يدفعني علي، الذي لا يرى، على ذلك الكرسي المتحرك، علي القريب من عمر والدي، يمشي خطوة خطوة، أسمع صوت زفيره المتلاحق، أنظر إلى ما تبقى من رجلي تحت بنطالي الأسود، الذي طوي القسم السفلي الفارغ منه إلى الخلف وثبت بدبوس اسفل خصري، طالما لم احذره يبقى يدفع، علي بلا زوجة أو ولد، كيف أصبح الأقرب إلي وأصبحت أنا الذي تبقى له كما يقول!.
وافق أخيرا أن يصطحبني لنقوم بتحميض الصور في أفلامه القديمة، فيلم الزفاف القصير وبعض صور” أيام العسل” وصور الخروج من بيروت، يقول لي علي: أشعر أنني سأفتح قبراً بعد عشرين عاماً، قبر زوجتي وأصدقائي. ذُبحت زوجة علي في صبرا وشاتيلا. يُخرج علي الأفلام بعد عشرين عاماً، علي الذي أصيب بالعمى قبل وقت ليس بالبعيد كان يعرق ويرتجف كلما حاولت إقناعه بان يحمض الصور”. أشعر أنني سأحيي الموتى وأجعلهم ينزفون ويتألمون مجدداً اذا حمضتُ الصور”. عندما أصمت وأتنهد؛ يعلم أمر استغرابي من خوفه وهو الذي لا يرى، فيردد: أذكر تلك اللحظات ثانية ثانية، عندما تطبع الصور ستخرج الذكريات من سجنها وتنتشر وتجبرني أن أرى، فالذي يتذكر يرى يا ياسر!
لم ينم هذا التفاهم بيني وبين علي على مهل، سقطت كل اجتهادات المعرفة والخبرة والتجربة معه، يمكن أن تصبح اللحظة أبدية وأزلية، لقد التقيته في سيارة الإسعاف، وتجاورت معه وأنا أفقد نصف جسدي، وهو يفقد نور عينيه، كان يودع النور في عينيه، عندما تناسى جراحه وواساني حتى لا أرى جروحي القاتلة، عندما يسابقك من جاورك بجانب القبر الجماعي وثلاجة الموتى الخسارة، لا تحتاج وقتاً أطول لتعرفه، تسقط أسطورة الزمن.
يتعرق ويرتجف عندما سمع وقع حزمة الصور على الطاولة، يحدق بترقب وهو الأعمى، انظر إلى الصورة الأولى، علي بشعر طويل يغطي أذنيه ووجهٍ نحيل، يبدو العرق على وجهه ظاهراً في الصورة رغم أن الألوان بدت باهتة مع مرور الزمن، شارباه سوداوان كثيفان، يبتسم، تظهر أسنانه بيضاء متناسقة، يرتدي جاكيتاً اسود دون ربطة عنق، بدلاً من ربطة العنق كانت الكوفية، يضع يده على كتف رفيقة زوجته….، بمجرد أن وصفت له الصورة قال: خلفي كان شعار الثورة، والى يميني كما ترى تجلس أم الأمين.. وصف الصورة كأن من التقطها التقطها بالأمس، وصف لي ابتسامة رفيقة وكيف سرَّحت شعرها، لم يكمل ثم بكى من عينيه.
الشيء الوحيد الذي تأخر علي بمصارحتي الدقيقة فيه؛ لم يكن تلك الهدية التي تلقاها من “إسرائيلي” في أحد فنادق مدريد عندما ذهب ليصور وقائع المؤتمر، وتأخره في اكتشافها كل ذلك الوقت، بعد أن اهملها لسنوات، لم يفتحها إلا في رام الله واكتشف أنها كانت ما كانت، ظل يتحسر على قبولها، ويلوم نفسه، لو انه كان يعرف ماهي لتخلص منها في الفندق!
لم يتحسر علي على كل السنوات التي كان الجسد في الهدية يغويه، ولا شعوره بأنه يأكل لحم محبيه وزوجته، كانت الممثلة صدى صوت غريب، يلفظه ثم يعود ويلم بقاياه، وكلما فعل ذلك بصق علي على نفسه بالمرآة، صارحني بكل ذلك، وصارحني بأن العشرة بينه وبين الممثلة في ليالي الوحدة والبرد والجفاف، كانت عشيقته التي تنتظره، كلما قتلها عادت لتحيا من جديد، وعاد لجلد ذاته اكثر.
اللحظة الأكثر قسوة في مصارحته لي، كانت عندما شعر انه لن يرى ثانية وعندما تيقن انه كذلك، وصف لي تلك الليلة اللعينة قبل إصابته، عندما رأى الممثلة وقد أصبحت عجوزا ذابلة صفراء الأسنان خفيفة الشعر تلمع صلعتها من تحت مرابط الشعر، كانت محنته انه خسر حتى التذكر اللذيذ واجترار اللذة، وكيف تمنى لو تقدم عماه ليلتين فقط. أصيب بالعمى قبل رؤية الهدية، او على الأقل علي الذي يحمل الجثث والأمكنة بآلاف الصور، يحنو ويخاف عليها اكثر من نفسه، قلت له: هوّن عليك، لم تعد إسرائيل تخاف الصور، الصور التي كانوا يسرقونها من جيوب المشردين الذين يقتلونهم وقت التهجير والنكبة، يفرجون عنها الآن، أما العالم فسيبكي عليك في اللوحة، لكن بعد فوات الأوان، لأنه سيبكي عليك وسيكرم قاتلك.
عندما رأى المصور صورته الأولى
لم أعتد على هذه الأحذية من قبل. أحسّ أن قدميّ تختنقان، أصابعهما تتداخل، تذكر ذلك. لا تنسَ حركتك الحذرة على أرضية الفندق اللامعة الملساء. حذائي الأسود يصدر صريراً عالياً كلما حركت قدمي بشكل دائري حتى لا أتزحلق. كان سقف القاعة في الفندق وهّاجاً، بحيث لم تستطع عيناي التركيز، الزجاج اللامع والأثاث المرتب. لا تنسَ بوفيه الطعام الأجنبي الغريب. تذكر أنك لم تأكل إلا الخبز وبعض الحلوى. لم أكن أعرف معظم أنواع الطعام، رغم أنني سمعت وقتها أن الطعام أُعدّ ليناسب أذواق الجميع في هذا الحدث الكوني الرهيب.
لا تنس “أشياء” غير الحذاء كانت تخنق جسدك: جاكيت البدلة وربطة العنق التي تحتكّ بأسفل ذقني الحليق للمرة الأولى بفعل حِدة الشفرات وجِدّتها، كأني أحلق للمرة الأولى. تذكر كيف شعرت أن جلدك ينسلخ مع انزلاق الشفرات على وجهك أمام المرآة المتعرقة من البخار المتصاعد حول حوض الحمام، لا تنسَ كم مرة شارفت على السقوط عندما انزلقت قدماك على أرضية الحمام جراء الرغوة المتناثرة من أنواع الصابون التي لا تعرفها ولا تعرف استعمالها.
أمام هذا الضوء والأرضيات النظيفة والموظفات الأنيقات والمضيفين اللطيفين، كان هناك شيئان داكنان قديمان فقط: كفاي وكاميرتي. تذكر أن جسدك كله قديم وصدئ، فهو لم يستحمّ قبل ذلك بهذا الترف، ولم ينم على فرشة بهذه النظافة وتلك الرائحة. وخدك لم يعرف وسادة بهذه الهشاشة والنعومة. لا تنسَ أن كل ذلك لن يستطيع غسل الشظايا التي يعضّها لحمك وتنهشه كلما صعدت الدرج، وكلما تحركت حركة سريعة.
لم أعرف كم كانت كاميرتي قديمة إلا عندما انتهت كلمة رئيس وزراء إسبانيا “جونزاليس” آخر أيام شهر أكتوبر في العام 1991، عندما دخلت مع الوفود الصحافية الكبرى التي جاءت لتغطي الحدث الكبير الذي سينهي الصراع بين العرب وإسرائيل في مؤتمر مدريد. كان هناك أناس كثيرون وزعماء كبار، فقط كنت أستطيع مشاهدتهم في التلفزيون، يبتسمون أمامي وادعين لطيفين. كانت مهمتي التقاط الصور ممثلاً للوفد الفلسطيني. أحمل الكاميرا. أوجهها نحو المنصة.. الصورة الأولى، الثانية، الثالثة، الرابعة، الخامسة. لا أمل. لم أتمكن من التقاط الصور. كأني أعمى أحاول وأحاول. كلما سمعت صوت التقاط الصور والكاميرات اللامعة الضخمة الحديثة أمامي، نظرت إلى كاميرتي الصدئة، ممزقة الجلد، مخدشة الأغلفة، شاحبة العدسات. كلما حاولت التقاط الصور، ضغط الحذاء أصابع قدمي، وانغرست ربطة العنق في رقبتي، درجة حرارتي ترتفع، قشعريرة تسري بجسمي. كانت الشظية بين أسفل إبطي وأعلى خصري هي ما نهشت لحمي وقتها. تحس أنها مِخلبا عقرب يحاول الخروج من تحت اللحم. لا تنسَ أن الشظية اللعينة في ردفك الأسفل تحوم حول نفسها في إليتك وتتضامن مع الشظية العليا كلما تحركت حركة زائدة.
طلبت من وفدي أن يحضروا لي كاميرا جديدة. لم أستطع التقاط أية صورة بالكاميرا القديمة. كل شيء حولي جديد، جديد. كانت نظرات الصحافيين إلى الكاميرا التي أحملها نظرات غريبة، فيها سخرية واستخفاف!
لن أنسى كيف وبّخني مسؤول تجهيزات الوفد وقتها: “بدك تفضحنا”! لِمَ لَم تطلب كاميرا جديدة؟
لا تنسَ وقتها أنك قلت في نفسك: ربما لا تريد الكاميرا “المهترئة” للصور الجديدة أن تجاور صورها القديمة.
بعد أن شربت القهوة، وهي الشيء الوحيد الذي عرفته من النظرة الأولى في واجهة الطعام الهائلة التي أُعدت ليس ببعيد عن القاعة؛ جلست مسنداً ظهري إلى ذلك العمود الهائل المرصّع بالزجاج والمحاط بالمرايا. تنظر إلى وجهك في المرآة، ترى كيف اختنق خدّاك وجحظت عيناك. لا تنس وقتها أنك حدّقت بعينك وقلت لنفسك: لم تكن الكاميرا قديمة، لكني عندما سمعت كلمة الوفد الإسرائيلي، ورأيت إسحق شامير، نسيت أنني المصور، واختلط “زر” التصوير، بالزناد لإطلاق الرصاص، لذلك تهت بين الحالتين وقلت في نفسي: اهدأ، الآن لا تستطيع، أنت هنا مصور فقط، واترك هذه العادة القبيحة القديمة بأن ترمي الكاميرا وراء ظهرك إلى اليسار، والسلاح إلى اليمين. عليك أن تدليها إلى صدرك أو تحملها بيدك، مثلما يفعل الجميع هنا.
تطوف مضيفة طويلة، ترتدي قميصاً أبيض وتنورة قصيرة سوداء توزع الابتسامات، يجري الجميع خلف الوفود التي غادرت جلسة الافتتاح. لم تأتِني الكاميرا الجديدة. لم ألحق لالتقاط الصور. أمام البوفيه، تجمعت الوفود. قالوا إن البوفيه يضم طعاماً أميركيّاً وإسبانيّاً وعربيّاً وفلسطينيّاً وإسرائيليّاً، ليروق للجميع في هذا الاحتفال الرهيب الذي أريد منه إطلاق السلام ووقف الدم.
***
وحدك الآن في غرفة الفندق. ضوء باهت يتسلق الجدار على طاولة صغيرة بجانب السرير. أضع كاميرتي، ينعكس عليها الضوء الأصفر، أخلع نعلي والقميص، أتنفس، أنظر إلى مدينة مدريد مع الظلام، أرى الكاميرا، كأنها صندوق أرواح تصعد نحو السماء، أشعر أن غطاء الطاولة ينقط دماً، وأن الكاميرا تنزف أفواهاً صارخة وعيوناً دامعة. عرفت الآن، لِمَ أصور، لأنني رأيت الصور التي في عقلي وليست الصور التي أمامي. من بؤرة العدسة أسمع صراخ الطفلة التي نزعوها من بطن أمها الميتة عندما قصفت إسرائيل شارع الجامعة العربية في بيروت عام 1982. أقف بين الجموع ورائحة الدم والجروح والدمار، النار والدخان الأسود والصراخ. ينتزعونها من الجثة، يفرحون بمولودة وسط مئات الجثث، يتيمة جديدة، يغطون جسد الأم، أرى الدم الداكن على سريرها، تنظر الطفلة إليّ، أحس أن الكاميرا تنفث الدخان، وأشمّ الرائحة نفسها، أقفز أغطي الكاميرا، أحسّ أن المدينة كلها تزحف نحوي وتضيق كالقبر، تعصرني وتكسر ضلوعي، أقفز، أغطي الكاميرا بالمنشفة، وأحاول النوم.
أخاف أخاف، بعد كل الذي رأيته، أخاف الآن، أخاف من لا شيء، من الهدوء والنظافة المفرطة حولي. فقط أشعر براحة أن قدميّ تتنفسان، فأنا معتاد منذ صغري على الأحذية الواسعة والملابس الفضفاضة، فقد كنت أصغر شبل في المعسكر.
أخاف بين هذه الجدران الناعمة والستائر البيضاء والأضواء الخافتة المتزنة، أخاف وأرجف في أكثر الأمكنة أمناً في العالم هذه الساعة، وأنا الذي كنت أصغر شبل في معسكر الكرامة. أشرب من زجاجة ماء نظافتها تخطف بصري وأتمرغ بأرقى أنواع الفراش. أخاف وأنكمش، وكنت لا أخاف عندما ينادي أبو خطاب، القائد والمدرب في المعسكر، على الطابور الصباحي وقت الصقيع عندما كانت التربة البيضاء تبدو كأنها جليد أبيض يتصاعد منه البخار مع ساعات الفجر الأولى، حيث الطابور. كنت عارياً من نصفي الأعلى مثل بقية المقاتلين، كنت أصغرهم سنّاً، كان أبو خطاب يعاير المتدربين بي. لا تنسَ كيف ربطوا لك البنطال بخيط؛ لأن خصرك النحيل كان أصغر من أصغر بنطال عسكري. أركض بين ضباب الصباح الأول في البرد الجاف. كان على المتدربين في المعسكر أن ينزلوا إلى براميل الماء التي تجمد سطحها. كان علي أن أدلي رأسي وأجعل خصري على حافة البرميل، وكان يجب أن أشرب وألتقط أي شيء في البرميل، ألتقط عصفوراً ميتاً سمعت أحشاءه تتمزق تحت أسناني، وكانت رائحة ريشه مع بداية التعفن تخترق أنفي.
استشهد معظم أبناء دورتي العسكرية. كيف يمكن أن أنسى يوسف العكاوي الملقب بـ”البرق”! سألني:
– من أين أنت؟
– من عكا.
– بلد وحدة يعني.
– معقول.
رفيقي في المعسكر، فرشتي إلى جانب فرشته، كان أكبر مني بسبع سنين. يا لوجهه البشوش وشاربيه الطويلين المعقوفين وشعره الطويل! كان يحب البطاطا المقلية. يجلس مع الغروب على الصخرة المحاذية لشجر السرو الذي يحيط بالمعسكر. ينظر نحو الشرق، ويقول لي: كم نحن بعيدون عن عكا؟! يسرح، يغرز كفيه بين خصلات شعره، ويعيد القول: متى ينتهي هذا اليوم؟! انتظرنا طويلاً.
هل يصدق يوسف أني أبيت مع إسحق شامير في الفندق نفسه! وأني أكلت من المائدة التي أكل منها؟!
يوسف الذي كان يبكي وهو عائد من الدورية على الحدود. ينتظر الليل ليعبر ويقاتل. يبكي فرحاً كلما دخلت قدماه الحدود الفلسطينية ويغني:
طل سلاحي من جراحي يا ثورتنا طل سلاحي
ولا يمكن قوة في الدنيا تنزع من إيدي سلاحي.
ويعلي صوته ويمسكني من كتفي مكملاً:
دربي مرّ، دربك مرّ، ادعس فوق ضلوعي ومرّ.
يجلس مغبرّاً بعد أن يتعشى البطاطا المقلية، ويخربش على الرمل: عكا. قبل أن ينام يقول: نحن ننتظر وعكا تنتظر. ما أجمل الانتظار!
لا تنسَ -وكيف تنسى!- عندما شارك في عملية تحرير الحمّة عام 1969، قال: سنشُمّ رائحة طبريا، وسنرى البيوت والحجارة. ألا تشبه عكا؟! رفض أن أشارك. قال: أنت صغير. بكيت وعلت شهقات بكائي. قلت له: مش إحنا ولاد بلد وأنا يتيم. اقترب مني وقال: سأطلب من أبو خالد أن تشارك في الإسناد. وافقت، وكنت سعيداً، فأنا مميز في الإسناد.
الليل يضيء، والانفجارات تمزّق الأفق، النار والنار المضادة، وأنا أرقب المعركة من بين الظلام وأغصان الشجر. قلبي يدق ويدق. أحاول النزول، فأذكر الأمر العكسري. مع بداية القصف المدفعي وصوت المروحيات، شعرت أن المعركة انتهت. رفع العلم الفلسطيني على الحمّة. توافد الإخوة مع الجثث. كانوا ستة من دفعتنا ومن كتيبتي. عاد يوسف يقفز برجل واحدة. هرولتُ وقد سقطتُ في طريق المنحدر وبقيتُ أتدحرج حتى كان تدحرجي الأخير تحت رجله. كان يحمل رجله التي بترها رصاص رشاش ثقيل. كان الدم يتقاطر من رجله المبتورة التي فار دمها على الكوفية التي لفّ بها الجرح، كانت الكوفية تعصب الجرح بشكل دائري، وكان اللحم الممزّق يخرج منها، والتراب المنقوع بالدم الذي تحول لونه للأسود.
وقفت، عيناي مقابل عينيه. ابتسم وقال: “يالله، فش وقت”. تذكرته وهو يغني: طل سلاحي من جراحي. وقال: “شايف! هاي أول شقفة اندفنت بعيد عن عكا”. تذكر أنك غنيت وقتها:
دربي مر دربك مر ادعس فوق ضلوعي ومر.
وقتها، تعلمت الفرق بين أن تقول الكلام وأن تعيشه، وبين أن تلتقط الصورة وأن تكون مادتها الملتقطة!
دفن يوسف رجله بجانب المعسكر بعد أن لفها وخبأها تحت مقعد السيارة.
بعد الرحيل إلى بيروت، عملت مع يوسف في القاطع الشمالي، وتجاورنا في معسكر بالجانب من مزارع شبعا. قال: “قربنا شوي”. في العام 1973، في حرب أكتوبر، تعرضنا لقصف مدفعي واحترقنا بالقنابل الفسفورية. وقتها، كان قد تفرغ لوحدة السلاح المضاد للطيران. قال: “هون بتطخّ وإنت قاعد”. اشتعلت المعركة. رفع لي شارة النصر. مع اختراق الطيران للريح، انفجر مدفعه، وأحسست أن شيئاً حارّاً يأكل قدمي. قضمة فم معدني تجرش العظم وتحرق اللحم. لم أنظر إلى الأسفل. كانت النار تشتعل من كرسي يوسف المعلق. أركض نحوه وأنا أعرج، وكأن رجلي قد شلت. أسحب قدمي كأنها غارقة في الوحل اللزج. لوح لي بشارة النصر. وقبل أن تنطفئ النيران تماماً، لم أستطع لحاق كلمته الأخيرة أو لم يستطع قولها. نظرتي الأخيرة إلى وجهه كشفت عن بلل هائل لا أدري أكان تعرقاً أم دمعاً أم ماء الحريق.
هرب وجه يوسف من بين يديّ. وقتها، عدت لأستعيده ثانية، وتذكرت صورتي معه في معسكر الكرامة، وقلت: لو احتفظت به مؤقتاً قبل أن يغيب أبداً!
طلبت من أحد الإخوة أن يشتري لي كاميرا. بالفعل أحضرها لي. اكتشفت وقتها كيف التهم القصف جزءاً من قدمي، حتى وصل عظم مشط القدم. كانت رائحة اللحم المحترق وقتها هي رائحة لحمي ولحم يوسف، وهي الرائحة التي سأشمُّها كلما نظرت إلى الصور.
_________
*روائي وناقد، أستاذ الإعلام والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، تتركز اهتماماته حول السرد وثقافة الصورة والاستشراق. أصدر نصه الروائي الأول “محكمة الشعب” عام1991، ووصلت روايته “وارث الشواهد” للقائمة القصيرة للجائرة العالمية للرواية العربية “البوكر” عام 2017.