فيما اجلس على كرسي المكتب في بيتي، الريح في الخارج منفلته كما لو كانت هاربة من احد السجون الاسرائيلية او السجون الأسدية، اسمع الاشجار المحيطة بالبيت كما لو انها تضرب نفسها، فيأتيني صوت تكسر كواوير الورود حول البيت واحدا تلو الاخر، بلغنا العشرين من تشرين الثاني هذا العام حتى تكرم المطر بزيارتنا، وها انا بعد طول انتظار لمقدم حضرته، اسمعه يضرب اوراق الشجر في الحديقة ونوافذ البيت، وخزانات المياه على اسطح الجيران، مطر ليس كالمطر، لم اراه يوما ولم اعهده من قبل بمثل هذا الغضب، كما لو أنه يخطط لكارثة او مصيبة قد تضرب المزارعين في قريتي وفي قرى الارياف الاخرى من الجلمة شمال جنين، الى الرماضين جنوب الخليل، ولا اعرف من اين يتسلل كل هذا البرد الى داخل البيت، مع اني اغلقت بإحكام جميع النوافذ وانزويت في مكتبي لأعاود الانتظام في القراءة بعد أن انقطعت الصلة بيننا لأكثر من ثلاثة اشهر، ودون أن اعرف لماذا ومن يجافي منا الاخر أنا أم الكتاب.
ارتديت عباءة صوف فوق البيجامة ومشيت نحو المطبخ أعد كوب شاي يساعدني على الشعور بالدفء، حملت كوب الشاي وتوجهت نحو النافذة الشرقية للبيت لأرى البرق وما يفعله المطر الغضبان حول البيت، ولم انتبه ان النافذة الشرقية تطل على جيراننا في مستوطنة “بيتار عيليت”، اضواء الكهرباء عندهم بيضاء وقوية على العكس من الاضاءة في بيوت وشوارع قريتي الصفراء اللون، وكل ركن في المستوطنة مضاء وتستطيع رؤية أي شيء ساكن أو يتحرك بما في ذلك ما تطيره الرياح من اخشاب وشوادر تتطاير من مواقع البناء قيد الانشاء قبالتنا.
وبغير ارادة مني وجدتني افكر في حركة الاستيطان عموما وفي قريتي خصوصا، واستحضر الاعلانان عن مصادرات اراض جديدة في قريتي واد فوكين لشق طريق جديدة بعرض (80) مترا عبر القرية تربط الطريق الاستيطاني رقم (375) المار بجوارنا من جهة الشمال ما بين طريق (60) الكائن شرقا بمحاذاة مدينة الخضر ويتجه غربا عبر وادي الصرار الى موقع الاقمار الصناعية غربا، ليلتقي جنوبي القرية بالطريق الاستيطاني رقم (367) الذي يربط مستوطنة “عصيون على خط (60) من الشرق مرورا في قرية الجبعة وصولا الى منطقة الاقمار الصناعية حيث يتقاطعان الطريق (375 و 367) مع الطريق (38) في محيط القرى التابعة لعرتوف (راهنا بيت شيمش) داخل اسرائيل. ووجدتني استحضر الاخطارات التي تلقيتها من المحتلين بهدم بئر المياه الذي أنشأته قبل ست سنوات لتخزين مياه المطر عن سطحه لري ارضي، والاخطار الثاني بهدم المنشأة الزراعية لإنتاج سماد الكومبوست غير المكتملة. وأتساءل عن مصير محاولاتنا انا وعشرة مزارعين أخرين في صد المحتلين وهل سنفوز بإبطال اوامرهم بهدم البيوت والابار والمنشآت الزراعية المهددة بالهدم في القرية أم سنفشل.
استيطان ومستوطنات تنتشر كالدمامل على جسد الوطن، الاغلبية الساحقة من قرانا الفلسطينية اليوم كل قرية مقطوعة الصلة جغرافيا عن القرية المجاورة تفصلهما مستوطنة او طريق استيطاني والكثير منها مقطوعة الصلة جغرافيا مع مركز المحافظة الذي تتبع له، قرى سلفيت وبيت لحم والخليل مثالا ومع ذلك نطالب بالصمود!.
نسيت المطر والريح والبرد الذي يقرص جسمي ليقتادني التفكير في حال البلاد ومن ذلك انشغال شعبنا في كل المحافظات بانتخابات المجالس المحلية في الضفة الغربية والبنية الاجتماعية للأغلبية الساحقة من القوائم ذات الطابع العشائري البحت. حتى تلك الموصوفة بانها قوائم التوافق الوطني في حقيقتها قوائم عشائرية اذ تنتدب كل عشيرة او عائلة في القرية او البلدة او المدينة مندوبا عنها لتمثيل مصالحها في القائمة وفي احد البلدات الكبيرة تم تقديم عشرة قوائم للانتخابات باسم كل عشيرة قائمة، وهناك قوائم انشأها او يديرها وينفق عليها رجال اعمال او شركات، وهناك وهو الاخطر وجود ما تتهرب التنظيمات والاحزاب والسلطة واجهزتها الامنية عن مواجهتها وهي قوائم انشأتها جماعات “أبو اصبع” التابعين للاحتلال في العديد من البلدات.
يصطف مع هؤلاء بالطبع في تلك القوائم بعض من باعوا أراض للمحتلين، بالإضافة الى جماعات الفساد والحرمنة ومن نهبوا البلاد، كل هؤلاء تجدهم وقد اعدوا قوائم انتخابية للمنافسة مع ما اسموها قوائم التوافق الوطني في انتخابات المجالس، وفي قلة قليلة من القرى والبلدات تجد بعض القوائم تتبع للتنظيمات والاحزاب الفلسطينية التقليدية المعروفة، وحتى هذه القوائم الانتخابية بنيتها الاجتماعية عشائرية صرفة كي تضمن هذه الاحزاب والتنظيمات فوزها، فاعتمدت هي الاخرى ممثلين للعشائر في عضويتها للمنافسة… غياب تام لثقافة القانون والبرامج الوطنية وغياب غير مسبوق للروح واللغة ولنصوص الخطاب الوطني وللفلسطنة.
هل كان أحد بيننا يتوقع انه في العام 2021 ستعود هذه “الفلسطين” لمرحلة ما قبل القبيلة ولك ان تتخيل اية ثقافة تسود في البلاد في وقت يهاجمنا المحتل بهجوم شامل على جميع ميادين الحياة، على ركائز وجودنا ارض وموروث ثقافي وتاريخي، كل ذلك تحت المطرقة الاسرائيلية. والكارثي أكثر ليس بين التنظيمات والاحزاب الفلسطينية جميعها بيسارها ويمينها وممن هم في الوسط اية رؤية للمستقبل او اية اهداف محددة، ولا توجد برامج لدى أي من هذه القوى تقدمها لناسنا واهلنا، وكفت عن أن تكون عنوانا ومنبرا لأحد، وشخصيا قرأت على روحها الفاتحة منذ زمن، فلا أمل يرجى منها، ولا يصلح العطار ما افسده الدهر، اصبح حالهم كحال الاسدية في سورية، غير قابلين للإصلاح.
والاكثر ايلاما يا صديقي ما يوجع القلب، فقد تحول الفساد المالي والاداري والسياسي الى طوفان عام، ظاهرة وعلى درجة من الانتشار والتوسع، تمأسست وتنخر جسد وطننا وشعبنا، وتنخر جميع المجالات وميادين الحياة السياسة والاقتصادية والاجتماعية، وعلقت بمجتمعنا تفسد نظام القيم، وطالت مجالات الادب والثقافة الشعر والقصة والرواية ومجالات الابداع الاخرى. والاخطر معرفتك بان الاحزاب والتنظيمات غارقة هي الاخرى في فساد فاقع، ولم تعد تجد بينها من لديه روح الشفافية والفلسطنة والثورة، فأضحت راهنا تعمل بالإيجار لصالح اجندات اقليمية أو دولية كي تبقى على المسرح، وبعضهم يستديم في بيعنا شعارات المقاومة، يتاجر بها وهو يعرف انها لم تعد تنطلي على أحد، ولا حتى على بائعي سمك السردين والنثريات في سوق فراس بغزة، ولا على باعة الخردوات وقطع الاثاث المستعمل والغوايش والبساطير المستعملة ونفايات الاسرائيليين في السوق القديم في بيت لحم، ولا حتى على باعة الكُسبة وكرابيج حلب باب الزاوية في قلب الخليل.
وليت الحرامية واللصوص والفاسدين ومراكز القوى الطفيلية والبيروقراطية وجماعات ابو اصبع واصحاب الاحتكارات والشركات والذين علقوا بالسلطة وبأحزابنا وبمنظماتنا وبهيئاتنا وجمعياتنا ومجالسنا المحلية ونقاباتنا ومؤسساتنا على تنوعها ليتهم فقط كرسوا رزالتهم على سرقة الموجود في جيوبنا وسرقة ارزاقنا، ولكنهم يا صديقي متكاتفين ومنظمين ومتعاضدين موحدين يناصرون بعضهم يسرقون منا احلامنا، يسرقون منا توقعاتنا من المستقبل، سرقوا احلامنا في التحرر من الاحتلال، وسرقوا احلامنا بوطن حر نعيش فيه بعز وكرامة، وسرقوا احلامنا التي كنا ننتصر بها على الجلادين تحت التعذيب في زنازين المحتل، سرقوا ما كنا نحلم به يوم كانت حيطان الزنازين تأكل من لحمنا وتشرب من دمنا.
لم انتبه الا وقد وجدت نفسي خائرا من البرد، برد شديد مركب ومضاعف، برد الطبيعة الذي داهمنا فجأة ودون أن استعد واشتري انبوبة غاز للمدفأة، والاقسى برد الشعور بالانكسار ومشاعر الخيبة مما جرى لنضالات شعبنا ويجري في بلدنا، برد مهول وشعور قاتل بالخيبة والفشل وفقدان الامل تحت وطأة تداعيات الاجابة على السؤال المهول الذي كان شاعر اليمن الكبير عبد الله البردوني قد أطلقه في فضائنا العربي قبل عقود طويلة في قصيدته اغنية من خشب:
“لماذا الذي كان ما زال يأتي؟” ولطمنا البردوني نفسه بالإجابة على السؤال: “لأن الذي سوف يأتي ذهبْ”!!.
وتحت وطأة كل هذا البرد الذي لم اعايشه من قبل، برد هو شريكي المفروض قسرا علي في وحدتي الآن، بدلا من امرأة احببتها وكانت هي امنياتي الاخيرة، كلمة طيبة وابتسامة منها، كانتا تنشران الدفء في كل اوصالي، أشاحت بوجهها عني كما تشيح الشمس بوجهها عن مخيم الشاطئ وعن درعا والخليل في المساء، لا اعرف ربما كا قالت لي يوما لأني شخص برِّي، ما زلت أسير ثقافة ما قبل الحضارة، ثقافة الرعي والزراعة، اعوم في وحدة خانقة، والبرد يتسلل الى قدمي وظهري وصدري، يتآمر علي مع ثقل الشعور بالانكسارات المتتابعة لنضال شعبنا.
يستحضر عقلي (ربما لأستمد منهما ومنك القوة في مواجهة هذا البرد اللعين، وتداعيات الشعور بالوحدة) اصدقاء ورفاق نشبههم ويشبهوننا، وأتذكرك في جلساتنا على اعتاب البحر والموج في مخيم الشاطئ، نتشارك صحن فول مع المِشْ والدَّقة أعدته ام سامر يومها، وانت تنظر بعيدا للشمال نحو اسدود وعسقلان، تحلم بأن لا يتمكن المفهوم “أشكلون” من إمحاء المفهوم “عسقلان” ويحل مكانه، كم كنت يومها خائفا وقلقا على احلامنا وعلى نص الخطاب خاصتنا، كم كنت خائفا بأن تطول مناداتك بغريب عسقلاني، وربما نقضي معا، قد نموت في أي لحظة على رأي عدنان جابر، قد ننام ونصبح على موت، ودون أن تتاح الفرصة للاسم ابراهيم عبد الجبار الزنط كي يسطع في النور يُهوِّم في الفضاء الفلسطيني والعربي والعالمي باعتباره صاحب اجمل واثمن المساهمات التي انتجت في ادب القصة والرواية والنثر بدلا من الاسم المستعار غريب عسقلاني الذي التصق بك واحبته الجماهير، مع انك كنت اتذكر حوارنا بشأنه، مضطرا لاستخدامه للتحايل على رقابة وملاحقة المحتلين الصهاينة!؟
نعم يا غريب، تحت وطأة البرد القارس والشعور بالانكسارات والخيبات تذكرتك واستحضر عقلي رفاق يشبهونك، يشبهوننا، هم نحن، ونحن هم، وكثر هنا أو هناك في المنفى يشبهوننا، عدنان جابر وفوزي غزلان أمضوا حياتهم واعمارهم وكرسوا عمرهم ووجدانهم وعقولهم واحلامهم في سبيل التحرر والحرية، في سبيل الحياة بكرامة والعيش بأيام الاغاني القادمة ينشدها صوت صديقنا وحبيبنا المغني الثائر سميح شقير لشعبينا الفلسطيني والسوري، حلموا ويحلمون بأيام الاغاني تملؤ فضاءات درعا والخليل وبيت لحم وغزة. وبلغوا ما بلغناه، وادركوا ما يدركه المدركون، يشبهونك ويشبهونني، توجعهم كما توجعنا إجابة البردوني على السؤال بشأن الحرية والمستقبل “لأن الذي سوف يأتي ذهب!” يا وجع القلب، “لأن الذي سوف يأتي… ذهبْ”! تخيل أي وجع نشتكي منه.
في منفاه هناك … كتب صديقي فوزي غزلان:
“سحرُ (شيربورغ) يخنقُني، لم أعرفْ وطناً قبلَ وطني، حورانُ وِلادةٌ دائمة”. ويصرخ موجوعا “أنا من هناك….” نعم هو من هناك من حوران موطن اللبن الجميد والشهامة ووطن العصافير والجميلات.
وبرغم سنوات المنفى المديدة في شيربورغ وبفضل وجوده فيها طالت أيام عمره فلو بقي في دمشق أو حوران او الرمثا لقضى منذ زمن بسبب ما يعانيه جسده من اصابات وأمراض لم تقوى على هزيمته ومع ذلك لا يرى في فرنسا كلها كما كتب سوى:” عكّازتان وأنثى بلا ذراعين، الريحُ عمياء، البحرُ أعمى أيضاً” وبلغ مرحلة يطلعنا على قسوة المنفى:” عمّا قريبٍ جداً، سأموت..، قبلهُ،، سأسدّدُ كلَ الديون التي لنفسي عليّ”.
ولولاها اختي الغالية جبل المحامل أم أحمد الى جانبه أبدا، لا استطيع تخيل حال صديقي وتداعيات وطأة المنفى عليه، وهي من كان قد كتب بدايات عشقه لها عام 1984 وهي جديرة بما هو أكثر: “إنِّي أشـهد ،إنِّي أشـهَد، إنِّي أشـهد، من عينيكِ ابتدأ العُمرُ، من خدَّيكِ تسَـرَّبَ طِيبُ الزَّهَرِ، من كَفَّيْـكِ، انطَلَـقَ الفجرُ ، إنِّي أشـهد، حينَ تَعانَقنا، دُفِـنَ الـموتُ، و تبدَّلَ في عُمرَينا العُمرُ، حينَ تعانقنا، غنَّى البحرُ، ونَما في حَضْرَتِـهِ السَّـفرُ، آهٍ، يا ضوءَ العمرِ، يا سَـفَرُ … آهٍ، يا مَن يسـكُنُكِ القَدَرُ، آهٍ ، كم صَلَّيْـتُ لأحبابٍ رَحَلوا، لكنِّي أشـهَد :أشْـهدُ أن لا ربَّ سِـواكِ ..أحَـدٌ .. أحَـدٌ .. أحَـد .. إنِّي أشـهد، إنّي أشـهد “.
ومن جهته يا غريب: الثائر المبعد، الجريح المنفي، الاسير المحرر، الشاعر والكاتب، الضمير العامر عقله ووجدانه بالجمال والحب والأنسنة، رفيقنا عدنان جابر الذي ضاقت عليه الاردن، ومن بعد ضاقت عليه سورية “الاسد أو لا أحد”، ضاقت عليه “سورية الاسد او نحرق البلد” ضاقت عليه سورية “المقاومة والممانعة” ولم تحتمل بلاد العرب وجوده فيها، فوجد نفسه بعيدا هناك، في المنفى بفرنسا، كما فوزي غزلان مع الفارق ان فوزي ورفيقة العمر أم احمد يطلان على بحر المانش في الشمال الفرنسي، فيما عدنان جابر ورفيقة العمر فاطمة جابر زيتونتنا الفلسطينية في جنوب فرنسا بتولوز.
قبل مدة قصيرة كتب عدنان من منفاه الى المرحوم خالد موسى فودة الذي قضى في الاردن جراء جلطة دماغية اختطفته من اسرته واصدقائه ومحبيه :” لقد كثر الموت يا خالد، في فلسطين.. في سوريا.. في البحار.. وفي عواصم أوروبا…الموت سافل، تطاول كثيراً، غدا وقحاً، يقول لنا عند النوم: تصبحون على موت!”.
وما نعانيه هنا، يعانيه عدنان في منفاه، يوجعه ما يتداعى على كاهله بسبب غياب الضمير، فكتب اواخر تشرين الماضي بالنيابة عما نشعر به وما نريد أن نطلقه في فضائنا فصرخ محتجا:
“من لا يرى معاناة الشعوب وعطشها إلى الحرية، لديه عطب في إنسانيته”. في خطابه الموجه للمتثقفنين الفلسطينيين المحسوبين كنخب ثقافية وسياسية يا للعار!
وكما هو منذ عرفته في سجن بئر السبع الصحراوي في السبعينات، تسكن في عقله وتؤرقه الاسئلة ذاتها، اسئلتك واسئلتي، كيف بالإمكان اخلاقيا الاحتجاج على تنفيذ اسرائيل جرائم الابادة بحق شعبنا منذ بداية تنفيذ المشروع الصهيوني بقيام اسرائيل وراهنا في قطاع غزة والضفة الغربية، وقد اختارت القوى السياسية والنخب الثقافية الفلسطينية اليسروية واليمينية كلاهما شرعنة جرائم الابادة واعمال اقصاء واستئصال العراقيين واليمنيين واللبنانيين والسوريين على ايدي السلطة الاسدية والمحتل الايراني وادواتهما من بلديهما؟!.
قل يا صديقي ما الذي علينا فعله إزاء ما نراه؟ وكيف بالإمكان اخلاقيا للنخب السياسية والثقافية الفلسطينية أن تقبل بهذا العطب في انسانيتها؟،
وكثر من هؤلاء كما هو حالي وحال عدنان والالوف من ابناء شعبنا أكلت جدران الزنازين الاسرائيلية من لحمنا تماما كما اكلت حيطان الزنازين الاسدية في فرع فلسطين وتدمر وصيدنايا من لحم طلاب العدالة واصحاب الكلمة الحرة في سورية! عبد العزيز الخير وآلاف ممن قضوا تحت التعذيب.
كيف بإمكان هؤلاء من النخب الثقافية والسياسية أن يتحولوا الى سحيجة لسلطة الاسلام السياسي في غزة وسلطة مراكز القوى البيروقراطية والطفيلية في الضفة الغربية مع مراعاة الفرق في الدرجة، والسلطتين أوغلتا ايديهما في ارزاقنا وحقوقنا في ألانسنة وتسلباننا بالفساد الاداري والمالي والسياسي ليس حقوقنا كبشر فقط، بل وتحطمان جميع مقومات صمودنا أمام المحتلين، وفشلت برامجهما ودون أن يكلف أي منهما نفسه بأن يتقدم للشعب معتذرا عما آلت اليه الامور بسبب برامجهم ونهجهما الفاشل؟!
ليتني كنت منصتا لك وليس قارئا وحسب، لما كنت تكتبه لنا مشخصا واقع الحال وقادم الايام بأعمالك الادبية العظيمة أواخر السبعينات، يوم كنت تنبؤنا وتشخص لنا مبكرا من منبر الأدب واقع الحال الراهن والقادم بدءا بمجموعة “الخروج عن الصمت” ومرورا ب”الجوع” و “أولاد مزيونة ” وصولا الى مجموعة “مذاق النوم” وهو ما عجزنا عن فهمه وعن رؤيته في نشاطنا السياسي!
اذكر أني واجهتك بالسؤال يومها في كتابة نقدية نشرت في الكاتب او البيادر لم اعد أذكر، لماذا هذه السوداوية؟ وبعد 42 عاما حالنا اليوم هو حال بطلنا “سعيد” في “الجوع” وبعد كل هذه التجربة المكثفة لمسيرة شعبنا الكفاحية أجده “سعيد” يخرج من بيننا الى المنبر ويعلن في فضائنا بالنيابة عنا ما نريد قوله واعلانه راهنا!
نعم ليتني يا صديقي الغالي كنت منصتا لك ومنتبها لما ورد في اسهاماتك الادبية للمكتبة الفلسطينية والعربية والعالمية حيث ترجمت اعمالك باللغة الايطالية وبالفرنسية والروسية والانجليزية وحتى انها ترجمت باللغة العبرية، لغة العدو! لكُنّا يا غريب أو لَكُنْت شخصيا على الاقل أخذت محاذيرك بالحسبان، وأخذت تنقيرات “سعيد” على المدينة وعلى الناس فيها عبراً ودروسا، وليتني أخذت من زوادة المعرفة في “اولاد مزيونة” تشخيصك وتأريخُكَ وقراءتُك للاتجاهات الانفعالية والاجتماعية لشعبنا ماضيا وراهنا ولاتجاهاته قادم الايام… بالاعتبار.
من مٍمَّنْ سُرِقَت احلامهم وتوقعاتهم واصيبوا بالخيبات والانكسارات جراء الوضع الراهن لنضالات شعبنا ولا يردد ما قاله “سعيد” في “الجوع”: “مهنتي لا تقدرون عليها. آه لو تعلـمون ما هي مهنتي. لقد مارستها حتى نخاع العظم أيها الأنذال”!!!.
تخيل… لو يعلم “سعيد” في “الجوع” أن اولئك الذين رماهم بتوصيفهم بالأنذال، هم اليوم بأريحية ويطونهم تتدلى امامهم يجلسون على المتن، يحتكرون صناعة القرار في كل ما يتعلق بحياتنا نحن المهمشين، ويحتكرون الوظيفة العمومية في الضفة وغزة، وبات في كل وزارة او دائرة او هيئة مافيات تعيق أي تغيير او تحسين او تقدم حتى في مجالات عملهم ومن ذلك تخيل، مؤسسة التربية والتعليم التي تحولت لمؤسسة للتجهيل ولإنتاج الدواعش وتخريج اجيال ليست أكثر من “سيديهات” تمشي على قدمين، وكذلك في مجال الصحة، فمافيات وزارة الصحة مثلا تودع الأدوية الهامة والغالية الثمن المقدمة كمنح أو هبات من الجهات المانحة لشعبنا ولمشافينا المخصصة لمعالجة الأمراض الخطيرة، توضع هذه الادوية في المستودعات حتى تنتهي صلاحيتها لإرغام المشافي والمواطنين على شراء الادوية التي يستوردونها والموزعة على الصيدليات في مختلف المدن، فالمهم ليس صحة المواطن بل تراكم الارباح وزيادة ارقام حساباتهم البنكية.
ما علينا… في توصيف صديقنا الجميل عدنان جابر لحياة المنفى كتب الشهر الماضي: “في المنفى، وحتى لا نموت من القهر، نحتفظ بأشياء من الوطن، نسمع أشياء عن الوطن، نطلب شيئاً يُذكِّرنا بالوطن، نلبس شيئاً من الوطن، حتى نحمل الوطن أينما ذهبنا، مفتاح البيت، أغنية أو موّال عَتابا، حفنة تراب أو حجر، ثوب، حبة برتقال، مسبحة أو مزهرية من خشب الزيتون القديم من شوارع القدس العتيقة”. ويواصل حياته في الغربة ويكتب: “شكراً للأمل.. شكراً للسخرية، بقليلٍ من الأمل.. وكثيرٍ من السخرية…أواصلُ حياتي”.
ودائما ما يستذكر الرفيق عدنان جابر صرخة الشاعر الكبير المرحوم عبد الله البردوني :”هذه كلها بلادي وفيها، كل شيء الا انا وبلادي”. ويلخص الرفيق مبتغاه الانساني بعد طول المعاناة فقط: “نريد سماءً بلا براميل، وكرامةً تمشي على الأرضِ”.
هل إلى هذا الحد هذا كثير علينا، ان نعيش ما بقي لنا من العمر ببعض الكرامة!.
ما الذي بمقدوري يا غريب أن اكتبه الى عدنان التواق لأي شيء من وعن الوطن؟ والوطن لم يعد هو الوطن يا صديقي العتيق!
ما الذي علي أن أكتبه لعدنان وفاطمة جابر عن الوطن وقد اضحى فيه سماسرة الارض وبائعوها للمحتلين والفاسدين والحرامية والتجار الكبار واصحاب الاحتكارات على تنوعها، والبنوك وتجار الدين والتاريخ وتجار الثقافة والادب وتجار السياسة وتجار التصاريح، ومراكز القوى الطفيلية والبيروقراطية هم من يتربعون على المتن راهنا، وهم من يمسكون بمقود الوطن!!
ما الذي علي أن اكتبه يا صديقي العتيق لفوزي غزلان وقد حطم الاوغاد بين ظهرانينا بفلسطين من النخب المسماة ثقافية وسياسية وبوقوفهم مع الوحش الفالت من العقاب في جبل قاسيون جسور الشعر والاغاني، وجسور العشق والحب وجسور التاريخ التي بنيت بالقصائد ومواويل الفلاحين اثناء الحصيد، وحطموا الجسور بين المنسف والمليحي وجسور العنب والنبيذ بين الخليل وحوران وبين غزة ودرعا؟!
ماذا أقول للرفيق عدنان جابر عن الوطن والوطن لم يعد هو الوطن؟. ومن في الوطن يلطموننا بخطابات التجهيل، ويضللون شعبنا انهم بالجهل وبمحاربة العلم وبإغلاق وتغييب العقل سينتصرون على عدو يتسلح بالعلم والتكنولوجيا؟!
وهل بمقدور الجهل أن يهزم العلم؟!!!