يوم 29 نيسان (أبريل)، كان ذلك هو الموعد الذي يفترض أن يشهد، وفق الجدول الزمني المبدئي لجون كيري، موعد توقيع اتفاقية لإنهاء الصراع بين إسرائيل وفلسطين. لكنه يرجح أن يذهب إلى غياهب التاريخ لسبب آخر: بوصفه اليوم الذي ماتت فيه “عملية السلام” الحديثة. وقد لاحظنا وزير الخارجية منخرطاً في سباق مع الزمن لإقناع الأطراف بالاستمرار في التفاوض في ما بعد نهاية نيسان (أبريل). وقد يكون اتفاق الوحدة بين الفصيلين الفلسطينيين، فتح وحماس، الذي حدث قبل وقت قصير من نهاية مهلة المفاوضات، قد عقّد مهمته. وبالرغم من ذلك، فإن كل أولئك الذين يعتقدون، مثلي، بأن اتفاقية الدولتين هي الطريق الوحيد لإنهاء النزاع الذي مضى عليه نحو قرن بين الإسرائيليين والفلسطينيين قد أملوا على عكس الأمل بأن يتمكن من النجاح -صحيح؟
خطأ. لقد حان الوقت لكي نواجه الحقائق: إن ربع قرن من محادثات سلام تجري وتتوقف قد ترك الفلسطينيين خالي الوفاض، ولم يكن هناك أي مسوغ للاعتقاد بأن النتيجة ستكون مختلفة بأي شكل هذه المرة. ولكم أن تدرسوا الحجة بدلا من الأصوات، كما كان من الواضح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لا يتوافر على النية ليقدم للفلسطينيين صفقة تمنحهم دولة قابلة للحياة.
من أجل أن تؤتي أي اتفاقية سلام ثمارها، فإنها يجب أن تفي بشرطين جوهريين رئيسيين: الأول، يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء أن يقرناها باستفتاءين منفصلين. لن تكون بداية موفقة إذا شعر أي من الشعبين أن الصفقة غير عادلة، أو أنها تضحي بالكثير جداً من حقوقه الأساسية. وأما الشرط الثاني، فهو أن تتمخض اتفاقية السلام عن تحقيق السلام بحق. فبعد أعوام عديدة تعقب توقيع صفقة، سيكون هناك في كلا الطرفين من يقوم بالتهييج بهدف تجديد النزاع، وما لم يشعر الإسرائيليون بأنهم أكثر أمناً والفلسطينيون بأنهم أكثر ازدهاراً وحرية، فإن دوامات جديدة من العنف ستتفجر مجدداً لا محالة.
هنا تكمن المشكلة: إن نتنياهو يريد من الفلسطينيين التوقيع على صفقة أحادية الجانب، بحيث أنها حتى لو أوفت بالشرط الأول، فإنها ستفشل على وجه التأكيد في الوفاء بالشرط الثاني. وبعد أن أمضى مهنته السياسية كلها، بما في ذلك فترته الأولى كرئيس للوزراء، وهو يفعل كل ما باستطاعته لمعارضة حل الدولتين، وجدناه قد غير على نحو تعسفي موقفه تحت تأثير ضغط أميركي هائل، وبدأ يقول منذئذٍ أن صفقة متفاوضاً عليها هي ضرورية لمستقبل إسرائيل. لكنه حتى مع أنه أصبح يتحدث الآن عن السلام والدولة الفلسطينية، فإن فهمه لتلك الكلمات يقع على مسافة بعيدة جداً عن معناها الاعتيادي. ونتيجة لذلك، فإن أي اتفاقية كانت ستتمخض عنها هذه المفاوضات ستفشل فقط في تحقيق العدل للفلسطينيين -وستفشل في جلب سلام دائم.
كيف أعرف هذا؟ لأن نتنياهو قاله مرة تلو المرة لكل من يريد أن يسمع. ومن المعروف عالمياً -لدى المجموعة الدولية والخبراء المستقلين والقادة الإسرائيليين السابقين ومجموعات مجتمع مدنية في الولايات المتحدة وإسرائيل وفلسطين- أن الشرطين الأساسيين للدولة الفلسطينية هما عاصمة في القدس الشرقية، وحدود تستند إلى خط العام 1967 (مع تعديلات صغيرة يتم التوافق عليها). لكن “دولة فلسطينية”، وفق نتنياهو، لا تشتمل على أي منهما. وكان قد قال ذلك في أيلول (سبتمبر) من العام 2009، في نفس الكلمة التي غير فيها وجهة معارضته الطويلة لحل الدولتين. وقاله كذلك في أيار (مايو) من العام 2011 عندما حاول الرئيس أوباما إطلاق المباحثات بين الجانبين. وكان ما يزال يقول ذلك في كانون الثاني (يناير) بينما يخوض حملة الإعادة في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، كما استمر في قول الشيء نفسه بينما كانت تجري المباحثات التي رعاها كيري. وليس من الغريب أن يقول والد نتنياهو ومعلمه السياسي، بنزيون نتنياهو، عن “تبني” نجله لدولة فلسطينية: “إنه لا يدعمها. إنه يدعم أنواع الشروط التي لن يقبلوها”. يقصد الفلسطينيين.
لكن نتنياهو سياسي، وبراغماتي ضليع في ذلك. ألم يكن ممكناً، خلف الأبواب المغلقة لغرف التفاوض، أن يتخلى عن اعتقاداته من أجل أن يؤمن صفقة؟ لكن كل القوى التي تعمل مع نتنياهو -حزبه الليكود، وحكومته الائتلافية، ولوبي الاستيطان، (القوة السياسية الأكثر قوة في إسرائيل)- يصرخون به للتراجع عن التسوية. كما وفرت التسريبات من المفاوضات دليلاً على أنه يقوم بذلك بالضبط، عارضاً على الفلسطينيين حدوداً على طول “حاجز الفصل”، وعاصمة في ضاحية تبعد أميالاً عن وسط القدس.
ما هو، بالضبط، الذي سيكون بالغ السوء في ذلك؟ من المؤكد أنه سيكون قاسياً بالنسبة للفلسطينيين الذين كان إيهود أولميرت قد عرض عليهم صفقة أفضل بشكل كبير في العام 2008. لكن اقتراح نتنياهو كان سيترك لهم حوالي 90 في المائة من الضفة الغربية. فهل يستحق الأمر الاستمرار في الصراع على النسبة المتبقية والبالغة 10 في المائة (حوالي 500 كم مربع)؟ لكن هذا الرقم مضلل. لأنه إذا اتبعت حدود الدولة الفلسطينية الجديدة مسار حاجز الفصل، فإنها ستواجه ثلاث تداعيات كارثية. الأولى، أنها ستفقد موارد مائية رئيسية والكثير من أفضل الأراضي الزراعية في الضفة الغربية. والثانية، أن مراكزها السكانية الرئيسية ستكون مفصولة عن بعضها البعض. والثالثة والأكثر أهمية، أن القدس-موئل الحياة الاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية- ستبتر. وحتى لو وجدت إسرائيل بشكل ما طريقة لحمل الفلسطينيين بقوة على قبول هذا الترتيب، فستكون الدولة الناجمة مقطعة الأوصال مناطقياً وميتة اقتصادياً. وأياً يكن عاثر الحظ الذي سيصبح قائدها، فسيكون عليه أن يقبل في الحال بوجود الساعين بعنف إلى خلق التوترات عبر الحدود أو ركوب موجة الاستياء والسخط الشعبيين من السلطة الفلسطينية.
ولكن، ماذا عن الطرف الثالث في المباحثات: الولايات المتحدة؟ ألم يستطع جون كيري استخدام النفوذ الفائق الذي تتمتع به حكومته لترجيح الميزان لصالح التوصل إلى صفقة متساوية من خلال الضغط على إسرائيل لتعرض على الفلسطينيين صفقة يقبلونها؟
من خلال مجلة “نيويوركر” دعاه بيرنارد أفيشاي إلى فعل ذلك بالضبط عبر شرح خطته السلمية الخاصة (على طول خطوط كلينتون)، والتي يتحدى الجانبين بأن يقبلا بها. وينطوي فعله ذلك على تحميل إدارة أوباما تكاليف سياسية كبيرة. لكنها لو كانت مستعدة للصمود في وجه الغضبة الحتمية من داعمي إسرائيل المفعمين بالقوة في واشنطن، فإنها قد تكون قادرة على ليّ ذراع نتنياهو. وهذا كله جميل جداً من الناحية النظرية، ولكن التسريبات التي صدرت عن المفاوضات تشي بأنه بدلاً من الدفع ضد موقف إسرائيل غير المتهاون، فإن كيري يدعمه. ومرة أخرى، فإن هذا ما تتوقعه من التحليل العنيد للقوى التي تعمل مع أوباما. فالحزب الديمقراطي والكونغرس ومؤسسة واشنطن في السياسة الخارجية والكثير من وسائل الإعلام الأميركية كلها تعتبر مصطفة إلى جانب الدولة اليهودية، أكثر أو أقل. ثم هناك المسألة المتعلقة بإيباك وباقي اللوبي المحلي المؤيد لإسرائيل. وعلى العكس من ذلك، فإنك نادراً ما تسمع أصواتاً داعمة للفلسطينيين في المكتب البيضاوي.
تساعد كل هذه الحقائق في تسليط الأضواء على عيب رئيسي في العملية السلمية. إن الصراع بين إسرائيل وفلسطين ليس مجرد سوء تفاهم من الممكن حله بمجرد تشجيع الجانبين على الجلوس والتحدث كراشدين. كما أنه ليس لقاء بين نظيرين راغبين كليهما في تبادل التنازلات حتى يتم التوصل إلى تسوية. بدلاً من ذلك، يفكر المرء في طلاق مرير بائن يترتب معه على الزوجين أن يتفاوضا على تقسيم أصولهما -باستثناء أن الزوج يتوافر على كل شيء تحت تصرفه: مدخرات الحياة والبيت والسيارة والأولاد. وهنا يكمن الشيء المهم في انهيار المفاوضات، حيث لا شيء سيوقفه عن الانسحاب ومعه كل شيء حتى يحين الموعد الآخر للمفاوضات. وفي هذه الظروف، ما هو الدافع الذي يمكن أن يحمله على التفاوض بشكل نزيه – أو إلى السعي من أجل التوصل إلى صفقة على الإطلاق؟
لو أن عملية السلام كانت مجرد مضيعة للوقت، فمن الطبيعي أنه لم يكن هناك أي ضرر في السماح للأطراف بالانجرار فيها بلا طائل حتى يوم القيامة. لكنهم بعيدون عن ألا يلحق بهم الضرر: في الحقيقة، كل يوم يمضي يجعل من قيام دولة فلسطينية مستقلة أمراً أقل احتمالاً. فمن جهة، ومن خلال التركيز حصرياً على مفاوضات عقيمة، يكون القادة الفلسطينيون قد أهملوا –بل وحتى قمعوا- كل أشكال المقاومة الأخرى، بما في ذلك المقاومة الشعبية غير العنيفة التي قد تقدم أفضل فرصة لإنهاء الاحتلال. ومن جهة أخرى، ومن خلال الدخول في مفاوضات سلام، يمكِّن الفلسطينيون إسرائيل من إسكات صوت النقد الدولي، لأنها تستطيع الادعاء بأنها تحاول إيجاد حل للصراع. وأخيراً، ومن خلال الموافقة على تأجيل محاولات جلب إسرائيل إلى العدالة عبر وكالات الأمم المتحدة بينما تكون المفاوضات متواصلة، يكون الفلسطينيون قد تخلوا عن أنجع وسيلة لديهم للدفع ضد القضم المتدرج والمستمر للضفة الغربية.
تترك عملية السلام الفلسطينيين بأحد خيارين: محادثات غير منتهية تفضي إلى لا مكان، أو التسليم في شكل القبول بدولة غير قابلة للحياة بعد الموت. لذلك، كان يجب أن ينسحب محمود عباس وفريقه من هذه التمثيلية والسعي إلى طرق جديدة لتجديد الحركة الوطنية. (كانت المصالحة بين فتح وحماس خطوة في الاتجاه الصحيح). إن الطريق إلى الأمام مليئة بالمخاطر -من غير المرجح أن ترد إسرائيل بالصمت على أي استراتيجية فلسطينية أكثر وثوقاً- لكن المخاطرة الكبيرة تكمن في مواصلة المسار الراهن، وتبادل الخرائط والمذكرات في غرف التفاوض، بينما يتم في الخارج دفن الآمال بقيام الدولة الفلسطينية تحت أطنان من ركام التسوية.
الغد الأردنية