يبدو أن قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما توجيه ضربات جوية ضد “الدولة الإسلامية”؛ الجماعة الجهادية التي تسيطر على مناطق شاسعة من سورية العراق، هو قرار محفوف بالمخاطر. وحتى لو نجحت الضربات الجوية في عرقلة تقدم المجموعة المتطرفة في العراق، فإنها يمكن أن تقنع “الدولة الإسلامية” بإعادة تركيز اهتمامها على سورية من أجل تعزيز موقفها، على ضوء معرفتها أن تدخل أوباما لإنقاذ نظام الرئيس السوري بشار الأسد سيكون أقل ترجيحاً هناك.
لقد أنتج تردد أوباما في تقديم الدعم للثوار السوريين غير الجهاديين في الأيام الأولى من الحرب الأهلية الكابوس نفسه الذي كان يحاول أن يتجنبه: ظهور قوة جهادية جيدة التنظيم، حسنة التخندق، والتي تتسم بالكفاءة وقسوة القلب، والتي لا تهدد بتقسيم -إن لم يكن السيطرة- على سورية فحسب، وإنما العراق أيضاً، في الوقت الذي تشكل فيه خطراً كبيراً على كل من لبنان والأردن. كما ترك أوباما الباب مفتوحاً أيضاً أمام الدول الإقليمية السنية لتقديم الدعم لـ”الدولة الإسلامية” -غالباً عبر قنوات غير رسمية، وسُمِح للمساعدات بأن تذهب إلى الجهاديين من دون رقيب ولا رادع.
يعول أوباما على مؤسسة حكومة عراقية شاملة تكون قادرة على الوصول إلى مجتمعات البلد من غير الشيعة، من أجل محاولة تقويض الدعم التي تتلقاه “الدولة الإسلامية” من القاعدة الشعبية، والتي يقف على رأسها وفي مقدمتها المسلمون السنة. وبينما ليس ثمة شك في أن العديد من السنيين قد دُفعوا إلى دعم “الدولة الإسلامية” بفعل السياسات الطائفية الموالية للشيعة، التي انتهجها رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته نوري المالكي، فإن هذه المناورة تقابلها حقيقة أن الولايات المتحدة وحلفاءها سمحوا هم أيضاً للجماعات الإرهابية بأن تزدهر وسط مناخ طائفي ملتهب، والذي كان فيه حلفاء الولايات المتحدة، مثل العربية السعودية، يشكلون عوامل تحريك بقدر ما كان رئيس الوزراء العراقي المنصرف كذلك.
مخاوف من زحف المهمة
مع تعرض عشرات الآلاف من الأيزيديين للحصار على أيدي الجهاديين فوق جبل في شمالي العراق تحت ظروف قاسية، وحيث أصبح أمن كردستان العراقية تحت التهديد بدوره، وحتى انفجار هذه الأزمة الأخيرة التي جعلت من العراق المنطقة الأقل استقراراً على الإطلاق، لم تكن لدى أوباما خيارات تقريباً سوى اتخاذ إجراءات والقيام بعمل. وربما تكون المخاوف القائمة في الولايات المتحدة حول زحف المهمة وتوسعها غير مبررة، لو أن إدارة أوباما قصدت حقاً إلى إلحاق الهزيمة بـ”الدولة الإسلامية” وليس مجرد احتوائها، ومحاولة الحفاظ على التكامل الإقليمي ووحدة الأراضي العراقية التي أصبحت الآن معلقة على خيط رفيع.
مع ذلك، يرجح أن يأتي تنامي النزعة الطائفية الذي تغذيه السعودية في الشرق الأوسط بنتائج عكسية على الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة، حيث سينظر الكثيرون من السنة إلى الضربات الجوية الأميركية باعتبارها تأتي تعبيراً عن سياسة موالية للشيعة. ويعتقد السنة على نطاق واسع أن سياسة الولايات المتحدة هي التي كانت قد جلبت الشيعة إلى سدة السلطة في العراق من خلال إسقاط رجل العراق القوي صدام حسين في العام 2003، والذي كان سنياً. ويخشى هؤلاء من احتمال عودة إيران إلى الحظيرة الدولية في حال أفضت المحادثات الجارية معها إلى حل المشكلة النووية وانتهت إلى النجاح. ويأتي هذا على رأس أسباب عزوف الولايات المتحدة عن تزويد الثوار السوريين بالوسائل اللازمة لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، وهو زعيم ينتمي إلى الطائفة العلوية؛ أحد فروع المذهب الشيعي. وينعكس حس السنة بأنهم متأزمون في حقيقة أنهم قد أذعنوا ووافقوا على عمليات القمع والطرد الفعلي في حق الأقليات العراقية الأخرى، مثل المسيحيين والأيزيديين.
ثمة القليلون ممن يشكون بأن أداء جيش “الدولة الإسلامية”، الذي تعزز بمشورة ضباط جيش رفيعين ممن كانوا قد خدموا تحت حكم صدام، وكذلك بمرونته الاستراتيجية والتكتيكية. ولكن، مع الضربات الأميركية الجوية التي تستهدف معدات عسكرية معقدة أميركية في المقام الأول، والتي استولى عليها مقاتلو “الدولة الإسلامية” من الجنود العراقيين الفارين، بالإضافة إلى أماكن تركيز مقاتلي المجموعة، يرجح أن تعود “الدولة الإسلامية” في العراق إلى أصلها العسكري: أن تتحول إلى قوات مشاة تنخرط في تكتيكات حرب العصابات وتقوم بتوظيف المفجرين الانتحاريين. وهي استراتيجية يمكن أن تقلل من فعالية الضربات الجوية.
إعادة التركيز على سورية
على نطاق أوسع، ربما تعمد “الدولة الإسلامية” أيضاً إلى تعقيد خيارات أوباما عن طريق إعادة التركيز على المكاسب الإقليمية التي تحققها في سورية. وقد تمكنت خلال الأسبوع الماضي من سحق كل المعارضة الموجودة في دير الزور الشرقية تقريباً، سادس مدينة سورية من حيث الحجم. وقد أثبتت “الدولة الإسلامية” قدرتها على القتال على جبهات عدة، على العكس من جيش الأسد الذي أنهكته الحرب والذي يبدو أنه أصبح يقاتل على طريقة معركة واحدة في كل مرة، مع حملات ترمي إلى إقناع السكان المدنيين بالفرار سعياً إلى عزل الثوار وإجبارهم على الاستسلام.
نتيجة لذلك، يمكن أن تركز “الدولة الإسلامية” بداية على محاولة الاستيلاء على حلب؛ كبرى المدن السورية المحاصرة، أكثر من التركيز على التقدم باتجاه العاصمة العراقية بغداد. وإذا ما نجحت في حلب، فإنها ربما تفكر في التحرك لتهديد دمشق. وسيكون من شأن القيام بمثل هذه الحركة أن يضع أوباما وحلفاء أميركا الخليجيين في مأزق: أن يسمحوا بأن تسقط سورية، بحدودها مع كل من إسرائيل والأردن ولبنان، لصالح أقوى وأكثر الجماعات الجهادية التي ظهرت حتى الآن وحشية؛ أو أن يعمدوا إلى التدخل من أجل إنقاذ زعيم استبدادي وحشي ومتحالف مع إيران وروسيا، والذي يشكل زواله هدفاً للسياسة الأميركية.
لن تتوقف المطبات والمعوقات التي يواجهها أوباما عند هذا الحد. إذا كان إيقاف “الدولة الإسلامية” في مكانها وجعلها تتراجع عن التقدم الذي أحرزته في نهاية المطاف، بينما يقوم سلاح الجوي الأميركي بدعم القوات البرية العراقية والكردية هو الهدف متوسط المدى، فإن الضرورات على المدى القصيرة تجبرها على اتخاذ تدابير يكون من المرجح أن تفضي إلى تفكك الدولة القومية العراقية. وبينما يتصارع الساسة في بغداد على قضية استبدال المالكي بحكومة وطنية عراقية أكثر شمولاً، فإن البشمرغا الكردية ذات الحافز الأكبر، وإنما الأقل تسليحاً، إلى جانب تاريخ من محاربة صدام، هي حليف الولايات المتحدة الرئيسي على الأرض. ويرجح أن يفضي قرار إدارة أوباما الأخير تسليح الأكراد بأسلحة وذخائر خفيفة إلى تأجيج طموحات الأكراد إلى الاستقلال، والتي بدت بالفعل في حالة تأهب للانطلاق مع انهيار الوحدات الرئيسية من الجيش العراقي في وجه تقدم قوات “الدولة الإسلامية”.
تبقى هذه المخاوف مبررة أيضاً، بالنظر إلى أن الولايات المتحدة ربما لن تتمكن من الاستمرار في التفريق بين الوضع في العراق ونظيره في سورية. وتبقى المخاطر عالية بالنسبة لإدارة أوباما في هذا السياق. فبينما يبدون متعاطفين مع الأهداف التي حددها أوباما في العراق، وتقديم الإغاثة الإنسانية إلى مجتمع مهدد بالتعرض لمذبحة، وحماية أفراد الولايات المتحدة وموظفيها في العراق، ما يزال العديد من الأميركيين متوجسين من فكرة الحرب بعد عقد من الحروب في أفغانستان والعراق. وفي الوقت نفسه، أصبحت مصداقية الولايات المتحدة على المحك في منطقة تمتلك القليل من البدائل الأمنية غير الولايات المتحدة، لكنها تصبح أكثر تشككاً باطراد إزاء قدرة أميركا على الارتقاء إلى مستوى التوقعات.
الغد الاردنية