لم يعد الاستعمار الأمريكي الصهيوني مجرد مشروع موضوع على الرف أو مخطط ينتظر وقته. فنوايا الرئيس الأمريكي ترامب الاستعمارية تؤكد أن ما قامت به دولة الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة والمنطقة ككل، وما ترتكبه اليوم في مختلف مناطق الضفة الغربية، وانتقال نتنياهو من مراحل ادارة الصراع إلى محاولة حسمه، يؤكد التناغم الكامل بين الأهداف الأمريكية والصهيونية منذ البدايات.
فالتوجه الأمريكي الأخير بتصعيد الحروب التجارية في زوايا مختلفة من العالم، لا يمثل سوى صورة مستحدثة متوحشة للنهج الاستعماري القديم لدول الغرب بشكل عام. فعلى امتداد مئات السنين، كانت امبراطوريات ودول الغرب تتناوب في احتلالاتها للأراضي الشاسعة في مختلف أصقاع المعمورة تحت مظلة شعارات دينية أو تنموية، ولكن الهدف الأساس كان السيطرة على مصادر الثروات وعلى الطرق التجارية وأسواق الاستهلاك. لم يكن “الانسان” صاحب الأرض في أي مرحلة من المراحل ضمن قائمة حساباتهم، بل ان تعزيز مفهوم “مجتمع العبودية” كان السمة الأبرز نظرا لحاجتهم له كأداة مجانية من أدوات العمل ووسائل الإنتاج. إنه أداة مثل أي ماكينة، يستخدم في حفر المناجم واستخراج المعادن الثمينة والثروات المختلفة التي صنعت من خلالها أوروبا حضاراتها وامجادها. إنه الاستعمار البشع الذي يعمد اليوم الرئيس الأمريكي ترامب لايقاظه، ولكن بفارق واحد. فهو لم يعد بحاجة للانسان” صاحب الأرض ” لاستخدامه كأداة عمل، فالتكنولوجيا الحديثة كفيلة بذلك. لذلك يريد إقصاء أبناء شعبنا الفلسطيني واخراجهم من قطاع غزة. هو يريد الاستيلاء على القطاع بالكامل، ويعرف أهمية موقع قطاع غزة كما يعرف حق المعرفة ما تحويه أرض غزة وبحرها من ثروات، ويفاخر بأنه يريد أن يحول القطاع إلى ريفييرا الشرق، ولكن ليس للفلسطينيين، وإنما له ولحلفاءه الصهاينة. وما يحدث اليوم ليس جديدا، بل يمثل امتدادا لمحاولات سابقة لتصفية الوجود الفلسطيني انطلاقا من مشروع جونسون في خمسينيات القرن الماضي إلى محاولات التهجير إلى سيناء. إنها عقلية المستعمر التي لا يمكن أن تلتقي وتحت أي ظرف مع أي قيم إنسانية أو مفاهيم أخلاقية، فكيف إذا كان هذا المستعمر الجديد مصابا بمرض جنون العظمة ومحاطا باشباهه في مختلف الإدارات.
يعتقد بعض المراقبين أن ما يقوم به ترامب هو سياسة تستهدف إعادة تشكيل الوعي العام بتلاعب استراتيجي محسوب يعتمد على خلق واقع وهمي بحيث تصبح الأفكار المستحيلة قابلة للنقاش لتتحول بعدها إلى سيناريوهات مطروحة. لكن حين يلتقي العقل الأمريكي الاستعماري المتوحش المجنون مع العقل الإسرائيلي الصهيوني الديني المتطرف، تتحول تلك السيناريوهات إلى خطر حقيقي. فترامب يعلن انه سيتسلم قطاع غزة، ونتنياهو يعلن أن خطة ترامب هي خطة اليوم التالي للحرب.
المشهد سوداوي والمرحلة قاتمة. فترامب المسكون بوهم العظمة يعتقد أنه يمسك بمفاتيح الكون، يركبه كما يشاء. فتارة يريد تحويل كندا الى ولاية امريكية، وتارة أخرى يفكر في احتلال غرينلاند والسيطرة على قناة بنما والاستيلاء على قطاع غزة، ويفرض تعرفة جمركية عالية تصل إلى ٢٥% على أقرب حلفاءه ومن ضمنهم الإتحاد الأوروبي. يتصرف وكأنه كلي القدرة وبامكانه ترويض واخضاع كل مناطق وشعوب الأرض. يريد فرض السلام الغير عادل بالقوة، وكسب الحروب التجارية بالترهيب والتهديد. يروج هو وإدارته لاستراتيجية “التفكير خارج الصندوق” لتمرير أحلامه ومخططاته، ويراهن على خضوع الدول والأنظمة لإرادته بفضل ما يمتلكه من أدوات ضغط ومن فائض قوة عالمية. هو يدرك ، وبفضل خبرته التجارية، أنه يمكنه النجاح في بعض المناطق القابلة للخضوع كدولة بنما التي وافقت على المرور المجاني للسفن الأمريكية عبر القناة، كما واعلنت انسحابها من مبادرة الحزام والطريق الصينية.
لكن إذا ما نظرنا إلى الصورة الكبرى، نجد أن ترامب ليس قدرا، وأن أحلامه المستحيلة وقراراته اللااخلاقية يمكن أن تقلب بنتائجها وتداعياتها السحر على الساحر وتسبب الضرر للولايات المتحدة نفسها. فهو بقراراته واجراءاته وحربه التجارية حتى على حلفاءه، يقوم بعزل الولايات المتحدة عن محيطها وعن كل دول العالم، ويوحد معظم العالم ضده حيث لن يكون هناك حليف له سوى دولة الإحتلال. فالمكسيك التي وافقت على نشر عشرة آلاف جندي إضافي على الحدود مع امريكا، أعلنت أن البدائل للمنتجات الأمريكية متوافرة ويمكن تأمينها كليا محليا أو من دول أخرى. كما وان أوروبا تستعد للمواجهة وتهدد بالمعاملة بالمثل.
ونحن في فلسطين وفي الإقليم نستطيع المواجهة وإسقاط أحلام ترامب ونتنياهو، خاصة وأن معظم العالم اليوم يتكلم بلغة واحدة هي لغة الشرعية والقانون الدولي في وجه لغة الاستعمار والجنون الامريكي الإسرائيلي. واليوم يتوحد الموقف الفلسطيني في رفض ومواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني الهادف إلى تهجير أهلنا من قطاع غزة والاستيلاء عليه، كما يتوحد في رفضه لما يخطط له العدو من عملية ترانسفير إلى الاردن أو غيرها. هذا الموقف الفلسطيني الجامع عبرت عنه القيادة الفلسطينية بشكل حازم وقاطع معلنة أن فلسطين ليست للبيع ،موقف تعززه المواقف المصرية والاردنية والسعودية الحاسمة والرافضة لأي عملية تهجير تحت أي مسوغ أو مبرر، واعتبرته محاولة لتصفية القضية الفلسطينية.
لكن هذا ليس كافيا. فأمام خطر ضياع القطاع بالكامل، على حركة حماس أن تقوم بالخطوة الوحيدة الصائبة والتي تتمثل بتسليم السلطة في قطاع غزة للسلطة الوطنية الفلسطينية صاحبة الولاية القانونية والمعترف بها دوليا، والقادرة على التواصل مع كل دول العالم لحشد أكبر دعم دولي في مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني. كذلك لا بد من عقد قمة عربية إسلامية على مستوى الملوك والرؤساء لبلورة موقف عربي إسلامي موحد وحازم ، والتوافق على آلية عمل ميدانية واجراءات جادة ، وعدم الاكتفاء بالاستنكار والتنديد. كذلك التنسيق مع دول العالم الرافضة للسياسات الأمريكية، وتشكيل لوبي عالمي ضاغط يقف في وجه أصحاب النزعات الفاشية والامبريالية المتحالفة مع الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة.
وكما سبق وقلنا، فإن ترامب ليس قدرا، والسلام لا يمكن فرضه بالقوة، بل يجب أن ينطلق من منظار أهل المنطقة، والاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها وفي مقدمها شعبنا الفلسطيني الذي لن يترك أرضه، ولن يتخلى عن ثوابته.