في أسبوع بلغ فيه عدد القتلى 60.000 في سورية -وهو رقم تعتبره هيئة الأمم المتحدة التي وضعته أقل من الواقع- يبدو الحديث عن أي موضوع آخر في المنطقة نوعاً من التغريب. لأن سورية، بالتأكيد، هي التي تهم أكثر ما يكون، حيث تقع مذبحة يخجل اتساع نطاقها عالماً لا يفعل سوى القليل لوقفها.
لكن هناك مع ذلك صراعات أخرى في الشرق الأوسط لا يمكن تجاهلها. ومع أن أياً من الحروب العربية الإسرائيلية في الأعوام 1948، 1956، 1967، 1973 و 1982 لم تخلف عدداً من القتلى يصل حتى إلى نصف عدد القتلى السوريين حالياً، إلا أن قضية إسرائيل -فلسطين ما تزال مهمة للإسرائيليين والفلسطينيين بشكل رئيسي، وأيضا لعدة ملايين من الناس حول العالم ممن يشعرون بأنهم معنيون بمصير هذه القضية.
في الوقت الحالي، يتم التركيز على الانتخابات الإسرائيلية المزمع إجراؤها في 22 كانون الثاني (يناير). وتشير استطلاعات الرأي إلى أن حكومة تم توليفها لتكون واحدة من أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل ستحل محلها واحدة أخرى أكثر يمينية. ويخسر ليكود بنيامين نتنياهو -المندمج الآن مع حزب يرأسه وزير خارجيته السابق القومي المتطرف أفيغدور ليبرمان- مزيداً من الأرض لصالح الحزب القومي بالغ الإفراط في التطرف: “البيت اليهودي”، حتى أن أكثر التوقعات تواضعاً تشير إلى أن حزب البيت اليهودي سوف يظهر كطرف كبير بحيث يجد نتنياهو من الصعب جدا أن يستبعده من ائتلافه المقبل.
فأي نوع من الفصائل هو البيت اليهودي؟ يمكننا إلقاء نظرة على زعيمه نفتالي بينيت، الذي ولد لأبوين أميركيين، والذي يشكل بطلاً للمستوطنين في الضفة الغربية. وهو يطالب بضم إسرائيل الفوري لنسبة 60 ٪ من أراضي الضفة الغربية. وفي مناظرة تلفزيونية في العام 2010، كان قد خاطب عضواً فلسطينياً في الكنيست بهذه العبارات: “عندما كنت ما تزال تتسلق الأشجار، كانت لدينا دولة يهودية هنا… لقد كنا هنا قبل فترة طويلة من وجودك أنت”.
وحتى لو تم الإبقاء على بينيت خارج التحالف، فسوف يقود نتنياهو مع ذلك حكومة أكثر يمينية. وكان قد تم تطهير المعتدلين القليلين المتبقين في حزب الليكود في الانتخابات الداخلية الأخيرة، وحل محلهم المتشددون من أمثال موشيه فايغلين. وهذا هو ما كان قد قاله لمراسل من مجلة نيويوركر: “إنك لا تستطيع تعليم قرد الكلام، وأنت لا تستطيع تعليم عربي أن يكون ديمقراطياً. إنك تتعامل مع ثقافة لصوص وسارقين… إن العربي يدمر كل شيء يلمسه”. وهكذا، لم يكن من غير سبب أن تم منع فايغلين من دخول المملكة المتحدة في العام 2008.
ومع ذلك، وبدلاً من أن يكونوا منبوذين، فإن مثل هؤلاء العنصريين الصريحين هم الذين سيحصلون غالباً على مقاعد جديدة حول طاولة الحكم في إسرائيل. ويبدو مركز الثقل على وشك التحول بعيداً جداً نحو اليمين حتى أن نتنياهو وليبرمان سوف يبدوان معتدلين مقارنة. فلماذا يحدث هذا؟ كان التفسير التقليدي للنجاح الانتخابي اليميني الأخير هو فقدان الجمهور الإسرائيلي الإيمان في نهج السلام الذي كان مرتبطاً ذات مرة باليسار. وقد عملت عوامل فشل محادثات كامب ديفيد في العام 2000 وردة الفعل على الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة 2005 –في شكل دفق مستمر من صواريخ حماس على البلدات الإسرائيلية- على التشكيك في صلاحية فكرة الأرض مقابل السلام. وكانت النكتة الإسرائيلية المريرة “نحن نعطيهم الأرض، وهم يعطوننا الحرب”، تعبيراً عفوياً عن تصميم الشعب على أن لا ينخدع مرة أخرى.
لكن هذا التفسير لا يسوغ تماماً هذا الذهاب الحالي باتجاه ما كان يعتبر ذات مرة هامشاً متطرفاً معتوهاً. وبدلاً من ذلك، يمكن توزيع اللوم بالتساوي على يسار الوسط الإسرائيلي، والقادة الفلسطينيين، والمجتمع الدولي. ومنذ أن قتل إسحق رابين قبل نحو 20 عاماً، فشل يسار الوسط الإسرائيلي في تقديم تصور لبلد ديمقراطي حديث بلد من شأنه أن يعترف بشكل مناسب وأن يدمج الفلسطينيين الذين يعيشون داخل، حدود ما قبل العام 1967 والذي يكف عن الاستمرار في إدارة حياة أولئك الفلسطينيين الذين يعيشون خارجها، في الأراضي المحتلة. ويجسد حزب العمل الإسرائيلي المشكلة، حيث تقوده حالياً شخصية تفضل عدم مناقشة القضية الفلسطينية أبداً، وتركز بدلاً من ذلك على “القضايا الداخلية”. لقد خلق يسار الوسط فراغاً، وملأه اليمين القومي.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فيقترح دانيال ليفي مدير منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أنهم فشلوا في لعب دور على غرار حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، دور من شأنه “تحدي الخطاب الإسرائيلي السائد”. ويقوم الرئيس محمود عباس فقط بتوجيه تهديدات تنزع عنه الصدقية -تفكيك السلطة الفلسطينية، على سبيل المثال- في حين ينجح تشدد حماس فقط في رص صفوف الإسرائيليين (حتى مع أن جناحها العسكري قد اتخذ خطوة مثيرة للاهتمام بنشر “تغريدات” على تويتر بالعبرية). ولا يجعل أي من هذين النهجين الجمهور الإسرائيلي يتوقف ويفكر مرة أخرى. وفي الوقت نفسه، ساعد المجتمع الدولي، بتوجيهه فقط صفعة صغيرة للمعصم، على إبقاء الوضع الراهن الذي بلا كلفة. ويمكن للناخبين الإسرائيليين وضع بينيت أو فايغلين في الحكومة دون خوف من أي عواقب. وقد مضى 20 عاماً منذ فرضت الولايات المتحدة كلفة حقيقية على النشاط الاستيطاني، مع تهديد بوش الأب بسحب ضمانات القروض، وهو تهديد كان، بالمناسبة، قد دفع الناخبين الإسرائيليين إلى إخراج الليكود وتنصيب رابين رئيساً للوزراء.
وهكذا، ينبغي علينا أن نعد أنفسنا لحكومة يمينية متطرفة، واحدة مقسمة بين أولئك الذين يضغطون من أجل ضم فوري، وبين أولئك الذين يسعون إلى ترسيخ أقل علنية للوضع الراهن. وسوف يكون ذلك دفناً نهائياً لحل الدولتين الذي يحتضر بالفعل.
لكنها سنة جديدة، ونحن لا نستطيع تحمل مؤونة إسبال العينين والركون إلى الاكتئاب. ثمة هناك شعاعان من الضوء يمكن رصدهما في كل هذه الكآبة. أولاً، يرحب ليفي بما يعتقد أنه سيكون نوعاً كاشفاً من الاستقطاب: “سوف تتم الآن إزالة طبقات التمويه”. سوف يصبح اليمين مكشوفاً، وسوف تسقط ورقة تين الاعتدال القديمة. وفي الوقت نفسه، سوف يضم يسار الوسط عدداً أكبر من الليبراليين الجريئين والديمقراطيين الأصيلين، بعد أن غادر الآن معظم الليكوديين السابقين حزب كديما الذي أصبح بائداً حالياً. وبدلاً من التجمع حول منطقة وسطى اصطناعية، سوف تعرض السياسة الإسرائيلية الحالية اختياراً واضحاً بين اليسار واليمين.
وهناك، ثانياً، تأثير كل هذا على الشتات اليهودي، خصوصاً في الولايات المتحدة. فمع أن ارتباط اليهود الأميركيين بإسرائيل عميق وهائل، إلا أن يهود الولايات المتحدة يميلون إلى أن يكونوا ليبراليين ويتسمون بإحساس قوي بالعدالة الاجتماعية. سوف يجدون فايغلين وبينيت صعبين على الهضم. وربما يكون المدون على موقع صحيفة “هآرتس” الذي سأل: “هل يكون 2013 هو عام انفصال اليهود الأميركيين عن إسرائيل؟” قد تجاوز نفسه بهذا السؤال. لن ينفصل يهود الشتات عن إسرائيل، لكنهم سينكصون بالتأكيد عن هذا المعسكر الإسرائيلي الجديد، ولو كان مهيمناً. إن إسرائيل إيغلين ليست هي إسرائيل التي علمهم آباؤهم أن يحبوها.
وثمة تحول تمكن رؤيته مسبقاً، عندما يطلب كاتبا العمود المؤيدان لإسرائيل توم فريدمان وجيفري غولدبرغ كلاهما من الرئيس أوباما المضي قدما في ترشيح تشاك هاغل -عضو مجلس الشيوخ السابق غير الخائف من انتقاد إسرائيل- ليكون وزيراً للدفاع، محتجين بأن الوقت حان لكي تقول واشنطن للقدس بضع حقائق رئيسية داخلية.
لقد أعلن كاتب صحيفة هآرتس عن حق أن “الدعم الأميركي، الذي رسخه يهود الولايات المتحدة، هو الذخر والرصيد الاستراتيجي الذي يجعل جميع الأصول الاستراتيجية الأخرى ممكنة”. لكن هذا الدعم كان يتوجه بصورة رئيسية إلى مثال إسرائيل ديمقراطية، ساعية إلى السلام. وإذا ما صوت الإسرائيليون لصالح أولئك الذين يعرضون ازدراء كاملاً لكل من السلام والديمقراطية، فإن أولئك السائرين على طريق التدمير الذاتي لإسرائيل سوف يجدون ذات يوم حجر الأساس الضروري للدعم وهو يتشقق ويتداعى تحت أقدامهم.
(الغارديان) ترجمة: علاء الدين أبو زينة- الغد الاردنية.
نشر هذا المقال تحت عنوان:
Israel’s shift to the right will alienate those it needs most
ala.zeineh@alghad.jo