من أكثر موضوعات علم الاجتماع متعة، تلك التي تدرُس أَثر تغيّر نوع السكن على عادات الناس وأنماط علاقاتهم؛ فحياة الشقق والبنايات السكنية، تُغيّر أنماط العلاقات الإنسانية. في مساكن الأبراج، يكاد المرء لا يعرف جاره، ولا يعود قريباً من أسرته الكبيرة، فيقلّ التزاور، ويحدث ما قاله إميل دوركايم (1858-1917) عن المجتمع الحديث، بأن لا تعود العلاقات تعتمد على قرابة الدم، ويُصبح لقاء النّاس على أساس اهتماماتهم المشتركة ومصالحهم وتخصصاتهم. وتقلّص وسائل المواصلات والاتصالات الحديثة الاكتراث بالقرب المكاني.
في حرب غزة الأخيرة، كان منطق الدّفاع عن القتال حتى التوصل إلى هدنة ترفع الحصار، هو أنّ أهل غزة يموتون بحرب ومن دونها، ولكنه ربما موتٌ بطيء في الحالة الأخيرة؛ يموتون بتلوث مياه البحر بالمجاري، ونقص متطلبات الحياة والعلاج، وبالتالي على المواجهة أن تُوقف هذا الموت. أمّا منطق الأعداء، فهو أنّه إذا رفضت المقاومة قواعد اللعبة الإسرائيلية، التي يبدأ فيها أمثال بنيامين نتنياهو بالضغط على أزرار طائرات القتل متى شاؤوا وأوقفوها متى شاؤوا، فسيتم تسريع وزيادة التدمير. ومن هنا، وبدلا من قصف بيت من طابق أو اثنين، يسحقون برجاً من عشرات الشقق ومحال تجارية ومرافق حياة.
سكّان أبراج غزة ليسوا نتاج الحداثة التي تحدّث عنها علماء الاجتماع، بل ضحايا النّكبة، بما لها من عِلم خاص.
أسأل “سيّدة سيّدة” من سكّان “برج الظافر 4” الذي دمّره الاحتلال بشققه الأربع والأربعين، هي أم رمزي، صاحبة رحلة من رحلات التغريبة الفلسطينية من مخيّمات الأردن، مع زوجها الأسير المحرر الذي أبعد عند تحريره إلى سويسرا، فأسرع يتنقل بين الأردن ومصر وتونس، ليكون قرب الوطن، وصناعة الثورة فيه. وبعودته عقب أوسلو، لا يُطيل الكمون، ويبدأ المقاومة، قائداً للمواجهة في زمن انتفاضة الأقصى، فيستشهد. تروي ماذا كان يعني البرج، بعد الإياب من تونس: هو أول بيت نتملكه حقّاً؛ فهو نوعٌ من استقرار. هنا ولد لي أولاد وكبروا. جهاد، الذي حمل اسم أبيه الشهيد، لعب مع أقرانه هنا؛ ارتدى قميص برشلونة، ولعب في بطولة دوري فرق “البرج”، وهذه صورته مع ميدالية الفوز. وهنا كبرت البنات وصارت لهن صديقات، هُنّ ربما أكثر من أخوات، يتقاسمن قصص البنات وأسرارهن. وفي البرج إهداءُ الطعام في شهر رمضان، وصوت الأذان، وذهاب الفتية معاً للصلاة في المسجد ولهوهم في العيد.
لا يعني برجٌ في غزة شتات الأسر والعلاقات، كما يقول علماء الاجتماع؛ بل هو بالمنطق الفلسطيني، التئام الشتات لتلبية حاجة السكن عند لاجئين وعائدين من الشتات، وإعادة صياغة المجتمع ونهوضٌ جديد؛ نهوض لاجئة من مخيم الوحدات مع أسير محرر، عائدان من الشتات، لصناعة مجتمع وبناء بلدٍ ووطن.
ولأنّ الشتات كبير، فإنّ قصص البرج كثيرة، إحداها ترويها “وكالة أنباء الأناضول”، عن محمد وخطيبته أسماء، صاحبي شقةٍ في الطابق الثامن، مضى على خطبتهما أكثر من عام. محمد الذي كان في تركيا ويَحمِل جنسيتها ويُحبها، أراد بيتاً فلسطينيّاً تركيّاً، وكانا يؤجلان الزواج باستمرار، لأنّه مع راتب نهاية كل شهر يتوفر مالٌ لشراء بعض أثاثٍ تركي جديد للبيت. وأسماء كانت تحلم بفنجان القهوة معه على الشرفة، واعتَنَت بمواصفات الفرن الذي ابتاعاه، ووعدته أنّ أول ما ستعده له فيه “صفيحة تركية”. وحين وصلت غرفة النوم التركية البيت، حاولت جهدها تهدئة محمد الذي ثار غاضباً لأنّ “الطقم” خُدش أثناء التحميل، وهو يريد بيتاً “لا تشوبه شائبة”. ومحمد تلجمه الآن المفاجأة، فالصراخ ينفّس غَضباً من خدش، ولكن الصمت أطبق بعد سحق طبقات البرج.
تحمد أم رمزي الله على سلامة الأولاد، فقد غادروا قبل القصف؛ وتَحِمده أَسماء على سلامة روح خطيبها. استهدفوا ذكريات أم رمزي وأولادها في البرج، واستهدفوا حلم مستقبل أسماء ومحمد. بقي عندهم صور مُخزّنة في الهواتف الخلوية.
في بقايا برج آخر، شابان يَسخَران من العالم وهما يجدان بقايا مقاعد وثيرة في طابق شبه مهدم، فيجلسان كما لو كان ضيف يزور صديقه، ينظران للبعيد، فهل يفكران بانبثاق الحياة المقبل؟
أسماء تفكر في العرس والبيت، وتحلم بدعوة الرئيس التركي إليه؛ وجهاد سيلعب الكرة ويكبر، ويكون يوماً ما يريد.
القدس دوت كوم