الكتابة تعبير إبداعي عن قلق وجودي، وهاجس دائم يدفع إلى الكشف الدائم عن غموض الأشياء وسبر أغوارها وإظهار تجلياتها، وهي لا ترحم عند كبتها ولا ترحم عند إطلاقها، سبيلها إلى عالم النشر شائك ومرعب في العالم العربي، حيث يواجه المبدع بكتابته الإبداعية عالما فوضويا وسياسة نتنة، وواقعا خشنا عدوانيا، فيضطر إلى خوض كثير من الطرق الوعرة؛ كي يصل إبداعه إلى متناول القراء، وتصل رسالته الى متلقيها.
يخوض المبدع العربي معاناة هائلة في طريق نشر أعماله، فالمهنية التي يواجهها تتراوح نسبيا بين الصعود والانخفاض بحسب الناشر والمتلقي، بعض الناشرين ينشر ما هب ودب ما دام ذلك على حساب الكاتب ومن جيبه الخاص، بعض حسابات النشر تخضع أحيانا للولاء والمحسوبية والحزبية والقبيلة وعلاقات الصداقة والتجارة، وعدد قليل من الناشرين ما زال يتحرى المهنية والاحتراف في النشر والتوزيع ويحرص على حقوق المؤلف بنفس درجة حرصه على حقوقه الخاصة، مع أن الأساس في الاتفاق يجب أن يكون قائما على بيع حقوق نشر العمل الأدبي بمقابل مادي معين أو نسبة من الأرباح، لكن هذا ما لا يحصل إلا قليلا.
صناعة النشر هي الأخرى تعيش حياة عصيبة منذ بداياتها في العالم العربي، حيث أن الطباعة تأخرت 300عام في دخول الوطن العربي، فمنذ خبر اختراعها على يد الهولندي كوستر أوالايطالي يوحنا جوتنبرغ (كما تعددت الروايات) في منتصف القرن الخامس الميلادي وحتى رضا شيخ الإسلام في القسطنطينية عنها؛ حيث أنه كان أصدر فتوى بتحريمها، كانت الكتب المطبوعة تجتاح العالم، وتساهم في التجارة والصناعة وخلق فرص العمل. وقد حددت قوانين وقواعد النشر بعد ثلاث قرون من اختراع الطباعة لكنها لم تحدد عربيا حتى الآن، ونخشى أن تحتاج مئة سنة أخرى لكي توازي المدة التي استغرقتها أوروبيا.
عقود من النظم القمعية والاحتلال والديكتاتوريات؛ أدت إلى ثقافة اتكالية لا مبالية، تآكلت فيها الأرصدة الثقافية، ثم تلاشت الطبقة الوسطى، وتنامت سلطات الرقابة وقست يد الجمارك التي تثقل صناعة المعرفة في خطواتها الأولى، ثم استعلت الضرائب على كل المنتجات الثقافية بدءا من صناعة الورق مرورا بالشحن وأسعار الحبر، ثم وصولا إلى الضرائب على مبيعات الكتب التي لا تختلف عن اي منتج استهلاكي وحتى التدخين ومواد التجميل، جعل هذا تكاليف الطباعة مرتفعة وأتاح المجال للقرصنة والسمسرة، واختراق الحقوق والتحايل على الأوراق الرسمية من حيث عدد النسخ المطبوعة ثم عدد النسخ المباعة، وصار شائعا أن يتم الإعلان عن كتاب حقق أفضل مبيعات في معرض ما للكتاب ، مع أن عدد النسخ المباعة قد لا يصل إلى خمسين نسخة في المجمل، بالطبع فان التعميم غير وارد لكنه شائع، فيندر كنتيجة لذلك أن تجد مبدعا يعتاش من إصداراته أو يستطيع تامين دخل من كتبه وإنتاجه الثقافي، ومن المبدعين من وجد ميتا على الرصيف ساعة تجمد مناخي، وآخر ما يزال ينام على الأرصفة من حين إلى آخر.
ومع التحول إلى الصناعة الرقمية، كان للكتابة والطباعة والنشر نصيب من التغيير؛ فنشأت مواقع الانترنت التي تستوعب النشر الرقمية. ظهرت دور نشر اليكترونية ومواقع لبيع الكتب الاليكترونية، وانتشرت مدونات ومواقع تواصل اجتماعي وغيرها، وقد ساهمت في منح الكاتب وغير الكاتب منصات الوصول إلى عدد اكبر من المتابعين، ومع هذه التغييرات انتشرت القرصنة الاليكترونية التي تحصل على أي شيء في زمن قياسي مما يحرم الكاتب من عائدات إنتاجه المادية، لكن هذا المواقع كما كانت سلبية فقد وفرت إنتاجا هائلا من الأعمال الإبداعية والكتب القديمة والحديثة بصيغة بسيطة يمكن تحميلها من الشبكة العنكبوتية بصيغة مناسبة والاطلاع عليها، لكن ذلك كان وبالا على دور النشر التي لم تتجاوز أزمة القرصنة كما بدأت الصناعات الفنية بتجاوزها عبر النشر في مواقع الفيديو والصوتيات وتقاضي عائدات عن بدل الإعلانات المرافقة، كما أن صنعة المعرفة والإنتاج الكتابي ما يزال غير قادر على الاستفادة من تطبيقات التكنولوجيا للحصول على عائدات دون المساس بالإبداع وانطلاقه.
بعض مواقع النشر الاليكترونية التي تقوم بنشر المقالات المختلفة هي مواقع شخصية غالبا، لأدباء أو شخصيات يبحثون عن المكانة بقليل من المال لديهم، يستقبلون المواد المرسلة إليهم وينشرونها، دون تدقيق أو تحرير أو تنسيق، مما يضطر الكاتب إلى أن يعمل مدققا ومنقحا وجامع بيانات ومحللا إحصائيا ومحررا واختصاصي مونتاج وتنسيق، وباحثا ، كل ذلك من اجل أن يتكرم صاحب الموقع أو المجلة بقبول النشر، المصيبة أن كثير من العناوين المعلن عنها هي عناوين وهمية، والعناوين المعتمدة للنشر يتم توزيعها على الأصدقاء فقط، وأصدقائهم الذين تصل إليهم العناوين، كل ذلك دون عائد إلا فرصة للنشر فقط.
كما ان توزيع الكتب يعاني الكمثير من المشكلات، فما تزال المعارض الدولية هي الفرصة الوحيدة للتوزيع، وكثير من دور النر تعود بخسائر بدل الارباح مما ينعكس على الصناعة بشكل عام، بعض المعارض تخضع لمؤسسات او وزارات لها حساباتها الاقليمية والاثنية وولائتها، وكذلك ينطبق الامر على بعض الجوائز الادبية التي بدأت عوراتها تتكشف حيث تقوم بتكريس اسماء واقصاء اسماء، ومن ذلك ما يلاحظ عندما تكون لجنة القراء في جائزة ما مكونة من افراد لا يزيدوان عن اصابع اليد الواحد وعليهم قراءة 180-1801 عملا ابداعية خلال زمن قياسي والحكم على جودته لتأهيله الى استحقاق الجائزة.
النقد والعملية النقدية هي الاخرى اشكالية بكل المقاييس، فالناقدون الكبار لا يكتبون الا عن الكبار ، ف الوقت الذي يكتب فيه المبتدئون عن بعضهم او يتسولون الكتابة من نمقاد الصف الاوسط، وهكذا لا تغذية راجعة ، اضافة الى غيابة نظرية نقدية عربية معاصرة، فما زلنا عند النقد الاكاديمي الذي يترتجى من ورائه الترقيات والمكافات، وكذلك العلاقات مع كبار الكتاب ، في نفس الوقت تهاجم اصوات كثيرة ورشات الكتابة تالابداعية التييرتجي منه تطوير او صقل مهارات المبدعين الشباب لتطوير اساليبهم وتعليمهم تقنيات تساعدهم ، وينسوا هؤلاء ان الكتابة الابداعية لها برامج متكاملة ، وبعضها يمنح درجة البكالورويوس في الكتابة الابداعية، ثم يتناسون ان كثير من كتابنا امضى عشرات السنيني بين التجربة والخطأ الى ان يسر الله له فرصة الظهور، والانتشار.
جذور المشكلة ترجع إلى سببين رئيسيين حيث تغيب التشريعات عن صناعة الإبداع وإنتاج المعرفة، وهي مازالت بدائية في معظم الدول العربية التي تعتبر القراءة وسيلة لتفتح عيون الناس على حقوقها الأساسية ومن ثم تؤثر في الاتجاهات السياسية. والسبب الثاني هو تشيطن رأس المال الذي يريد أن يربح دون أن يساهم، ذلك أتاح لمن يملك المال أن يطبع أي شيء ولو كان متدني القيمة الإبداعية، وقدم أعمالا حافلة بالأخطاء اللغوية والإملائية والتنسيقية، ثم ظهر بناء على ذلك ما نسميه التنمر على الأدب، وهو ما سيخصص له مقال لاحق، والمقصود به فرض الوصاية على الإبداع من جهات رقابية أو نقدية أو مجموعات أو أحزاب، ولا يستثنى النائب العام من ذلك ، وفق معاييرها الخاصة النقدية أو السياسية، وهي بالأساس بالية وات تناسب روح الأمة وطموحها إلى النهضة ولا النظريات العلمية في المعرفة والإبداع.
لا يمكن أن تنهض العملية الإبداعية بشروط منافسة وبشكل مواز للسبق العالمي إلا في ظل صناعة نشر محترمة تستوفي شروط المزيج التسويقي كاملا دون إغفال الالتزام بالحقوق التي يجب التمهيد لها بمجموعة تشريعات منصفة للمبدع والمتلقي الذي يحتاج منتجا إبداعيا مدهشا ومتقنا، بسعر مناسب، ذلك يلزم بيئة مالية ورقابية وإعفاءات ضريبية ، بل وإجراءات تشجيعية تفوق إجراءات التشجيع على الاستثمار، فليس الاقتصاد أهم من الإبداع ، والإبداع جزء تأسيسي من الاقتصاد الناجح، وخصوصا أن الصناعات الإبداعية إجمالا بما فيها الكتابة والنشر تشكل أكثر 10% من عائدات الدول المتقدمة ، وذلك أكثر من أية صناعة أخرى في الدول المتقدمة.
اياد شماسنة /شاعر وروائي
الحياة الجديدة
تحديات الكتابة والنشر في العالم العربي
Leave a comment