أعادت عملية اختطاف المستوطنين الثلاثة في الضفة الغربية خلط الأوراق، في ظل اتهامات متبادلة وتخبط متزايد، ليس بين الإسرائيليين والفلسطينيين وحسب وإنما أيضاً داخل كل طرف على حدة.
فحكومة بنيامين نتنياهو تتهم السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس وحركة “حماس” ورئيسها خالد مشعل بالمسؤولية عن مصير الثلاثة، والجيش الإسرائيلي يتهم الشرطة الإسرائيلية بتبديد ساعات مهمة، ومحاولة تضليل الجمهور بادّعاء أن أحد المختطفين لم يكن واضحاً في كلامه عن اختطافه. والرئيس الفلسطيني يعتبر عملية الاختطاف ذات أثر “تدميري” ويطالب المختطفين بالإفراج الفوري عنهم، مشدداً على التنسيق الأمني مع إسرائيل، و”حماس” تتهم قيادة السلطة بالتنكر لمصالح الشعب الفلسطيني وتستنكر التنسيق الأمني.
وتحدث عباس، أمام مجلس وزراء خارجية الدول الأعضاء في “منظمة التعاون الإسلامي” في جدة، عن عملية اختطاف المستوطنين، مؤكداً أن السلطة الفلسطينية تبذل جهودها “للمساعدة في العثور على المستوطنين الثلاثة حتى نعيدهم إلى عائلاتهم، وسنحاسب من قام باختطافهم كائناً من كان”.
وأضاف “المستوطنون المفقودون في الضفة بشر مثلنا، وعلينا البحث عنهم وإعادتهم إلى عائلاتهم، ومن قام بهذا العمل يريد تدميرنا، ولذلك سيكون لنا موقف منه مهما كان، لأننا لا نستطيع مواجهة إسرائيل عسكرياً”. وشدد على أن “حكومة التوافق” ملتزمة ببرنامج منظمة التحرير، وتؤمن بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، معتبراً أن التنسيق الأمني من مصلحة السلطة لكي تحمي الشعب الفلسطيني. وأوضح “هذا ليس عاراً، وإنما واقع نحن نلتزم به، كما تلتزم به حكومة التوافق الوطني”.
وفي تلميح لاذع لحكومة “حماس” التي تحمل عليه بسبب التنسيق الأمني، قال عباس (أبو مازن) إن التنسيق الأمني في غزة (تحت حكم “حماس”) وقع في عهد الرئيس المصري المعزول محمد مرسي بعد ترتيبات وقف النار في حرب “عمود السحاب” في العام 2012. (تفاصيل صفحة10)
وجاء رد “حماس” على هذا الخطاب قاسياً، حيث اعتبرته انقلاباً على ميراث منظمة التحرير والحركة الوطنية وتمييعاً لكل المفاهيم والقيم الوطنية.
واعتبر النائب عن “حماس” في المجلس التشريعي يحيى موسى العبادسة أن تصريحات أبو مازن حول البحث عن المخطوفين ومحاسبة الفاعلين “خروجًا عن الخطوط الحمراء”. وأوضح أن “عباس وضع نفسه في مواجهة كل الشعب الفلسطيني، باعتباره مفرطاً بدماء الشهداء وعذابات الأسرى وأنات الجرحى”.
وأضاف العبادسة “عباس لم يعد يهمه الشعب ولا قضيته الفلسطينية، إنما يهمه أن يحمي رأسه فقط، وأنا استغرب ماذا تبقى لهذا الرجل في الحياة بعد أن بلغ ثمانين عامًا حتى لا يختم حياته بختام الخير بدلا من هذا الكلام المعيب الذي لا يصح ولا يستقيم”.
وحمل العبادسة بشدة على أبو مازن قائلا: “أخشى أن يكون عباس فقد ذاكرته، ولم يعد له ذاكرة وطنية”، مبيناً أن “عباس تجاهل فلسطين كلها، وتجاهل الأرض والتاريخ والشهداء والأسرى، وتجاهل كل القيم النبيلة التي عاش من أجلها الشعب الفلسطيني، واستشهد من أجلها، وجعلت الشعب محل شرف للأمة العربية والإسلامية”.
كما انتقد المتحدث باسم “حماس” في غزة سامي أبو زهري تصريحات عباس حول التنسيق الأمني مع إسرائيل، معتبراً أنها “غير مبررة” وتضر باتفاق المصالحة وتشكل انتهاكاً لاتفاق القاهرة وللإجماع الوطني الفلسطيني. وشدد على أن هذه التصريحات تضر بآلاف عائلات الأسرى الذين يواجهون الموت البطيء في المعتقلات الإسرائيلية.
من جانبها، دانت “حركة الجهاد الإسلامي” أيضاً موقف عباس. واعتبرت، في بيان، أن “التنسيق الأمني أشبه بكأس السم الذي تجرعناه على يد من ارتكبوا إثم التوقيع على اتفاق أوسلو المشؤوم وتوابعه”. وشددت على أن “احد أشكال نكران حقوق شعبنا هي اللغة الانهزامية التي يرددها البعض الذي يشهر سلاحه في وجه شعبه ونراه يتعذر عن مواجهة المحتل، ليس هذا فحسب بل انه يصر على التنسيق الأمني” مع إسرائيل.
ولم ترد إسرائيل رسمياً على خطاب أبو مازن، رغم أن أوساطاً متزايدة تطالبها بالتعامل بحكمة مع هذا الخطاب الذي برهن على تمسك عباس برفض العنف، حتى في ظل حملة عسكرية إسرائيلية شديدة ضد الشعب والسلطة الفلسطينية. وقد سبق لرئيس الحكومة الإسرائيلية أن عمد إلى تمييع إدانة أبو مازن لاختطاف المستوطنين ووعده بالعمل بجدية من أجل المساعدة بالبحث عنهم. ويعتقد معلقون أن خطاب أبو مازن هذا يحرج اليمين في إسرائيل الساعي لاستهداف السلطة بأسرها، عبر استغلال عملية خطف المستوطنين، لكن آخرين يشددون على أن الشرخ الذي يحدث بين أبو مازن وحركة “حماس” يحقق لإسرائيل في نهاية المطاف أحد أهم أهدافها لإبقاء الانقسام الراهن على حاله.
وينصح معلقون إسرائيليون نتنياهو بالتعامل بإيجابية مع خطاب عباس، ومحاولة تركيز الحملة على “حماس” فقط، وتقليل المساس بالأبرياء والقوى الأخرى لمنع ظهور تضامن مع الحركة، لكن هؤلاء واثقون من أن نتنياهو مضطر قبل ذلك إلى تحديد هدفه السياسي الراهن، وهل أنه يرى فعلا في أبو مازن شريكاً أم لا؟
وأثنى رئيس المعارضة الإسرائيلية عضو الكنيست من “حزب العمل” اسحق هرتسوغ على كلام عباس في مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية. واتصل هاتفياً برئيس ديوان الرئاسة ليبارك كلام أبو مازن عن المستوطنين. وقال “علينا صياغة الواقع في المنطقة، وعبر الحوار تعزيز الأصوات المعتدلة وأبو مازن. إن على الطرفين بعد انتهاء العملية وإعادة الأبناء إلى بيوتهم، النزول عن الشجرة التي صعدا إليها والعودة إلى طاولة المفاوضات. هذه هي الطريق الوحيدة لإعادة الهدوء إلى المنطقة وإزالة فتيل التفجير من برميل البارود الذي يتدحرج منذ وقف المفاوضات”. بعدها اجتمع هرتسوغ بنتنياهو واطلع منه على مجريات عملية “عودة الأخوة”.
وبعد مرور ما يقرب من أسبوع على تنفيذ الاختطاف وعجز أجهزة الأمن الإسرائيلية عن الإمساك بأي طرف خيط، رغم حملة الاعتقالات والتنكيل الأوسع في الضفة الغربية، اتهم ضابط رفيع المستوى في الجيش الإسرائيلي رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” خالد مشعل بالوقوف خلف الاختطاف. وأعلن أن أمر تنفيذ هذه العملية صدر في رسالة التضامن التي أطلقها مشعل مع إضراب الأسرى عن الطعام أواخر أيار الماضي. واعتبر أن حديث مشعل، في خطابه متوجهاً نحو الأسير حسن سلامة، بالقول “رسالتك وصلت عنوانها، والرد سيأتي عبر كتائب عز الدين القسام” هو الأمر التنفيذي لهذه العملية. وأن الإجراءات العملياتية لتنفيذ عملية الاختطاف بدأت بعد ذلك.
وكان الجيش الإسرائيلي قد صعّد حملته لاعتقال قيادات ونشطاء “حماس” وفصائل مقاومة أخرى والإثقال على حركة الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية، وشن اعتداءات على قطاع غزة. وفي هذا الإطار أعاد اعتقال 51 أسيراً سابقاً كان قد تم الإفراج عنهم في إطار صفقة جلعاد شاليت بتهمة مخالفة شروط الصفقة. ومن المقرر أن يتم عرض هؤلاء أمام لجنة قانونية شكلية تم تأليفها للنظر في قضاياهم لتجاوز أية إشكالات “قانونية”، في ظل تخوف من إعادتهم إلى السجن لقضاء باقي محكوميتهم الأصلية، أو نفيهم إلى قطاع غزة.
وقد تواصل تبادل الاتهامات بين الجيش والشرطة في إسرائيل حول مدى صحة الادّعاء بأن تبليغ أحد المخطوفين لمركز الطوارئ في الشرطة كان واضحا أم لا. وخلافاً لادّعاء الشرطة، التي بررت مرور ساعات قبل أن تتحرك، بأن البلاغ باختطاف المستوطنين الثلاثة كان غير واضح، يقول الجيش إن حديث المستوطن الهاتفي كان واضحاً وأنه قال “لقد خطفوني”. وطالب الجيش الشرطة بالكف عن التبرير وعدم الاستمرار في تقديم المزاعم.
وكان وزير الأمن الداخلي اسحق أهرونوفيتش قد رفض الانتقادات الموجهة لمركز الطوارئ في الشرطة، مؤكداً أنه كان متعذراً فهم ما قيل في البلاغ. وهو بذلك أكد زعم الشرطة أن تسجيل المكالمة يظهر أن البلاغ لم يكن مفهوماً.
السفير