توالي فضائح التجسس بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وآخرها اعتقال عميل ألماني يشتبه في خدمته لصالح المخابرات الأمريكية، يضع أكثر من سؤال عن منطق العلاقات الدولية في هذه المرحلة، مثلما يؤكد أن العالم يتغير أو هو مقبل على تحولات ليس بالوسع ضبط حدودها ومنتهاها .
بوضع هذه المستجدات في إطارها التاريخي، هي تحدث في القرن الحادي والعشرين وتتزامن مع إحياء الذكرى المئوية الأولى للحرب الكونية الأولى، وفي سياقها الراهن تأتي في خضم تدهور العلاقات بين الشرق والغرب، معيدة أجواء الحرب الباردة بينهما، ومثالها الأكبر الصراع الجاري بين روسيا والحلفاء الغربيين حول أوكرانيا . وفي جهة أخرى من العالم تشهد منطقة جنوب شرقي آسيا توتراً متصاعداً وسباق تسلح تشترك فيه كل من الصين والكوريتين والهند وباكستان وفيتنام واليابان، وهذه الأخيرة وسعت من دائرة نشاط جيشها بما يمكنها من القتال إلى جانب حلفائها حتى وإن لم تتم مهاجمتها مباشرة . وقد أثار هذا التحوّل الياباني حفيظة الصين وكوريا الجنوبية فأعلنتا تشكيل جبهة موحدة ضد التحركات العسكرية المتزايدة لطوكيو .
من تحصيل الحاصل أن كل هذه التحوّلات والتشابكات لم تتشكل من دون تجسس يمهد لها الأرضيات ويضع لها الخطط . وإذا كان هناك جانب من الوجاهة في تجسس واشنطن على موسكو وعواصم أخرى تعتبرها “معادية” والعكس أيضاً، فإن تجسس واشنطن على حلفائها مثل الاتحاد الأوروبي بما فيه باريس ولندن وبرلين، فهذا ليس تسلية وإنما يعني أن أموراً كثيرة ليست جيدة، وأن فضائح التجسس المتوالية ترسي أجواء من انعدام الثقة سرعان ما ستكبح مساقات التعاون وتقلبها إلى تنافس قد ينتهي إلى صراعات شرسة .
عندما تم توحيد ألمانيا عام ،1990 كانت الغبطة الأمريكية كبيرة بأن برلين اتحدت على المذهب الليبرالي الغربي ولم تنته اشتراكية سوفييتية، ولكن الريبة في واشنطن من العملاق التاريخي في أوروبا ظلت كامنة في الظل . فحين قررت واشنطن غزو العراق واحتلاله عام 2003 رفضت ألمانيا/ غيرهارد شرودر وفرنسا/ جاك شيراك هذا الغزو واعتبرتاه عملاً غير مشروع، فما كان من وزير الحرب الأمريكي آنذاك دونالد رامسفيلد إلا أن وصف برلين وباريس بأنهما يمثلان “أوروبا القارة العجوز”، وهو وصف مهين تجرعه الألمان والفرنسيون على مضض .
في ذلك التاريخ لم ينكشف أن الولايات المتحدة قد تنصتت على الاتصالات الهاتفية بين شرويدر وشيراك، لكن قبل فترة دوت فضيحة التنصت الأمريكي على هاتف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ومازالت الأزمة إلى الآن متصاعدة بين البلدين . ولم يشفع التحالف القائم بين البلدين منذ الحرب العالمية الثانية في تخفيف التوتر المتزايد بينهما . وفي الواقع كانت كل المؤشرات توحي بأن العالم يتغير وبأن انقلابات وتحولات خطرة ستحدث، وكان ما كشفه موظف المخابرات الأمريكية إدوارد سنودن وفراره إلى موسكو من أكبر الأدلة على هذه التغييرات .
ما يحدث من تجسس وتنافس ساخن في أكثر من منطقة، يوجه صفعة لفلسفة “نهاية التاريخ” لصاحبها فرانسيس فوكوياما، فللتاريخ منطق لا يأبه بالمثاليات، وعالم اليوم يتغير، بل هو على أعتاب خريطة جديدة تعيد رسم التحالفات والعداوات أيضاً .
الخليج الاماراتية