في أعالي أسوار القدس، برج جهير بحضوره وجماله وتاريخه ومعانيه، هو برج اللقلق، هذا البرج سمة وطنية، وآبدة تراثية تعني أبناء الشعب الفلسطيني جميعاً، صغاراً وكباراً، أحياءً وأمواتاً، لأنه مروية فلسطينية تداولتها الألسن وما زالت، تتألف من حكايات راحت تتجدد في كلّ سنة، حين يهلّ الربيع بخضرته النّدية، وألوانه الباذخة، ودفئه المشتهى، وأزاهيره الساحرة، فالربيع هو موسم قدوم طيور اللقالق إلى بلادنا الفلسطينية العزيزة، التي تنشد الدفءَ، والطمأنينةَ، والأمانَ وأناشيدَ أطفالنا وأغنياتِهم في القرى والمدن الفلسطينية المرحّبة بهذه الطيور الأليفة، صاحبةِ الحضور المدهش، فهي زينة للحقول، والبراري، والحواكير، وأسطحة البيوت، وهي طيور تمتلك من الجسارة ما يجعلها تقتحم البيوت بوداعة ولطف لكأنها تريد الانتساب إليها لولا الضجيج الخارجي ونباج الكلاب الحارسة.
في هذا البرج العالي، الذي سماه أهالي القدس: برج اللقلق، بنت طيور اللقلق أعشاشها في فتحاته، وفي صواه الضوئية، وفوق رفوفه الحجرية، وداخل تجاويف مقرنصاته، وفي الأعشاش باضت، وربّت فراخها، بهدوء شديد وطمأنينة وارفة!
لم يكن علو البرج فوق الأسوارالعالية أيضاً هو السبب في طمأنينة هذه الطّيور التي كانت تشكل باجتماعها الكثيف حوله مهابةً من الحضور والأصوات والرفرفة بأجنحتها الطويلة الخلابة، مهابة سكانها الطّيور فقط، وإنما كانت مهابةً من تكبيرات بيت المقدس، وأجراس الكنائس الباعثة على طمأنينة طيور اللقالق التي لم تعرف الفزع أو الحذر أو الخوف من السكان، وقد رأتهم يأتون بسلال الطعام ويرمونها تحت قاعدة البرج إلى جوار الأسوار المقدسية، فتهبط اللقالق إليها، فتنتقي منها ما تشاء، لتعود بها إلى أعشاش أفراخها الصّغيرة.
سنوات وسنوات، وهذا البرج العالي هو قرية طيور اللقالق التي تأتيه في كلّ سنة، وفي كلّ ربيع، فتتكاثر في القدس، فتصير مواليدها مقدسية النسب، وتعيش هي وأفراخها في ظلال الدفء، فلا تعرف الخوف، ولا الفزع، ولا الفقد؛ لأن الأهالي عدّوها طيوراً مباركة وقد جاءت واحتمت بأسوار القدس وأبراجها، وساووها، في القيمة والحرمة، بطيور الحمام التي تهفو إلى المساجد والكنائس والبيوت لأن الطمأنينة لفّتها، فصارت جزءاً منها ومن سلوك أهلها.
الآن، ومنذ سبعين سنة وأزيد، ما عادت طيور اللقالق تأتي إلى أسوار القدس، وما عادت تُرى وهي تهندس تحليقاتها البديعة فوق برج اللقلق الكبير، وما عادت أعشاشها تُبنى في (طلاقيات) البرج، ولا في فتحاته، ولا داخل مقرنصاته الوسيعة، ولا على رفوفه الحجرية الوردية، وما عادت هذه الطّيور رائعة الألوان، تشكلُ قريةَ طيورٍ خاصّةٍ بالبرج والأسوار، وما عادت سلالُ الطّعام التي كان يحملها الصّغار والكبار تفرغ ما فيها تحت البرج وقرب أسوار القدس، وما عاد أحد من أهالي القدس وقراها ينتظر عودة طيور اللقالق مع كلّ ربيع، لأن رائحة البارود ملأت الأجواء، ولأن أصوات الطائرات المحومة، والعربات الجارية وسيارات الجيب الزّاعقة رعباً شوّهت صفاء الفضاء وعمّته، فما عادت تكبيرات المساجد ولا أجراس الكنائس تُسمع بصفاء وتوقير وشوق.. لتشيع الطمأنينة في المكان.
اللقالق، طيور الرّبيع، طيور الطمأنينة، طيور الدهشة والزينة.. التي كانت تبني قريتها السّاحرة فوق برجها، فوق أسوار القدس .. ما عادت تأتي بسبب روائح البارود، وبسبب الغرباء ناشري الخوف والفزع والقلق في المكان، ولكنها ستأتي مع الرّبيع القادم حين لا روائح للبارود، ولا وجود للغرباء، ستأتي فرحة على كفّ من هواء الشوق متهاديةً نحو برجها الذي مازال اسمه برج اللقلق.