شهد هذا الأسبوع، تصاعد المواجهات بين القوات الاسرائيلية والمستوطنين من جهة، والشعب الفلسطيني الأعزل، من جهة أخرى . وكالعادة لا يحتاج الجانب الاسرائيلي لكثير عناء، للبحث عن ذرائع، ليمارس اعتداءاته . هذه المرة، كانت الذريعة هي اختطاف ثلاثة مستوطنين إسرائيليين، من قبل جهة غير معلومة، حتى اللحظة، واكتشاف جثامينهم لاحقاً .
في رد فعل على الاختطاف، أقدم المستوطنون ، على اختطاف وقتل صبي فلسطيني، وبدأت المواجهات بين الشبان الفلسطينيين والمستوطنين، في رام الله والقدس وأم الفحم ونابلس والخليل، ولتترك صداها، بشكل مباشر، على الأوضاع المتفجرة في قطاع غزة، الذي مضى عليه تحت الحصار الإسرائيلي، سنوات عدة .
فقد انهارت الهدنة الهشة، بين القوات الاسرائيلية وحركة المقاومة، وبدأت اسرائيل القصف الجوي على مواقع المقاومين الفلسطينيين، وقامت حركة المقاومة بدورها، بقصف المستوطنات القريبة من القطاع، وبشكل خاص على مستوطنات بئر السبع، والمناطق المجاورة لها .
ولا يستبعد المراقبون، قيام اسرائيل، بهجوم بري واسع على القطاع، بهدف تدمير مواقع المقاومة، واغتيال عدد من رموزها القيادية .
تأتي هذه الأحداث، وسط انشغال كامل لمعظم البلدان العربية، بشؤونها الخاصة، حيث يغرق بعضها، في بحر من الفوضى والخراب والدمار، ويعاني بعضها الآخر، أزمات اقتصادية وسياسية حادة . وقد أصبحت القضية الفلسطينية، في السنوات الأخيرة، في آخر سلم الاهتمامات العربية . وقد برز ذلك أثناء التظاهرات والاعتصامات التي شهدتها البلدان التي مر بها “الربيع العربي” .
فالهتافات المدوية، اقتصرت على المطالبة بإسقاط الأنظمة، ولم تشهد ما كان مألوفاً لعدة عقود، من نصرة للقضية الفلسطينية، وإدانة للممارسات الاسرائيلية، ووقوف ضد القوى والدول التي تسند المشروع الاسرائيلي . وكان الفلسطينيون يقفون وحدهم، في خيارات السلم والحرب . وفي ظل الضعف والغياب العربي، كان التوازن في الصراع ، لغير صالح الفلسطينيين، بمختلف خياراتهم . وقد اتضح ذلك بشكل جلي، أثناء المفاوضات الأخيرة، التي جرت برعاية وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، التي انتهت إلى طريق مسدود .
لكن الفلسطينيين، أثبتوا دائماً قدرتهم على تحدي المستحيل . كان ذلك ديدنهم دائماً، عند كل منعطف، يتصور معه الخصم أنه حسم أمره، وأن مفاتيح الأرض أصبحت بين يديه . يفاجئ الفلسطيني، خصمه، بقدرته على اجتراح وسائل وأساليب نضالية جديدة .
فعندما حدثت النكسة عام 1967 وضاعفت إسرائيل، مساحتها عدة مرات، وعاشت الأمة في ليل دامس، فاجأت المقاومة الفلسطينية، العالم بأسره، بقوة حضورها . وأضاءت عتمة العرب، ومثل انتصارها في معركة الكرامة، عام 1968 نقطة تحول، في الصراع العربي، مع اسرائيل . وكانت تلك مقدمة حرب الاستنزاف التي خاضها جيش مصر، والتي رسمت خريطة الطريق للعبور العظيم في السادس من أكتوبر عام 1973 .
وعندما اتجه بعض القادة العرب، نحو التسوية ، واصل الفلسطينيون مقاومتهم للاحتلال، ودمجوا بين النضال السياسي والكفاح المسلح . ومنذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم، وتزامناً مع التوجه العربي الرسمي، نحو التسوية، انتقل مركز الجاذبية، في الصراع الفلسطيني، مع اسرائيل، إلى داخل الوطن المحتل، حيث شهدت تلك الحقبة نهوضاً جماهيرياً، وانتفاضات شعبية واسعة، أفشلت من جهة، محاولات اسرائيل لدمج اقتصاد الضفة الغربية، بالاقتصاد الاسرائيلي .
ومن جهة أخرى، أكدت تلك الانتفاضة، تمسك الفلسطينيين، بمنظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد، لتطلعاتهم في التحرير والانعتاق .
وتكرر ذلك مرة أخرى، في منتصف الثمانينات . فأثناء تلك الحقبة، كان الفلسطينيون قد عانوا مرحلة شتات جديدة، عندما أجبرت المقاومة الفلسطينية، على الرحيل من بيروت، بعيداً عن عمقها الاستراتيجي، وهدفها في التحرير، إلى تونس واليمن، ومناطق أخرى من الأرض العربية .
وأثناءها انشغل العرب بالحرب العراقية- الإيرانية، المشتعلة آنذاك . وعلى الصعيد الدولي، تحول الوفاق بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، من طابعه الصراعي، إلى العلاقة التكاملية، التي عبدت الطريق لسقوط الاتحاد السوفييتي، وانهيار الكتلة الاشتراكية . وحين التقى الرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف والرئيس الأمريكي رونالد ريغان، لم تكن قضية الصراع العربي- الاسرائيلي، والحقوق الفلسطينية ضمن أجنداتهما . وكانت بحق مرحلة استرخاء في السياسة الدولية .
وعندما عقد مؤتمر القمة العربي، في العاصمة الأردنية عمان، لم تكن القضية الفلسطينية، في سلم أولويات القادة المجتمعين . حينها، تكفل أطفال الحجارة، بإعادة بعث القضية الفلسطينية، إلى واجهة الأحداث العربية والعالمية . وقد رأى الزعيم الراحل ياسر عرفات في تلك الانتفاضة، سبيل نجاة، وعنصر إنقاذ لمنظمة التحرير، بعد الحالة البائسة والوضع المكفهر التي وجدت نفسها فيه .
لقد شكلت انتفاضة أطفال الحجارة، ملحمة بطولية، أكدت مجدداً أن القضية الفلسطينية، حية لن تموت . واكتشف العالم من خلالها أن الفلسطينيين قرروا أن يتحملوا مسؤولية تحرير أرضهم بأنفسهم، وأنهم لن يواصلوا توسل الحل، عبر المؤسسات الدولية، أو القوى الكبرى، ولا حتى من الأشقاء العرب .
في هذا المنعطف الحاد من تاريخ الأمة، ورغم الانهيارات وحالة التشظي والضياع، التي يمر بها عدد من الأقطار العربية، التي ارتبط تاريخها بالصراع مع اسرائيل يؤكد الفلسطينيون مجدداً حضورهم، ورفضهم للاحتلال، وتحديهم للمستحيل .
وكما كانت فلسطين دائماً قضية العرب المركزية، فلعلها تكون في هذه اللحظة المصيرية، عنصر عودة الوعي للعرب جميعاً، بأن الوحدة العربية، هي بوصلتهم الممكنة للخروج من نفق الأزمة الراهنة، فقد جربوا في السنوات القليلة المنصرمة، مخاطر الهويات الجزئية، والطائفية البغيضة . وآن لهم أن يخرجوا من دائرة الوهم والزيف، إلى المستحيل، الذي سطره الفلسطينيون مرات ومرات.