سان سلفادور– أصبح مقبولاً الآن بشكل عام أن قسمة شمال/جنوب التي تم خلقها في نهاية الحقبة الاستعمارية وائتلاف “الدول الجديدة” ضد شمال العالم القوي قد انتهت مع وصول العولمة. هناك الآن مناطق من العالم الثالث أصبحت داخل الشمال، ومناطق من الشمال أصبحت داخل الجنوب.
* * *
لم يعد العالم ثنائي الأقطاب، مع خلق القوتين العظميين تلك القسمة الأخرى: قسمة شرق/غرب. وأصبحنا نسكن الآن عالماً متعدد الأطراف، تُظهر مجموعة كبيرة من الاختصارات (بلدان بريكس، BRICS، العشرون الكبار G20، وخطة التحول التكنولوجي TTP) كيف أنه أصبح مقسماً الآن إلى طبقات متعددة.
قسمة شرق/غرب اختفت في الأساس، ولكن…
مع ذلك، وفي حين اختفت قسمة شرق/غرب أساساً (حتى لو كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلعب لعبة ماكرة لإبقاء روسيا حية كمنافس عالمي، بدلاً من القبول بأنها مجرد لاعب إقليمي)، فإن قسمة شمال/ جنوب ما تزال حية ثقافياً وسياسياً، في حين تشكل التجارة والتمويل على وجه الخصوص قوى هائلة للتكامل.
على المستوى الثقافي، تستمر شعوب الشمال في الحفاظ على واقع متمركز جغرافياً للعالم؛ حيث تظهر إحصاءات التبادلات الثقافية أنه ليس هناك سوى كمية صغيرة من المنتجات الثقافية التي تتدفق من الجنوب إلى الشمال؛ ويأتي التدفق المهيمن دائماً بين الولايات المتحدة وأوروبا. أما من الناحية السياسية، فيتفاعل شطرا الشمال مع بعضهما بعضاً بقدر أكثر بكثير مما يتفاعلان مع الجنوب. ولا ينعكس نمو الصين وآسيا، باعتبارهما قوى القرن الحادي والعشرين، في مجالات الثقافة والسياسة على الإطلاق.
في الوقت الذي يشعر فيه الناس برابطة وبحس من الجمعية فيما بينهم، تستمر الحملات ضد المهاجرين بالنمو. وكلما أصبح الشمال أقل أهمية في العالم الجديد متعدد الأقطاب، أصبح رد الفعل أقوى في شكل اللجوء إلى الأحزاب الشعبوية والقومية الكارهة للأجانب، والتي تحلم بعودة إلى الأيام الخوالي. هذا هو السبب في أننا نشهد نشوء حركات سياسية جديدة مثل “حزب الشاي” في الولايات المتحدة والأحزاب الشبيهة في أوروبا، والتي ستلعب دوراً مهماً في الانتخابات الأوروبية المقبلة.
في التبادل السياسي والثقافي، ثمة القليل من الشك بأن محور الشمال هو الولايات المتحدة. ويبقى مواطنوها غير مهتمين بأوروبا التي يعتبرونها عالَماً مختلفاً، عاكفاً على حماية شؤون الرعاية والرفاة بلمسة من الاشتراكية (ندد راش ليمبو من “فوكس نيوز” بالبابا فرانسيس باعتبار أنه يغرس بذور الماركسية النقية).
أوروبا تتطلع إلى الولايات المتحدة
لكن أوروبا، على العكس من ذلك، تتطلع إلى الولايات المتحدة التي ما تزال تعتبر على نطاق واسع قائد العالم. وتمارس الولايات المتحدة على أوروبا ما يُسمى في علم الاجتماع بالتأثير التظاهري، والذي يحدث عندما تتكون حالة إعجاب وتماه مع نموذج كاسب.
وهكذا، فإن ما يحدث في الولايات المتحدة في هذه الحقبة من العولمة النيو-ليبرالية ما يزال يمتلك الكثير من فرص الهيمنة في أوروبا. وليس هناك مثال أكثر وضوحاً ودقة مما يحدث في القطاع المالي، حيث تتصرف المصارف الأوروبية باطراد على غرار المصارف الأميركية، وحيث يشكل “وول ستريت” نقطة مرجعية للسلوك والمنهج.
المصارف.. مرة أخرى
وفقاً لجمعية المصارف الأوروبية، كسب نحو 2000 مصرفي أوروبي أكثر من مليون يورو في العام 2013 (1.186 في المملكة المتحدة وحدها)، وهو ما يخلق تأثيراً تظاهرياً آخر، والذي يُحتذى به بدوره في القطاع الصناعي: ثمة فجوة متنامية بين ما يكسبه المديرون مقارنة مع مستخدَميهم. ولا يعرض هذا النزوع بالمطلق أي علامة على التباطؤ، ويمكننا الثقة في أنه سيستمر.
في الآونة الأخيرة، في نهاية شهر كانون الثاني (يناير)، أعلن بنك “جيه بي مورغان” أنه زاد في اختتام السنة المالية 2013 تعويضات رئيسه، جيمي دايمون، بنسبة مذهلة هي 74 %، وبمجموع يبلغ 20 مليون دولار. كان هذا في سنة اضطر فيها البنك إلى دفع 20 مليون دولار في شكل غرامات، وأفلت بالكاد من التماس بإدانته جرمياً.
ثم أجرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقابلات في عالم المال، لترى كيف تم النظر إلى ذلك. وفي الخلاصة، قال تقرير نيويورك تايمز: في عالم تعويضات المديرين التنفيذيين، خاصة عندما يُنظر إلى ذلك من منظور مديرين تنفيذيين آخرين، وبشكل أوسع إطاراً في وول ستريت، فإن أجر دايمون والطريقة التي أقر بها لم يكن قابلاً للدفاع عنه فقط، وإنما كان جديراً بالثناء. وبعد عشرة أيام من ذلك، كرر فرانسيسكو غونزاليس، مدير بنك بلباو فيزكايا، خبرة دايمون بشكل أقل تواضعاً، عندما أعلن أن سيكسب 7 ملايين دولار في العام 2013.
أين ذهب الشباب؟
تساوي رواتب دايمون وغونزاليس مجتمعة معدل الدخل السنوي لما يقارب 2.250 شاباً في كلتا المنطقتين. فلا غرابة إذن في أن تكون الصفحة نفسها من صحيفة “نيويورك تايمز” قد حملت تقريراً بعنوان “تجار التجزئة يسألون: أين ذهب المراهقون؟” من المتوقع أن تكون مبيعات محلات ملابس المراهقين في الولايات المتحدة أقل بنسبة 6.4 % في الربع المقبل مما كانت عليه في الربع السابق.
حسناً، يبلغ معدل البطالة بين المراهقين في الولايات المتحدة 20.2 % في قطاع الشباب من الأعمار بين 16 و19 سنة، وهي نسبة أعلى بكثير من معدل البطالة القومي البالغ 6.7 %. لكن هذا نفسه يشكل حلماً في أوروبا، حيث معدلات البطالة بين المراهقين أعلى بكثير. وقد وجد مسح أجري في إيطاليا أن أغلبية العزاب فوق سن 35 ما يزالون يعيشون مع والديهم. وتظهر بيانات أخرى أن المحلات التي تبيع للطبقة الوسطى الدنيا تمر في أزمة، بينما تزدهر المحلات التي تبيع للأثرياء.
وهكذا، فإن اللامساواة الاجتماعية في صعود، ولدينا كل الإحصاءات التي تظهر السبب في أن كل نمو السنوات الأخيرة تقريباً قد ذهب إلى نسبة الواحد في المائة العليا من السكان.
الآن، أصبحت الطبقات الوسطى، كنتيجة لنضال بطول قرن كامل من أجل العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع عوائد النمو، تختفي بسرعة كبيرة. ووفقاً لدراسة أجرتها مدرسة لندن للاقتصاد، فإننا سنكون قد عدنا في غضون 16 عاماً إلى مستوى من اللامساواة الاجتماعية الذي ساد أيام الملكة فكتوريا (1837-1901). كل هذا، على خلفية اللامبالاة العامة في أوساط الطبقات السياسية المنخرطة في عراك أساسه المرجعية الذاتية على القضايا اليومية المباشرة.
البابا فرانسيس
كان الصوت الوحيد الذي شجب هذه العملية هو البابا الجديد. فبدلاً من الاكتفاء بدوره كوصي على اللاهوت والعقيدة، يتحدث البابا نيابة عن الناس الذين يجري إقصاؤهم.
يبدو أن القدرة على إنتاج أي شيء يتجاوز تناول القضايا اليومية أصبحت غائبة تماماً في الشمال، وعلى نحو مؤسف. في العام 2000، ألزم زعماء الدول في كل أنحاء العالم أنفسهم بعدد من الأهداف الاجتماعية، فيما سمي “الأهداف الإنمائية للألفية”. وما تزال هذه الأهداف بعيدة المنال. دعونا لا نتحدث عن قضايا التغيير المناخي، ونزع الأسلحة النووية، والقضاء على الجنّات المالية، ومراعاة المرأة وكافة القضايا التي كانت لها لحظتها المشرقة ثم تم نسيانها الآن.
ما يزال البابا فرانسيس مثابراً وثابتاً على موقفه. وإذا لم يتمكن النظام من التفاعل مع رؤيته، فستكون هناك فرصة ضئيلة لأن يتمكن من إيقاظ الحياة وجلبها إلى أطراف الطبقات السياسية المخدورة في الشمال.
الغد الأردنية