بروكسيل /تنفست الأوساط الأوروبية الصعداء خلال هدنة عيد الفصح، غداة توصل أطراف اللقاء الرباعي إلى اتفاق مبادئ من أجل وقف التصعيد بين روسيا من جهة وأوكرانيا والدول الغربية من الجهة الأخرى. ويؤجل الاتفاق، إذا نُفذ، خيار اندلاع حرب اقتصادية على نطاق واسع بين روسيا والاتحاد الأوروبي. ويقتضي اتفاق المبادئ نزع أسلحة المجموعات الأوكرانية غير الشرعية وإخلاء المباني العامة والساحات والتمهيد لإطلاق حوار شامل بين روسيا والغرب حول إصلاحات دستورية ستحدد مستقبل أوكرانيا.
لكن الاتفاق لم يشمل مسألة الديون المستحقة لروسيا التي تطالب أوكرانيا بتسديد مبلغ يتراوح بين 14 بليون دولار و16 بليوناً، منها بليونان كلفة صادرات «غازبروم» من الغاز إلى أوكرانيا. ووفر الاتحاد الأوروبي على نفسه عناء الإسراع في إعداد ترسانة العقوبات الاقتصادية التي كانت متوقعة لو فشل لقاء جنيف الرباعي الخميس، كما وفر عناء الكشف عن الانقسامات التي تشق صفوفه إزاء مسألة توسيع العقوبات الاقتصادية والمالية ضد روسيا.
وتتعرض حكومات دول الاتحاد، خصوصاً بريطانيا وألمانيا وهولندا، إلى ضغوط من مؤسسات الطاقة والصناعة من أجل التحفظ عن المغامرة بدخول حرب اقتصادية ضد روسيا. وتعتمد السوق الأوروبية على واردات الطاقة من روسيا لتغطية ثلث حاجياتها بخاصة من الغاز الطبيعي. وتمثل روسيا المزود الأول لأوروبا بالغاز تليها النروج بنسبة 22 في المئة والجزائر بنسبة 18 في المئة ثم الدول الأخرى.
وتعتمد بعض دول الاتحاد كلياً على واردات الغاز الروسي وتصل إلى نسبة 100 في المئة لدول مثل فنلندا وليتوانيا وتشيخيا وسلوفاكيا و85 في المئة بالنسبة إلى بلغاريا. وتعتمد النمسا بنسبة 65 في المئة على واردات الغاز الروسي وبولندا بنسبة 58 في المئة واليونان بنسبة 57 في المئة وهنغاريا بنسبة 45 في المئة وألمانيا بنسبة 40 في المئة وإيطاليا بنسبة 25 في المئة وفرنسا بنسبة 15 في المئة وبقية دول الاتحاد في غرب أوروبا بنسبة تقل عن 15 في المئة.
وعلى رغم شدة ارتباط السوق الأوروبية بإمدادات الغاز الروسي كان عدد من دول الاتحاد، خصوصاً الدول الشيوعية سابقاً، الأكثر تشدداً في المطالبة بتوسيع العقوبات ضد روسيا. وطفت على السطح السياسي تراكمات تاريخ الحقبة الشيوعية وسيطرة الاتحاد السوفياتي على دول وسط أوروبا وشرقها. وكانت بولندا ودول البلطيق في صدارة الدول التي طالبت بفرض عقوبات شديدة ضد روسيا على الصعيدين الاقتصادي والسياسي وكذلك بتعزيز القدرات العسكرية لحلف شمال الأطلسي في وسط أوروبا وشرقها من أجل إبلاغ روسيا رسالة شديدة حول العواقب التي ستترتب إذا كررت تجربة تغيير الحدود بالقوة مثلما فعلت في شبه جزيرة القرم.
لكن دولاً كبيرة مثل بريطانيا اكتفت بتصريحات متشددة ضد الحشود العسكرية الروسية وضلوع روسيا في أزمة أوكرانيا، من دون إجراءات عملية حاسمة. وتخشى لندن عزوف رجال الأعمال الروس عن سوقي المال والعقارات في لندن. وتفادت فرنسا الإلحاح على توسيع العقوبات لأن هذا الخيار قد يدفع موسكو إلى إلغاء صفقة سفينتين حربيتين تُصنعان في فرنسا لمصلحة روسيا في مقابل 1.2 بليون يورو. والتزمت ألمانيا بتأكيد رفضها ضم القرم والتحذير من عواقب زعزعة استقرار أوكرانيا. لكنها ظلت حذرة إذ تأخذ في الاعتبار حجم المبادلات والاستثمارات ونشاطات المؤسسات الصناعية الألمانية في السوق الأوروبية.
وقال ديبلوماسي بارز فضل عدم ذكر اسمه لـ «الحياة: «إن المواجهة بين روسيا والدول الغربية تكتسب بعض الجوانب الأيديولوجية التي تفرضها بعض الدول الشرقية على أوروبا الغربية والولايات المتحدة». وقال إن «بولندا ودول البلطيق تقودها تراكمات التاريخ فحاولت استدراج دول الاتحاد إلى حرب اقتصادية مؤذية للجميع. ويتحرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدوافع أيديولوجية أيضاً إذ يحاول من خلال زعزعة استقرار أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم وتكليف نفسه حماية السكان الناطقين باللغة الروسية استعادة مجد الاتحاد السوفياتي الضائع».
وتتفق مصادر في بروكسيل على أن ما جرى «نسف الثقة وسيترك أثراً سلبياً على العلاقات بين روسيا والغرب لفترة طويلة وأن كل طرف سيعيد تقويم خططه الاقتصادية والسياسية والعسكرية حتى لا يفاجأ بقلب ميزان قوى الردع». وصادقت القمة الأوروبية في 6 آذار (مارس) الماضي على عقوبات من ثلاث مراحل استهدفت في البداية رجال الأعمال والأمنيين المسؤولين عن استفتاء انفصال القرم وبعض المقربين من بوتين ومنهم نائب رئيس الوزراء ديميتري روغوزين المعروف بعلاقاته مع «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) إذ كان سفيراً لبلاده في بروكسيل خلال حرب جورجيا في 2008.
وأوصت القمة، قبل اللقاء الرباعي في جنيف الخميس، بإعداد ترسانة من العقوبات المؤذية ضد بعض القطاعات الاقتصادية، إذا لم تبادر روسيا بخطوات من شأنها تخفيف التوتر. وشملت الإجراءات الأولى تجميد الأصول وحظر تأشيرات الدخول. وهي تكمل إجراءات اتخذتها الولايات المتحدة ضد المسؤولين الروس. وعلى رغم أن الإجراءات بدت رمزية ومحدودة، كان تأثيرها كبيراً في ثقة المستثمرين فسجلت سوق المال في موسكو تراجعاً كبيراً، واضطر المصرف المركزي الروسي إلى ضخ البلايين من الدولارات للدفاع عن قيمة الروبل التي ما فتئت تتراجع بانتظام لقاء العملات الأجنبية.
ورصد الخبراء هروب 70 بليون دولار خارج روسيا. وترجح تقديرات اقتصادية تراجع النمو في روسيا هذا العام بسبب التوتر السياسي بين روسيا والغرب. وتعد الدول الأوروبية الآن ترسانة عقوبات ملموسة قد تستهدف مؤسسات في قطاعات الطاقة والمصارف والتكنولوجيا المتقدمة. وتعتمد روسيا على أوروبا والولايات المتحدة للتزود بنسبة 50 في المئة من عتاد التجهيز ما يمثل أداة تأثير حاسمة، إذا فشل اتفاق جنيف الرباعي وانتهت الهدنة بتفجر الحرب الاقتصادية.