سورية – بعد ثلاثة أعوام من بدء الحرب في سورية، كان واحد من الأشياء التي تعلمناها هو أن أتباع تنظيم القاعدة لا يريدون العيش في القرن السابع في حقيقة الأمر. إن وسيطهم الاجتماعي المفضل هو “تويتر”، وغالباً ما يستخدمون لغة التخاطب الحديثة عندما يغردون.
فيما يلي ما كتبه أحد الجهاديين مؤخراً كشرح لصورة تعرض بعض المعتقلين معصوبي الأعين : “أسرنا هؤلاء المجرمين اليوم. إن شاء الله سيقتلون غداً. لا أستطيع انتظار ذلك الشعور الذي يخالط عندما تقتل بعضهم”.
الأمر حقاً على هذا القدر من انحراف النفسية. وفي الأسبوع الماضي، أطلقت منظمة “أنقذوا الأطفال” شريط فيديو انتشر مثل الفيروس لجمع التبرعات لصالح سورية، والذي يظهر طفلة تبلغ من العمر تسعة أعوام في حفلة عيد ميلاد، تتبعها مجموعة من الصور التي تمزقت فيها حياتها اليومية بسبب القنابل والنفي ومخيمات اللجوء. وقد ملأ ذلك العيون بالدموع في لحظة من التأمل في المصير. ولاحظت أن الحملة كانت على ما يرام، طالما أدرك الناس أن الحقيقة كانت أسوأ من ذلك بكثير.
لكن الأشرطة التي لم تشاهدوها تظهر فتيات صغيرات مثل الفتاة في الصورة، ممزقات –حرفياً- إلى جزأين بفعل القصف الجوي للنظام، وقد تدلت أحشاؤهن؛ أو تكدسن في زاوية إحدى البنايات المهدمة. وثمة حناجر مقطوعة بعد أن ذبحها أحد الشبيحة، أو أفراد المليشيات، الذين ينثرون بذور الإرهاب على هوامش الهجمات العسكرية؛ أو منتفخات وصفر الجثامين بعد استنشاق الغاز في انتظار مواراتهن الثرى.
إنكم لا تشاهدون الرعب الكامل لهذه الحرب. أؤكد لكم ذلك. ومع أن محررينا يستطيعون أن يروكم الواقع أكثر من أي وقت مضى باستخدام التقنيات المتوفرة لديهم، فإنهم لا يفعلون حفاظاً على شعور تقليدي باللباقة.
قبل عام، سخط العالم من مشهد أبو صقر، القائد الثانوي من الثوار، وهو يتظاهر بأكل قلب وكبد خصم قتيل. وفي الشهور التي تلت ذلك، علمنا أن ذلك لم يكن أكثر من عرض كوميدي جانبي للمأساة الأكبر، حيث تجاوز العدد الرسمي للقتلى حاجز 100.000 قتيل، وتصاعد بلا توقف –يرجح أن يكون الرقم الفعلي الآن 200.000 قتيل أو حتى أكثر. وفي يوم واحد، 21 آب (أغسطس) من العام الماضي، قتل نحو 1400 شخص في هجوم واحد بالأسلحة الكيميائية.
حتى بينما أكتب الآن، يجري تدمير مدينة حلب الكبرى والمجيدة التي تعد واحدة من أقدم منارات الحضارة الإنسانية. المسجد الأموي الكبير فيها أصبح أطلالاً، وتتم تسوية ضواحيها يومياً بالأرض بفعل سلاح جديد، بخليط فوق اعتيادي من البساطة البدائية والسلاح المتطور، بنوع من السيكوباتية، بشكل من المرض النفسي في حد ذاته: البرميل المتفجر.
ليست لدينا فكرة عن سبب استخدام النظام هذا السلاح -ربما يعاني من نقص في الصواريخ الروسية، أو أنه ربما لا يريد هدرها في ضرب المدنيين. كل ما نعرفه أنه في إحدى النقاط في كانون الثاني (يناير) الماضي، ألقى النظام 30 برميلا محشواً بالديناميت والشظايا على مناطق مدنية في المدينة في كل يوم. وقتل جراء ذلك آلاف الأشخاص. ويجب استبعاد أي شك في أن تلك كانت محاولة متعمدة لنثر الرعب، ففي إحدى الضواحي كانت البراميل مرفقة بمنشورات تقول إن على كل السكان أن يغادروا. مع ذلك تستمر العملية. ولا نستطيع إدعاء الجهل كما فعلنا في الماضي. ومع مزاعم أشرطة الفيديو التي تمت فبركتها أو المعلومات التي بولغ فيها، فإن أحداً لا يشك في عمومية ما تغطيه أشرطة الفيديو غير المنتهية القادمة من “الداخل” ومباشرة تقريباً من مسرح الميدان أو القصف. ومع أن هذه الحرب تظل الأفضل من حيث التوثيق مقارنة بسابقاتها من الحروب، فإن مما يثير التساؤل أن ذلك قد جعلها الأقل قابلية للتوقف.
على مدار الأعوام الثلاثة الماضية تحدثت مع دبلوماسيين وضباط عسكريين ومحللين وساسة من كل أطياف هذا الصراع، ولا أحد منهم يتوقع أن ينجز هو أو أي أحد آخر، أي شيء للتوصل إلى نهاية سريعة للحرب. وقال أكاديمي سوري، كان يعيش ذات مرة تحت حماية النظام في دمشق ولكنه يعيش راهناً في المنفى، أن الوقت الذي يحدده المتفائل لأن تضع هذه الحرب أوزارها هو 10 أعوام، بينما يضع المتشائم 15 عاماً لهذه النهاية.
مع تطور الحرب، تفاجأ العديد منا، نحن الصحفيين الذين يزورون سورية، بأن هناك عداوة تتطور بين ظهراني بعض الناس تجاهنا، هذا بعد أن كنا موضع ترحيب في البداية، من جانب معارضي النظام على الأقل، لأننا سنطلع العالم على “الحقيقة”. وليس ذلك لأنهم يتهموننا بالكذب، كما يقولون الآن، أو لفشلنا في أداء واجبنا، وإنما لأن وصف تجاربهم يبدو وأنه يجعل الأمور تبدو أسوأ.
تدريجياً، أدركت أنه قد تكون هناك بعض الحقيقة في ذلك. ففي العام 1940 وخلال الهجوم على لندن، لاحظ الشاعر لويس ماكنيس نفس الأمر الغريب، وهو أن الوعي بمصير الآخرين يبدو أنه يجعل الناس أقل تعاطفا بدلاً من أن يكونوا أكثر وجدانية: “…حيث القدر يتساقط من السماء/ فإن لكل منا عذرا بأن لا يفعل أي شيء –دعوني أموت”. إن سيل الأخبار يقصينا عن الكارثة المتكشفة: “دعوه يموت/ نقطة ماء في بحر/ سلعة للصحفي”.
إن الأمر أشبه بمشاهدة أحدهم يعاني على شاشة التلفاز، وكأن الشعور بالحزن في حد ذاته يشكل الآن استجابة أخلاقية مناسبة.
ولكن، ما الذي نستطيع فعله؟ من الصعب الخوض في المحاججة ضد الشعور العام الذي استمعت إليه في الشارع وفي الحانات، وفي التعليقات على الإنترنت، والذي يقول إن هذه الحرب هي واحدة ليس فيها أي “أولاد طيبين”، وأن أي طرف ندعمه في محاولة التوصل إلى نهاية لها سيكون بمثل سوء الآخرين. وثمة وجهة النظر المحبطة التي تقول إنها “حرب مسلمة” أو “حرب عربية”، وكأن هذا المرض النفسي هو جزء من عقلية إثنية أو دينية نتدخل فيها تحت طائلة المخاطرة.
لا يتطلب الأمر أكثر من لحظة تفكير لاستبعاد ذلك: إن الانحراف النفسي يأتي مع الخصائص الثقافية، لكن ذلك شيء كوني. وكانت أسوأ حالات الإبادة الجماعية التي شهدها القرن الماضي من الناحية الثقافية إما مسيحية أو بوذية، لا شرق أوسطية. ويجب علينا أن نذكر، بتواضع، أن الأوروبيين هم الذين طوروا الأسلحة الكيميائية -واستخدموها أول الأمر في الشرق الأوسط.
وفي الحقيقة، تتبع هذه الحرب النمط القديم، حيث يتصاعد الإرهاب بينما تتلاشى الكوابح النفسية ويعاقب عدد أقل وأقل من المسؤولين. وثمة منحنى جديد أيضاً: يعني السفر الحديث أن باستطاعة الرجال الطيبين المغادرة ومباشرة حياة جديدة في الغرب. أما أولئك الذين يحاولون البقاء، مفتقرين إلى الوحشية الضرورية للاستدامة، فإنهم يهلكون، وغالباً ما يكون المتبقون هم أسوأ الأسوأ. دعونا لا نتظاهر: لقد كان خيارنا بعدم الانخراط أيضاً خياراً إيجابياً. فمنذ بداية الحرب، طالب الناشطون المعادون للحرب وكتاب الأعمدة في الصحف والمشرعون على حد سواء بأن نظل خارج الشرق الأوسط، هذه المرة فقط. هذا لم يكن قتالنا -بالرغم من انخراط الغرب الكولونيالي العميق في تنظيم هذه الدولة الفاسدة والدكتاتورية والطائفية. ثم، وعلى نحو إعجازي، استمعت حكوماتنا ورفضت فرض مناطق حظر الطيران أو الممرات الإنسانية أو إمدادات الأسلحة لمحاولة تقوية المعتدلين -وكان المعتدلون ذات مرة موجودين هناك- ضد أشرار النظام ومجانين الجهاديين.
ندعو أن يكونوا على حق في فعل ذلك، مع أنني ألاحظ عدم وجود حجارة تُلقى على أولئك الذين قالوا في حينه: “سوف نجعل الأمور أسوأ فقط”. كم من السوء كان يمكن أن تكون الآن.
في الأثناء، قررت أميركا الرئيس أوباما الالتزام بطلب العالم التوقف عن ممارسة دورها كشرطي. وقال الشرق الأوسط بعد العراق: أيها الطبيب، عالج نفسك. فقرر الرئيس أوباما تبني ذلك حرفياً، مركزاً طاقاته على إصلاح الرعاية الصحية في بلده بدلاً من قيادة العالم. وراهناً لا يوجد للعالم شرطي، حيث ثمة تداعيات يمكن التنبؤ بها. ولا يعني هذا بالطبع أن أميركا ستستوعب نصراً يحققه الأسد: ستكون إمدادات الأسلحة التي تم إيصالها عبر الوكلاء كافية فقط لإطالة أمد الحرب إلى أجل غير مسمى.
ربما لا نعبأ في نهاية المطاف. ربما يقترح بعض منظري الحرب أن سورية “ممكنة الاحتواء” في إطار حدودها. ماذا عنا نحن إذن في أوروبا، وعن طهارتنا الأخلاقية وإبقاء أيدينا النظيفة؟ ألا يبدو الأمر وأن المرض النفسي سيمتد إلى هنا، حقاً؟
ربما. لكن هناك شيئاً آخر في تلك التغريدة من الرجل الذي لا يستطيع الانتظار لتفريع شعور الإثارة الذي يصاحب عملية الإعدام. إننا لا نعرف هويته، لأنه يستخدم العديد من الأسماء الحركية، وأحدها هو “مجاهد البريطاني” –المحارب المقدس من بريطانيا! فكيف لنا أن نلطف مظهرنا الجديد.
الغد الأردنية