عندما كسبت القيادة الفلسطينية معركتها ونجح مسعاها لترقية وضع فلسطين إلى مكانة الدولة المراقب غير العضو في الأمم المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر)، تساءل الكثير من المتشككين على جانبي القسمة عن الفوائد العملية التي ستعود على الفلسطينيين من ذلك. ولم يحدث شيء لإسكات المشككين بعد. كما أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لم يفعل سوى القليل للاستفادة من نجاحه الدبلوماسي والبناء عليه.
كانت هناك تهديدات غامضة بـ”عزل” إسرائيل، وحديث متردد عن “عدم استبعاد” إحالة بعض الأمور إلى المحكمة الجنائية الدولية، وإعلان خافت صدر عن السلطة الفلسطينية لـ”دولة فلسطين” الجديدة.
والآن، وفي الوقت الذي أمل فيه الفلسطينيون تحقق لحظة فاصلة في مسيرة نضالهم من أجل التحرر الوطني، تبدو قيادات فتح وحماس منطوية على نفسها بشكل متبادل أكثر من أي وقت مضى. وفي الأسبوع قبل الماضي، كان الفصيلان يحاولان توجيه طاقاتهما مرة أخرى نحو خوض جولة جديدة من محادثات المصالحة، وهذه المرة في القاهرة، بدلاً من إبقاء الضوء مسلطاً على التعنت الإسرائيلي.
وهكذا، وبدلاً من تولي المسؤولية، تُرك لمجموعة من 250 فلسطينياً عادياً أمر إظهار الكيفية التي يمكن بها إعطاء “دولة فلسطين” معنى عملياً. وفي يوم جمعة، أقام هؤلاء الناشطون معسكر خيام، وأعلنوا عزمهم على تحويله إلى قرية فلسطينية جديدة تسمى “باب الشمس”.
وفي يوم الأحد التالي، في إشارة إلى مدى انزعاج إسرائيل من مثل هذه الأعمال من المقاومة الفلسطينية الشعبية، قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإخلاء شاغلي الخيام في غارة شُنت عليهم عند الفجر -على الرغم من أن محاكمَه نفسها كانت قد أصدرت أمراً قضائياً يمنح الناشطين مهلة ستة أيام قبل الإزالة، والذي جاء ضد أمر “إخلاء” الحكومة.
على نحو جدير بالانتباه، فإن الناشطين الفلسطينيين لم يرفضوا فقط منهج قادتهم القائم على فكرة “بهدوء بهدوء”، وإنما اختاروا أن يعكسوا في حركتهم صورة لتكتيكات المستوطنين المتشددين أنفسهم.
أولاً، أعلنوا أنهم كانوا يخلقون “حقائق على الأرض”، بعد أن أدركوا، على ما يبدو، أن هذه هي اللغة الوحيدة التي تتحدث بها إسرائيل أو تفهمها. ثم، اختاروا أكثر البقاع التي يمكن أن تتخيلها إسرائيل إثارة للجدل: وسط ما يسمى ممر E-1، وهو المساحة البالغة 13 كيلومتراً مربعاً من الأراضي غير المطورة بين القدس الشرقية ومدينة-مستوطنة إسرائيل الاستراتيجية، معاليه أدوميم، في الضفة الغربية.
وكانت إسرائيل تخطط طوال أكثر من عقد من الزمن لبناء مستوطنتها الخاصة في المنطقة E-1، ولو على نطاق أكبر بكثير، من أجل استكمال تطويق القدس الشرقية، وقطع العاصمة المستقبلية للدولة الفلسطينية عن الضفة الغربية.
وكانت الولايات المتحدة قد كفت يد إسرائيل عن ذلك، لإدراكها أن استكمال استيطان المنطقة E-1 سوف يبلغ العالم والفلسطينيين بنهاية حل الدولتين. لكن نتنياهو أعلن بعد تصويت الأمم المتحدة على ترفيع مكانة فلسطين عن خطط لبناء 4.000 منزل إضافي للمستوطنين هناك، عقاباً للفلسطينيين على “وقاحتهم”.
وفي الحقيقة، لا ينبغي أن تذهب المقارنة بين نشطاء باب الشمس والمستوطنين بعيداً جداً. وأحد الفوارق الواضحة هو أن الفلسطينيين كانوا يبنون على أرضهم، في حين أن إسرائيل تخرق القانون الدولي لدى سماحها لمئات الآلاف من المستوطنين بالانتقال إلى الضفة الغربية المحتلة.
وثمة فارق آخر، هو أن ردة فعل إسرائيل تجاه المجموعتين كانت مختلفة على نحو مقرر سلفاً. وذلك واضح بشكل خاص فيما يتعلق بما تسميه إسرائيل نفسها “البؤر الاستيطانية غير القانونية” -وهي أكثر من 100 من المستوطنات الصغيرة، على غرار باب الشمس، والتي أقامها المستوطنون المتشددون منذ منتصف التسعينيات بعد أن قطعت إسرائيل وعداً للولايات المتحدة بأن لا تجيز إقامة أي مستوطنات جديدة.
وعلى الرغم من الالتزام بتفكيك البؤر الاستيطانية، فقد سمحت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لهذه البؤر بالازدهار. وفي الممارسة العملية، وفي غضون أيام من ظهور الكرفانات الأولى على قمة تل في الضفة الغربية، يقوم المسؤولون بربط “البؤر الاستيطانية” بشبكات الكهرباء والمياه، ويبنون لها طرقاً ويعيدون توجيه مسارات الحافلات لتصل إليها وتشملها. وكان انتشار المستوطنات والبؤر الاستيطانية يؤدي بإسرائيل حتماً إلى الضم الفعلي لمعظم مناطق الضفة الغربية.
وفي تناقض صارخ مع ذلك، تم إغلاق جميع سبل الوصول إلى باب الشمس في غضون ساعات من نصب الخيام. وفي اليوم التالي أعلن نتنياهو الموقع منطقة عسكرية مغلقة. ٍوبمجرد أن انتهت عطلة السبت اليهودية، حُشدت القوات في محيط المخيم. وفي وقت مبكر من صباح يوم الأحد، قامت القوات باقتحامه. وكان نتنياهو يخشى بوضوح السماح بأي تأخير. فقد بدأ الفلسطينيون باستخدام وسائل الإعلام الاجتماعية خلال عطلة نهاية الأسبوع للتخطيط لإقامة تظاهرات حاشدة في الطرق المؤدية إلى موقع المخيم.
مهما كانت جهود الناشطين قد ذهبت بلا جدوى في هذه المناسبة، فإن المخيم يشير إلى أن الفلسطينيين العاديين قد أصبحوا في وضع أفضل من القيادة الفلسطينية الجامدة للعثور طرق مبتكرة لإحراج إسرائيل. وقد أشادت مسؤولة منظمة التحرير الفلسطينية الكبيرة، حنان عشراوي، بالناشطين وامتدحتهم على “أداتهم السلمية والمشروعة التي تتسم بأنها على درجة عالية من الإبداع” لحماية الأراضي الفلسطينية. ولكن فشل المسؤولين في السلطة الفلسطينية، بما في ذلك صائب عريقات، في الوصول إلى الموقع قبل أن يقوم الإسرائيليون بتطويقه، عزز الانطباع فقط عن وجود قيادة بطيئة جداً وضعيفة الخيال في الرد على الأحداث.
من خلال إنشاء باب الشمس، أوضح الناشطون بشكل ملموس ومرئي طبيعة حكم الفصل العنصري الإسرائيلي في الأراضي المحتلة. ورغم أن من غير المرجح أن يقوم مخيم صغير واحد بتغيير ديناميات الصراع في حد ذاته، فإنه يظهر للفلسطينيين أن هناك طرقاً يمكنهم بها أخذ الكفاح إلى إسرائيل نفسها.
وبعد الغارة الإسرائيلية، لخص أحد المنظمين، محمد الخطيب، هذه الفكرة ببلاغة: “بإنشاء باب الشمس، نعلن أننا نلنا ما يكفي من المطالبة بحقنا من المحتل -من الآن فصاعداً، سنقوم بأخذ حقوقنا بأنفسنا”.
وذلك، بطبيعة الحال، هو مكمن خوف نتنياهو الكبير أيضاً. وكان السيناريو الذي قيل إن معاونيه يشعرون بأقصى القلق منه هو أن يصبح هذا النوع من الشكل الشعبي من النضال معدياً. وإذا ما رأى الفلسطينيون أن المقاومة الشعبية غير العنيفة، على عكس الدبلوماسية التي لا نهاية لها، ستساعد في إيقاظ العالم وتنبيهه لمحنتهم، فإنه قد يكون هناك أكثر باب شمس -ومفاجآت أخرى لإسرائيل- قاب قوسين أو أدنى وراء المنعطف التالي.
وكان هذا النوع من التفكير بالضبط هو الذي دفع بالنائب العام الإسرائيلي، يهودا واينشتاين، إلى تبرير انتهاك نتنياهو لأمر المحكمة، على أساس أن المخيم سوف “يجلب احتجاجات وأعمال شغب ستترتب عليها آثار وطنية ودولية”.
إن ما يظهره باب الشمس هو أن الفلسطينيين العاديين يمكن أن يأخذوا النضال من أجل “دولة فلسطين” إلى إسرائيل –بل وحتى تحويل أساليب إسرائيل نفسها واستخدامها ضدها.
(ميدل إيست أونلاين(ترجمة: علاء الدين أبو زينة– الغد الاردنية.
*حائز على جائزة مارثا غليهورن الخاصة للصحافة. كتبه الأخيرة هي “إسرائيل وصدام الحضارات: العراق، إيران وخطة إعادة تشكيل الشرق الأوسط” (مطبعة بلوتو)، و”فلسطين تختفي: تجارب إسرائيل في اليأس الإنساني (كتب زد).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Palestinians Take the Fight to Their Occupiers