هناك ما هو أهمّ بكثير من انعقاد الإجتماع الأوّل لحكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية في غزّة. كانت لهذا الإجتماع رمزيته نظرا إلى انعقاده في منزل رئيس السلطة الوطنية السيّد محمود عبّاس (ابو مازن). وهذا يعني في طبيعة الحال أنّ “حماس” تعترف، ظاهرا، بالسلطة الوطنية وبوجود رئيس لها وبأنّ الأراضي التي تحكمها هذه السلطة، ولو نظريا، تشمل قطاع غزّة، اضافة إلى الضفة الغربية طبعا.
هل يمكن تجاوز رمزية الإجتماع واعتبار أن ثمّة جدّية لدى “حماس” في ما فعلته عندما سمحت لحكومة الدكتور رامي الحمدالله بالإلتئام في غزّة… أم أن الأمر مجرّد ذر رماد في العيون وأن هناك مرحلة لا بدّ من تمريرها، حتى لو كان الثمن التظاهر بالإعتراف بسلطة السلطة الوطنية على قطاع غزّة أيضا.
المرجّح أنّ “حماس” قامت بما قامت به وسمحت بمجيء الحكومة إلى غزّة لتمرير مؤتمر اعادة اعمار القطاع الذي انعقد في القاهرة لا أكثر. بعد ذلك، ستعود الحركة إلى ممارساتها القديمة التي تصبّ في تكريس غزّة “امارة اسلامية” على الطريقة الطالبانية أو الداعشية…
من هذا المنطلق، الأهمّ من جلسة الحكومة في غزّة اعتراف “حماس” بأنّ كلّ ما أقدمت عليه حتّى الآن يصبّ في خدمة الإحتلال الإسرائيلي وأنّ كلّ ما ابتغته من حرب غزّة الأخيرة، بدءا باحراج مصر، لم يكن سوى احلام. الدليل على ذلك، أن مصر لم تعانِ من أي حرج. في نهاية المطاف، كان لا بدّ من الذهاب إلى القاهرة للموافقة على المبادرة المصرية الهادفة إلى وقف النار في غزّة.
تأخّرت “حماس” شهرا كاملا في قبول المبادرة بحجة أنّ القاهرة لم تتشاور معها قبل الإعلان عنها، بل اكتفت بموافقة رئيس السلطة الوطنية على المبادرة. كان طموح “حماس” واضحا كلّ الوضوح ويتمثّل في الإعتراف بها بديلا من السلطة الوطنية، أو أقله سلطة موازية لها في ضوء سيطرتها على غزّة بقوّة السلاح.
خلال هذا الشهر، استطاعت اسرائيل، بفضل ممارسات “حماس” الطامحة إلى التأثير في الداخل المصري لمصلحة مشروع الإخوان المسلمين، ممارسة إرهاب الدولة مرّة أخرى وليس أخيرة. من زار غزّة بعد العدوان الإسرائيلي يتحدّث عن دمار كبير. شاهد زائر غزّة كيف أن مئات المدارس وعشرات المستشفيات والمستوصفات صارت انقاضا. اضافة إلى ذلك، هناك آلاف المنازل التي لم تعد صالحة للسكن. هناك احياء بكاملها أزيلت من الوجود…
هناك خسائر ضخمة لحقت بالقطاع، بدءا بالخسائر البشرية. كلّ هذا الدمار الذي اصاب البشر والحجر من دون أن تؤدي الحرب إلى أي نتيجة. لا يزال الحصار الإسرائيلي قائما. لا ميناء يعمل ولا مطار ولا كلام حتّى عن السماح لصيادي السمك بالابتعاد كثيرا عن الشاطئ بحثا عن رزقهم.
في النهاية، الموضوع ليس موضوع اجتماع الحكومة في غزّة. الموضوع موضوع الإعتراف بالفشل الذي في اساسه فوضى السلاح التي أصرّت “حماس” عليها من أجل التمهيد للإنقلاب الدموي الذي نفّذته منتصف العام 2007. الموضوع هو موضوع رفض المشروع الوطني الفلسطيني الذي يعترف به المجتمع الدولي في وجه اصرار حكومة بنيامين نتانياهو على فرض احتلالها لجزء من الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. الموضوع أيضا، موضوع بيع الفلسطينيين الأوهام من أجل الإنتهاء بهم يحاولون الفرار من غزّة في سفن الموت التي تنقل مهاجرين من دول المنطقة إلى الشواطئ الأوروبية.
انتصرت “حماس” على غزّة. ماذا ستفعل بهذا الإنتصار الذي لا يخدم سوى الجهات التي مارست منذ أعوام طويلة مهنة المتاجرة بالفلسطينيين والقضية الفلسطينية؟ الإنتصار على غزّة ليس انتصارا. إنّه هزيمة وجريمة كبرى في الوقت ذاته. ليس كافيا السماح بعقد اجتماع للحكومة في القطاع. الحاجة إلى أكثر من ذلك بكثير. الحاجة الملحّة إلى التخلص من السلاح غير الشرعي ومن الصواريخ الإيرانية المضحكة المبكية التي لا يمكن سوى أن تجرّ مزيدا من الخراب على غزّة وأهلها فضلا عن جعل المجتمع الدولي والعرب الشرفاء، الذين وقفوا مع مصر وأهلها وثورتها على الإخوان في موقف المتردد.
كيف يمكن الإستثمار، من زاوية انسانية، في عملية اعادة بناء غزّة في حال كان هناك من هو على استعداد لمغامرة عسكرية جديدة ستتكفل بتهديم كل ما تحقّق على الصعيد العمراني.
قبل التفكير في كيفية اعادة اعمار غزّة، لا بدّ من توافر شروط معيّنة. في طليعة الشروط امتناع “حماس” عن العودة إلى ممارسات الماضي. لكنّ السؤال الملحّ هنا، هل يمكن لتنظيم اخواني التزام تعهدّاته، أم كلّ ما في الأمر أن الهدف المباشر لـ”حماس” يقتصر على تمرير المرحلة والعودة إلى ممارسات الماضي؟
ليس مسموحا العودة إلى هذه الممارسات بأي شكل. هل تستطيع “حماس” استيعاب ذلك، أم أن الطبع عند مثل هذا النوع من التنظيمات الإسلامية المتطرفة يغلب على التطبّع؟
مرّة أخرى، كان عقد جلسة للحكومة الفلسطينية في غزّة تطورا ايجابيا. ولكن ماذا بعد ذلك؟ ما الذي سيفعله أهل القطاع في الأشهر القليلة المقبلة؟ هل يبقون تحت الحصار؟
واجب الحكومة الفلسطينية، على الرغم من ضعفها الشديد وعلى الرغم من وجود سلطة وطنية لا تتحمّل أي شخصية ذات وزن، السير في خط واضح بعيدا عن الغوغاء.
صحيح أنّ السلطة الوطنية ضعيفة ولا تتحمّل حتّى شخصا مثل الدكتور سلام فياض الذي يعتبر خروجه من موقع رئيس الوزراء خسارة لا تعوّض لفلسطين والفلسطينيين، لكنّ الصحيح أيضا أن هذا الضعف لا يبرّر الإمتناع عن تسمية الأشياء باسمائها. هذا يعني في طبيعة الحال الإنتقال إلى مرحلة يوجد فيها من يبلغ “حماس” أن لا معنى للمصالحة الوطنية ولحكومة رامي الحمدالله كلّها من دون صدور اعلان صريح ذي شقّين. الأوّل سياسي والآخر امني.
سياسيا، لا أفق للمصالحة من دون قبول “حماس” المشروع الوطني الفلسطيني القائم على حلّ الدولتين. كلّ ما عدا ذلك خدمة للإحتلال ومشروعه التوسّعي.
أمنيا، لا مفرّ من التخلي عن الصواريخ وكلّ سلاح غير شرعي والخضوع نهائيا للسلطة الوطنية. فمن يعتقد أنّ في استطاعته تحرير فلسطين من غزّة أو اسقاط النظام في مصر انطلاقا منها، إنّما يعمل من أجل الهدم وليس من أجل البناء. هل من عاقل على استعداد لصرف دولار واحد في غزّة من أجل تكرار حروب السنوات القليلة الماضية، أي من أجل الإستثمار في مزيد من الدمار؟
عن ميدل ايست