خرجت موسكو عن الأصول الديبلوماسية التي اعتمدتها لسنوات تجاه “الشركاء” الأوروبيين، ليستخدم الرئيس الروسي لغة هجومية عندما اعتبر أن الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب سيعيد ترتيب النظام الأوروبي بحيث أن “النخب الأوروبية” سوف “تقف عند أقدام سيدها وتهز ذيولها”.
الكلام جاء في مقابلة مع الصحافي الروسي بافيل زاروبين، بمعنى أنه كان لدى الرئيس الروسي الوقت الكافي ليفكِّر في كلماته وينتقيها “عن سبق إصرار وتصميم”. هذا ما قرأته روسيا في إعلان ترامب رغبته بإنهاء الحرب في أوكرانيا، بل وبدء فريقه العمل على ذلك، بما يشمل نقاشات “جدية للغاية” أجرتها إدارة الرئيس الأمريكي مع موسكو بشأن أوكرانيا، فيما صرح ترامب أنه وبوتين “سيتحدثان” و”ربما يفعلان شيئاً مهماً” في ملف إنهاء الحرب التي “لم تكن ستبدأ لو كنتُ رئيساً”، على حد تعبير ترامب.
الغزل الروسي لترامب ليس جديداً، وهو ليس نابعاً من علاقات ذهبية عاشها الجانبان في ولاية ترامب الأولى بالتأكيد، لكنه نابع من “انزعاج” مشترك من قادة القارة العجوز على ما يبدو، وفي المقدمة الانتقاد للرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي الذي كال له ترامب الانتقادات منذ عودته إلى البيت الأبيض، قائلاً إنه كان عليه (على زيلنسكي) إبرام صفقة مع بوتين لتجنب الصراع. يُطرب الروسي لسماع هذه التصريحات، ليس من منطق الملف الأوكراني الضيق فقط، بل من منطق الاعتراف الضمني بقوة موسكو وحقوقها في مجال الأمن القومي.
غير ذلك، يعلم الجميع أسباب الغضب الروسي من ممارسات حلف الناتو عموماً وشقه الأوروبي خصوصاً، يختلف ترامب مع أوروبا حول كثير من القضايا أبرزها الاقتصاد والأموال. ساكن البيت الأبيض توعد القارة العجوز بـ “رسوم جمركية” مماثلة لتلك التي فرضها على منتجات من كندا والمكسيك والصين، قائلاً: “إنهم يستفيدون منا حقاً كما تعلمون، لدينا عجز بقيمة 300 مليار دولار، إنهم لا يأخذون سياراتنا ولا منتجاتنا الزراعية، لا شيء تقريبا، ونحن نأخذ كل شيء، ملايين السيارات ومنتجات زراعية بمعدلات هائلة”.
الخلاف الآخر الذي يقف فيه ترامب على نفس الضفة التي يقف فيها بوتين هو ملف “المثلية الجنسية”. استهل ترامب ولايته بتوقيع أمر تنفيذي يُقيِّد إجراءات التحول الجنسي للأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 19 عاماً. يتفق هذا مع رؤية موسكو التي عبر عنها بوتين مراراً: “الحرية الجنسية مباحة بشرط أن تقترن بالقرار العاقل والواعي وليس بالتحريض منذ الطفولة على رفض مشيئة الخالق”.
وجهات نظر ترامب الـ “مختلفة حول ما هو جيد وما هو سيئ، بما في ذلك فيما يتعلق بالسياسة في المجال الاجتماعي وبعض القضايا الأخرى” هي أحد نقاط الالتقاء إذاً، لكن ترجمتها إلى واقع هو ما يحتاج إلى كثير من الدراسة والنقاشات. رغبة ترامب في سحب قواته من سورية مثلاً تشكل خطوة مهمة بالنسبة لموسكو التي تحارب اليوم لإبقاء قاعدة حميميم هناك على المياه الدافئة بعد إلغاء اتفاقية استثمار ميناء طرطوس. الانسحاب الأمريكي المُفترض خلال شهرين يجعل وقع الأمر أخفَّ على الكرملين.
لكن الأمور ليس ورديَّة إلى هذا الحد. ترامب ألمح إلى احتمال فرض “عقوبات وضرائب ورسوم جمركية” جديدة على روسيا وحلفائها ما لم يكن بوتين متعاوناً في الوصول إلى اتفاق قريب لإنهاء الصراع في أوكرانيا. رغم ذلك فإن الرغبة الأمريكية بإنهاء الصراع تعني لموسكو “خطوة إلى الأمام”، فالكرملين الذي قال مراراً وتكراراً إن “السبل السياسية هي النهاية الوحيدة للعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا” بحث لسنوات عن يد ممدودة من الطرف الآخر لكنه لم يجدها. الكرة الآن في المنتصف وليست في طرف أي من الخصمَين، أو الخصوم بعد التباين الواضح بين واشنطن وبروكسيل وكييف.
لم يلتقِ الرجلان (بوتين وترامب) حتى الآن، ورفض الأخير التعليق على سؤال ما إذا كانا تحادثا هاتفياً أم لا، لكن مصادر روسية قالت إن السعودية والإمارات بلدان مُحتملان لعقد قمة تجمع الرئيسَين. لا شك أن مجرد طرح اسمَي بلدين عربيين حصراً كمكان للقاء يعطي أهمية لكلا الدولتين على مستوى عالمي، وهو بالتالي يعطي إشارات مهمة عن طريقة تفكير الرجلين، وبالأخص ترامب.
ورغم أن كثيرين يرون في طريقة تعاطي ترامب مع العالم نوعاً من “الفوقية” و”الأفضلية الأمريكية”، إلا أنه بالنسبة للبعض، تعكس سياسات ساكن البيت الأبيض نديَّة أكثر من فكرة التبعية. يتعاطى الرجل مع العالم من مبدأ المصلحة الأمريكية المبنية على قناعة وإدراك لنقاط الضعف والخلل في السياسة الأمريكية، وفي هذا مؤشر واضح على اعتراف بأن العالم لم يعد اليوم حكراً على قوة واحدة تستطيع أن تدفع لأجل تبعية الجميع إليها، بدءاً من أوروبا وصولاً إلى “الشرق الأوسط” ومناطق أخرى في العالم. يشي تصرفات ترامب –عن قصد أو عن غير قصد- أنه يدرك عدم قدرة بلاده رغم قوتها على الاستمرار بهذا النهج الإنفاقي غير المتوازن، وقناعة بوجود مصالح لقوى أخرى في العالم يجب التعامل معها بواقعية سياسية، والهدف ليس “ملائكياً”، بل هو العمل على استعادة التفوق الأمريكي عالمياً بعد ترميم نقاط الضعف.
طريقة تفكير من هذا النوع نتج عنها كلام لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مقال له نشر في مجلة “روسيا في السياسة الدولية”، يعتبر فيه أن “التعددية القطبية تتعزز”، وأنه “بدلاً من معارضة هذه العملية الموضوعية، يمكن للولايات المتحدة، في المستقبل المنظور، أن تصبح أحد مراكز القوة المسؤولة إلى جانب كل من روسيا والصين وقوى أخرى في الجنوب العالمي والشرق والشمال والغرب”.