كما يُشاع في وسائل التواصل فقد أثار فيلم “حياة الماعز” أزمة دبلوماسية بين الهند والسعودية، رغم أننا لم نسمع شيئاً رسمياً بهذا الخصوص، ولكن من شبه المؤكد أن السعودية ستمنع عرض الفيلم في جميع المواقع التي لها سلطة عليها.
وفي سياق متصل، أثار الفيلم جدلاً بين النقاد وعلى منصات التواصل، بين من رآه مبالغة وتكريساً لصورة نمطية، وبين من رآه تجسيداً لواقع أليم ومفجع.
الفيلم إنتاج هندي، مقتبس عن قصة حقيقية لمواطن هندي مسلم اسمه “نجيب”، باع ممتلكاته المتواضعة لقاء “فيزا” وتذكرة سفر إلى السعودية بحثاً عن عمل محترم في أوائل التسعينيات، ليجد نفسه أمام شخص سعودي ادّعى أنه كفيله، وأخذه إلى الصحراء ليرعى الغنم والإبل، حيث عاش هناك أربع سنوات في ظروف عبودية قاسية، ينام في سيارة قديمة خربة، ولا يسمح له بالاستحمام أو حلاقة شعره، ولا يطعمه “كفيله” سوى رغيف خبز وبعض الفتات، بالإضافة إلى تعذيبه وإهانته بشكل مستمر، حتى تمكن مع صديقه الذي عاش ظروفاً مشابهة من الفرار، بمساعدة شخص إفريقي يعرف دروب الصحراء.
توفي صديقه ودفن في عاصفة غبارية، أما هو فانتهى به المطاف في مكتب سعودي رسمي (ربما الإقامة والجوازات)، حيث يأتي “الكفلاء” السعوديون باحثين عن مخدوميهم الفارين، وكلما تعرف “كفيل” على أحدهم ينهال عليه بالضرب والشتائم أمام الشرطة ودون أي اكتراث لانتهاك القانون الإنساني، ثم يعيده مجبراً إلى العمل.
الفيلم معروض على “نتفليكس” وهو مقتبس عن رواية هندية اسمها “حياة الماعز” كتبت بلغة “المالايالامي”، وكانت الأكثر مبيعاً لعام 2008، وطبعت منها 250 طبعة.
اعتبر البعض أن الفيلم يقدم صورة نمطية غير دقيقة عن السعودية، وصفوها بالمسيئة.. بيد أنه طرح في الأذهان سؤالاً عن حقيقة عيش بعض السعوديين في الخيام وبيوت الشعر وبين الإبل، استمراراً للحياة البدوية التي سبقت عصر التمدن والحداثة، وهذه صورة مخالفة لما في أذهاننا، والتي تعتقد أن جميع السعوديين يعيشون في مدن عامرة وحياة مرفهة ورغيدة.. والحقيقة أن فئات معينة ما زالت تعيش في الأرياف والمناطق النائية ضمن ظروف قاسية وخارج نطاق الحياة المدنية.
مع أن كلفة “بيت الشعَر” تفوق تكلفة بناء البيوت الطينية أو الحجرية.. إلا أن بعض البدو يفضلونها على البيوت الجاهزة، ويفضلون مواصلة الترحال والتنقل، ومن المعروف أن تطور النظام الاجتماعي والأخلاقي مرتبط تاريخياً بفكرة المنزل والاستقرار، لأنهما جزء من نظام اجتماعي سياسي أوسع يعرف بالدولة، وبالتالي القانون والنظام والتطور.. إلخ.
على أي حال، الأهم من وجهة نظري أن الفيلم طرح قضيتين في غاية الجدية والخطورة، هما: نظام الكفيل، والنظرة العنصرية تجاه الآخر، والتي ما زالت مستفحلة لدى أوساط عديدة في المجتمعات الخليجية، وإن شئت الدقة في جميع المجتمعات العربية.
ونظام الكفيل الذي تكاد تنفرد به دول الخليج عن سائر الدول؛ هو أن يجلب صاحب عمل ما عاملاً أو مستخدماً أجنبياً ويكون هو كفيله ومسؤولاً عنه وعن إقامته وكل تفاصيله، فيقوم بحجز جواز سفره، ومنهم من يتقاضى نسبة ثابتة من أجره طيلة فترة عمله، ويصبح مسؤولاً حتى عن إجازاته وسفره. وهو نظام لا يختلف بشيء عن العبودية واستغلال الإنسان بشكل بشع وامتهان حقوقه الآدمية.. وأعلن أن السعودية تخلصت من هذا النظام مؤخراً.
ولا ننسى أن السعودية تخلصت رسمياً من العبودية سنة 1964، ومع ذلك بقي بعض الإقطاعيين في اليمن وعُمان ومناطق أخرى (وأيضاً في موريتانيا) يحتفظون بأعداد من العبيد، حتى بعد تحريمها بالقانون. وهناك تقارير لجهات حقوقية ومنظمة العمل الدولية ومنظمات حقوق الإنسان انتقدت بشدة ظروف العمّال غير الآدمية (خاصة الآسيويين) وقسوة حياتهم وطريقة معاملتهم والتنكر لحقوقهم في عدد من دول الخليج.
ونظام الكفيل هو شكل من أشكال استغلال الإنسان، وهذا الاستغلال يُمارس بكل بشاعة على مستوى العالم، وبأشكال متعددة تندرج تحت مفهوم العبودية الجديدة (New slavery).
أما العنصرية، فقد تناولها بالنقد كتّاب ومثقفون خليجيون كُثر، منهم الروائي الكويتي سعود السنعوسي في روايته “ساق البامبو”، والتي انتقد فيها بجرأة وشجاعة النظرة العنصرية تجاه الآسيويين خاصة. وليس عندي شك أن هذه العنصرية المريضة موجودة لدى أغلب المجتمعات العربية، وقد ظهرت تجلياتها في التعامل غير الإنساني وغير العادل مع العمّال والمستخدمين الآسيويين، وبشكل يفتقر للأخلاق والرحمة. وقبل ذلك هي موجودة في الهند نفسها، حيث النظام الاجتماعي يقوم على الطبقية بشكل يسحق ويمتهن الفقراء وعامة الشعب.
وباعتقادي أن العنصرية هي آفة البشرية منذ أقدم الأزمان، وقد تتخذ أشكالاً وتمظهرات عديدة، على أساس ديني، أو طائفي، أو عرقي، أو مناطقي.. لكن أسوأها ما يقترن بالاستغلال: عنصرية الرجل الأبيض ضد السود والملونين، وعنصرية الطبقات الثرية ضد الفقراء، وعنصرية القوي ضد الضعيف.
وتنشأ العنصرية حين يعتقد الفرد أنه أفضل وأعلى منزلة من غيره لمجرد أنه ينتمي إلى فئة ما، أو لأنه ولد في بيئة معينة أو نشأ في طبقة مختلفة.
بالعودة إلى الفيلم، فقد وضع المخرج في المقدمة عبارة “الفيلم لا يقصد الإساءة لأي بلد أو شعب أو مجتمع أو عرق”. من ناحية فنية أشاد به العديد من النقاد، وهو الآن “ترند” على وسائل التواصل. بالنسبة لي أعجبني بشدة، وأحزنني أكثر، ومن الملاحظات السريعة أنه كان بالإمكان اختصاره، خاصة مشاهد التيه في الصحراء، والتقليل من بعض المبالغات، والتركيز أكثر على يوميات ذلك الهندي المسكين.
وبعد صدمة “حياة الماعز” بانتظار فيلم يتناول “حياة الفلسطيني” في غزة، وعلى الحواجز الإسرائيلية في الضفة، وفي المطارات ونقاط الحدود العربية والأجنبية.
عن صحيفة الايام