لها حماية أفضل.
استحالة الاستقرار السياسي المبني على ديموقراطية حقيقية يعني ألا نتمكن أبداً من صناعة وطن. فالجغرافيا ليست ضمانة، اذ ترتكز أقلية ما في بلد معين على أكثرية في بلد مجاور. والتاريخ لا يؤمن العيش المشترك لأنه حافل بالحروب الأهلية. الوطن لم يتمكن أبداً من حل أي مشكلة… وفي هذا الإطار، منذ سنين طويلة، يُلزّم البلد الذي يعاني من حرب أهلية إلى الخارج، إلى الدول المجاورة. لذا فإن «سايكس بيكو» في المنطقة هو استثناء وليس قاعدة تاريخية. فالقاعدة هي الحرب الأهلية الدائمة بمساعدة الخارج طبعا (القريب والبعيد).
هل يمنع الدِّين والنفط التطور الاقتصادي؟
الظاهرة الرابعة: مجموع مداخيل الدول العربية كلها + تركيا + إيران (أي 500 مليون نسمة) لا يتعدى الدخل القومي الألماني. وإذا استثنينا دول الخليج، يكون الدخل القومي بمستوى فرنسا. أما الإنتاج الصناعي غير النفطي في المنطقة كلها فلا يتعدى صناعتي بلجيكا وسويسرا. كيف يمكن تفسير هذه الدرجة من التخلف على الرغم من كل الفائض المالي الموجود في المنطقة، أي حوالي 350 مليار دولار سنويا؟ المسائل التي تعيق التطور الاقتصادي عديدة وأهمها عدم اعتناق مشروع جماعي.الدول الريعية غير مضطرة لتطوير اقتصادها أكثر مما فعلت لأن لديها ما يكفيها من المداخيل، وهي غير معنية باستثمار الفائض المالي في الدول العربية الأخرى لتطوير اقتصاد المنطقة.
الرساميل المستثمرة مباشرة في العالم العربي محدودة جداً، وحتى عندما يكون الملوك أسخياء، فلا يتعدى ذلك بضعة مليارات كالقروض والمساعدات التي أعطيت لمصر وتمثل 5 في المئة من الفائض الخليجي السنوي. وما يتبقى من الفائض لا يستثمر استثماراً عقلانياً، ومردوده محدود جداً، إذ لا تتعدى الربحية فائدة سندات الخزينة في الدول الصناعية (حتى لو لم يتم مباشرة الاستثمار فيها)، بينما مردود أو معدل ربحية الرساميل الغربية أكبر بكثير.
فالدول الريعية لا تثق كثيراً بدول المنطقة (وربما تكون محقة)، إذ لا توفر لها أية ضمانات. لكن المسألة ليست فقط في استثمارات الدول النفطية، بل يجب أن تلام أيضا حكومات البلدان غير النفطية، إذ اقتصرت أكثر استثماراتها على العقارات (لبنان، سوريا، مصر…). على الرغم من ذلك كله، تبقى المشكلة الأكبر اقتصادية بحتة: فالطاقة الإنتاجية للمعامل الحديثة أكبر من الطاقة الاستهلاكية لأكثر الدول العربية، وبالتالي فأي استثمار في القطاع الصناعي يجب أن يضمن التصدير بحرية إلى الدول المجاورة. لذلك وجب التخصص في الدول العربية لتحقيق «اقتصاد سُلَّمي» حسب قانون التمايز النسبي.
والتخصص يحتم الاتفاق بين الدول والعشائر والمذاهب، فالمجتمعات غير الموحدة (المبنية على المذاهب، وغير المبنية على القانون) لا تستطيع أن «تصنِّع» اقتصادها وتتطور. المعجزة الاقتصادية إما أن تكون جماعية أو لا تكون.
مجال حيوي مبني على الاقتصاد والقانون
ولأن الحل لم يكن في الأوطان، حاولت الأنظمة العربية «العسكرية» لأكثر من عشرين عاما إسقاط «سايكس بيكو» من خلال مشاريع وحدوية سياسية، سواءً أكان ذلك بالتراضي (على الأغلب) أو بالقوة (أحياناً). إلا أن الوحدات السياسية لم تتمكن من النهوض بتلك الدول، ولما باءت بالفشل فتحت الطريق لسقوط أكثرها أو تفتيت دولها، على الرغم من التضامن /المعجزة الاستثنائي في حرب تشرين 1973. وما نراه الآن ليس إلا سقوط «سايكس بيكو» بشكل جديد قوامه الفوضى والتشرذم المبنيان على المذاهب والأعراق. وهذا بالطبع لن يؤدي إلى نهوض الأمة. لا الدول ولا الوحدة أدت الى حلول لمشاكل مجتمعاتنا، ولا التفتيت الكارثي الذي نعيشه سيسمح بذلك.
الواضح أيضا ان الديموقراطية عندما تُطبق هي مشروع حرب أهلية دائمة بين المذاهب والأعراق (العراق، لبنان…) أو مهزلة كبيرة كما حصل في مصر أو الجزائر، إذ تؤدي إلى حكم العسكر مجددا، الذي لم يعد أيضا حلاً.يبقى إذاً أن نتواضع وان نكتفي فقط بخلق مجال حيوي مفتوح يمتد من العراق إلى لبنان، مبني على الاقتصاد وعلى مؤسسات حقوقية «فوق ـ وطنية» (تكون مرجعيتها أعلى من المرجعية المحلية لكل وطن) تضمن حرية انتقال البشر والرساميل والبضاعة، وتضمن حقوق الإنسان، دون المس بالتمثيل السياسي الوطني. هكذا تُربط مصالح كل «الأقليات» (فأقلية هنا هي أكثرية هناك) ببعضها البعض.
وهكذا لا يعود من مصلحة أحد فك الارتباط عن مشروع نهضوي أكبر من الوطن، وتحل محل العداوة خصومة ومنافسة تصون الحدود الكبرى بوجه العدو الخارجي، وتضمن للرساميل الخليجية الاستثمار ضمن خطة اقتصادية متماسكة…وإلا وصلنا إلى الظاهرة الأخيرة: الحلم الممنوع.
السفير