أمد/ أنقرة – الأناضول: من أكبر داعم لحركة التحرير الفلسطينية بالسلاح، إلى ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل، لا تجد الصين مفارقة في هذه المعادلة بعدما أصبحت أكثر برغماتية في علاقاتها الدولية منذ عام 1978، بدلا من خطها الثوري الذي تبناه زعيمها المؤسس ماو تسي تونغ.
فالموقف السياسي للصين ما زال إلى اليوم مساندا للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن، آخرها تصريح للمتحدث باسم الخارجية الصينية وانغ وين بين، في أبريل/نيسان الماضي، الذي شدد على أن “الظلم التاريخي الذي طال (الشعب الفلسطيني) أكثر من نصف قرن لا يجب أن يستمر”.
وبالمقابل، تتدفق الاستثمارات الصينية على إسرائيل بشكل سريع وكثيف في قطاع التكنولوجيا تحديدا، وانتقلت من صفر دولار في عام 2000، إلى 15 مليار دولار في 2011، ناهيك عن الاستثمارات في قطاعات أخرى مثل الإنشاءات وأشغال البنية التحتية.
بينما ارتفعت المبادلات التجارية بينهما من 10 مليارات دولار في 2017، إلى 17.5 مليار دولار في 2020، وهو أكثر من ضعف حجم التجارة مع الجزائر (8 مليار دولار) ويكاد يعادل حجم التجارة مع مصر (19.7 مليار دولار).
هذا ما يدعو إلى التساؤل حول ما إذا كان تعاظم النفوذ الصيني في إسرائيل سيؤثر على دعم بكين للقضية الفلسطينية أم سيخدمها.
علاقات أقدم
لم تُقِم الصين علاقات رسمية مع إسرائيل إلا في 1992، بعد أسابيع من إطلاق مؤتمر مدريد للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن علاقة بكين مع حركة التحرير الفلسطينية (فتح) كانت أقدم بكثير.
إذ أن أول زيارة قادت ياسر عرفات وخليل الوزير (أبو جهاد) إلى الصين، كانت في 15 مارس/آذار 1964، أي قبل الإعلان عن تأسيس حركة “فتح” في يناير/كانون الثاني 1965.
فالصين في هذه الفترة كانت تدعم حركات التحرر في العالم، لذلك حظيت القضية الفلسطينية باهتمام بكين، بدعم من دول عربية صديقة لها وعلى رأسها مصر والجزائر.
حيث افتتح مكتب فلسطيني في بكين في 1964، وحصلت حركة فتح على دعم مالي صيني بـ7 آلاف جنيه استرليني، بحسب مركز الأبحاث، التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية.
واعترفت بكين بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني نهاية الستينات، وقدمت دورات عسكرية للفلسطينيين على أراضيها،
وأصبحت المصدر الرئيسي لسلاح المقاومة الفلسطينية، وفق مركز الأبحاث.
وبعد إعلان منظمة التحرير قيام “الدولة الفلسطينية” من الجزائر في 1988، اعترفت الصين بها، وواصلت دعمها لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم على حدود عام 1967.
وإلى غاية اليوم ما زال هذا الدعم متواصلا وإن اختلف عما كان عليه في الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات.
ففي 2018، أعلنت بكين أنها دربت ما يقرب من 5 آلاف كادر فلسطيني في كل المجالات على مدى 10 أعوام، وأنجزت أكثر من 40 مشروعا في الضفة الغربية وقطاع غزة.
التكنولوجيا العسكرية
رغم أن العلاقات الصينية الإسرائيلية انطلقت رسميا في 1992، إلا أنها فعليا بدأت في 1979 على الأقل، وفي هذا العام شهدت الصين حدثين كبيرين غيرا مجرى استراتيجيتها الخارجية.
أولهما تبني بكين سياسة “الإصلاح والانفتاح” منذ 1978، حيث سعت لتطوير علاقتها مع الخارج بما فيه الكتلة الغربية، بهدف تطوير اقتصادها بعدما عانت من مجاعة قضت على 20 إلى 43 مليون من شعبها بين عامي 1959-1961.
وثانيهما: إخفاقها في تحقيق أهدافها عندما دخلت الحرب ضد فيتنام في 1979 ردا على غزو الأخيرة لكمبوديا في 1978، وتيقنت أن جيشها الضخم بدون أسلحة متطورة لا يمكنه الانتصار في المعارك حتى على جيوش أقل عددا وعدة.
ونظرا لصعوبة حصولها على التكنولوجيا العسكرية من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وحتى من الاتحاد السوفييتي بسبب خلافات عقائدية (1956-1966) وحدودية (1969)، وجدت بكين في تل أبيب ضالتها.
وبوساطة رجال أعمال، زودت إسرائيل الصين، بتكنولوجيا عسكرية فاقت قيمتها مليار دولار في 1979، لكن ذلك أثار ذلك حفيظة واشنطن التي تناصب الصين العداء خاصة في فترة الحرب الباردة (1945-1991).
نفوذ يقلق واشنطن
وبعد إقامة علاقات رسمية بين بكين وتل أبيب في 1992، تطورت الأمور بشكل متسارع، وأصبحت إسرائيل جزءا من مبادرة الحزام والطريق الصينية، واستراتيجيتها في الانتشار بالبحر الأبيض المتوسط.
حيث استحوذت الصين على العديد من الشركات الإسرائيلية على غرار شركة الكهرباء، واقتحمت مجال إنتاج الطاقة الشمسية، وتشارك أيضا في مشاريع البنية التحتية مثل ميناء حيفا الجديد، وأنفاق جبل الكرمل بحيفا (شمال غرب)، وخط قطار عكا (شمال غرب)- كرمئيل (شرق عكا)، وخط السكك الحديدية الخفيفة في تل أبيب، وغيرها.
تصاعد الاستثمارات الصينية زاد بالتأكيد من نفوذ بكين في إسرائيل، ودفع واشنطن لممارسة ضغوط على تل أبيب لكبح هذه الاستثمارات ومنع وصول تكنولوجيا عسكرية إسرائيلية إلى الصين.
كما دعت واشنطن تل أبيب إلى التشدد في إمكانية دخول شركات صينية للاتصالات إلى السوق الإسرائيلية وعلى رأسها “هواوي” وتقنيتها للجيل الخامس بسبب الخشية من التجسس عبرها.
واستجابت تل أبيب للضغوط الأمريكية ومنعت استحواذ الصين على بعض الشركات الإسرائيلية في قطاعات حساسة على غرار التأمينات والاتصالات وتسيير الموانئ.
وشكّلت تل أبيب “اللجنة الاستشارية لفحص جوانب الأمن القومي للاستثمارات الأجنبية”، في 2020، لتقييم الاتفاقات المُبرمة مع الصين، استجابة للضغوط الأمريكية.
لكن هذا القلق الأمريكي تقاطع مع تحذيرات لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشباك) من الاستثمارات المكثفة للشركات الصينية التي قد تشكل خطرا على إسرائيل، خاصة ما يتعلق بالبني التحتية الاستراتيجية.
طريق واحد
الدعم الدبلوماسي للفلسطينيين مقابل التعاون الاقتصادي الوثيق مع إسرائيل، سياسة صينية يتفهمها الطرفان رغم أنها تحمل الكثير من المفارقة، إلا أنها ليست الحالة الوحيدة.
فمبادرة الحزام والطريق تتمدد في عدة مناطق مشتعلة من العالم دون أن تتورط في نزاعات الدول فيما بينها، فالبراغماتية الاقتصادية تتطلب التخلي عن حدة المواقف الثورية الشيوعية.
وعبّر عن ذلك السفير الصيني في الأمم المتحدة “ليو جيي” في 2018، عندما أوضح أن بلاده ترى في الفلسطينيين والإسرائيليين، “شركاء مهمين” في مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”.
وإن كان الفلسطينيون لا يملكون أوراق ضغط كثيرة لدفع الصين لقطع علاقاتها مع تل أبيب، خاصة بعد توطد هذه العلاقة اقتصاديا، إلا أن النفوذ الصيني المتزايد في إسرائيل من شأنه أن يلعب دورا في الضغط عليها لوقف أو تقليص اضطهادها للفلسطينيين.
ويمكن لبكين أن تلعب دور “الوسيط” المقبول من الطرفين، في أي مفاوضات قادمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في ظل الانحياز الأمريكي الحاد لتل أبيب، خاصة بعد اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل في 2017.