يقصد هذا التقرير إلى تحريض التفكير في هذه الطائفة المتنوعة والمتسارعة من التغييرات الجيو-سياسية والاقتصادية والتقنية التي تقوم بتحويل عالمنا اليوم، وإلى تأمل تجلياتها المستقبلية خلال السنوات الخمس عشرة إلى العشرين التالية.
ونبدأ هذا التقرير بتحديد ما نرى أنه الاتجاهات الكبرى الأكثر أهمية في عالمنا المتغير –تمكين الفرد؛ توزُّع القوة العالمية إلى شبكات متعددة الوجوه وانسيابها من الشرق إلى الجنوب؛ والأنماط الديمغرافية التي ستكون أبرزها شيخوخة السكان وحدوث انفجار في أعداد المنتمين إلى الطبقات الوسطى؛ والتحديات التي تشكلها الموارد الطبيعية. وهذه الاتجاهات الكبرى تمكن معرفتها، وهي تشير في حد ذاتها إلى عالم متغيّر، لكن العالم يمكن أن يُحوّل نفسه بطرق مختلفة جذرياً. وباختصار: إننا نتجه إلى مياه لا يمكن سبر أغوارها.
ونحن نعتقد بأن هذه الاتجاهات الكبرى تتفاعل مع ستة متغيرات، أو “مغيرات للعبة” (1) والتي سوف تحدد أي نوع من العالم المتغير سوف نَعمُر في العام 2030. و”مغيرات اللعبة” هذه –الأسئلة عن الاقتصاد العالمي، وطبيعة الحكم الوطني والكوني، وطبيعة الصراع، والتحولات الإقليمية، والتقنيات المتقدمة، ودور الولايات المتحدة في المسرح الدولي– هي العناصر الخام التي يمكن أن تزرع بذور الفوضى العالمية أو قدراً مذهلاً من التقدم العالمي على حد سواء.
وبناء على ما نعرفه عن الاتجاهات الرئيسية الكبرى، وبتصور التفاعلات الممكنة بين الاتجاهات الكبرى ومغيرات اللعبة، فإننا نستشرف أربعة أشكال محتملة للعالم: على أحد طرفي الطيف، ثمة عالم متوقف المحركات، والذي تتعاظم فيه الصراعات بين الدول وتعيد فيه الولايات المتحدة تخندقها. وعلى الطرف النقيض، ثمة عالَم مستعادُ التوازن ومُنصهر، والذي يكون فيه التقدم الاجتماعي والاقتصادي والتقني والسياسي مظاهر واسع الانتشار. وفي الوسط، ثمة إمكانيتان أخريان: عالم “جنّي خارج من القمقم،” والذي تسوده المظالم وتنعدم فيه المساواة؛ أو عالم اللادولة، الذي يزدهر فيه اللاعبون من غير الدول، سواء للخير أو الشر.
الفصل الأول
ثمة اتجاهات أربعة كبرى، هي التي ستحدد شكل العالم في العام 2030، وهي:
* تمكين الفرد.
* توزع القوة.
* الأنماط الديمغرافية.
* الترابط المطّرد بين الغذاء، والماء، والطاقة، في علاقتها مع التغير المناخي.
وهذه الاتجاهات موجودة اليوم، لكنها ستتعمق في غضون السنوات الخمس عشرة إلى العشرين المقبلة، وستصبح أكثر تداخلاً لتنتج عالماً مختلفاً نوعياً. وعلى سبيل المثال، سوف يؤدي دخول مئات الملايين من الناس إلى الطبقة الوسطى في كل مناطق وأقاليم العالم إلى خلق إمكانية لتحقق “مواطنية” عالمية، وبتأثير إيجابي على الاقتصاد الكوني والسياسة العالمية. وبنفس المقدار، يمكن أن يعمل غياب الإدارة والتقنيات الأفضل، والمزيد من محدودية الموارد، على الحدّ من تحقيق مزيد من النمو، وبما يتسبب في توقف محركات العالم.
وثمة أسفل هذه الاتجاهات الرئيسية تحوّلات تكتونية(2)–تغيرات حاسمة للخصائص الرئيسية لبيئتنا العالمية، والتي ستؤثر على الكيفية التي “يعمل” بها العالم.
الاتجاهات الكبرى
• الاتجاه الكبير الرابع: الترابط المطّرد بين الغذاء، والماء، والطاقة
ستكون للترابط المتزايد بين الغذاء والماء والطاقة –مصحوباً بالتغير المناخي- آثار بليغة على النمو العالمي خلال السنوات الخمس عشرة إلى العشرين المقبلة. وفي تحول تكتوني، سوف ينمو الطلب على هذه المصادر بسبب ارتفاع عدد سكان العالم من 7.1 مليار اليوم إلى 8.3 مليار نسمة في العام 2030. وكما أوضحنا سابقاً، سوف يزيد كل من التضخم المتوقع في الطبقة الوسطى والانتفاخ في سكان المدن من حجم الضغوط على الموارد الحاسمة –خاصة الغذاء والماء- لكن التقنيات الجديدة، مثل الزراعة “العمودية” في البنى ذات معدلات الزيادة العالية، والتي ستخفض كلف النقل أيضاً، يمكن أن تساعد في توفير الموارد المطلوبة. ويتعرض الأمن المائي والغذائي للتهديد من ظروف المناخ التي تتغير بأنماط خارجة عن الأعراف المقبولة.
إننا لا نتجه بالضرورة إلى عالم موسوم بالندرة، لكنه ينبغي على صناع السياسة وشركائهم في القطاع الخاص أن يعملوا بنشاط فائق لتجنب مواجهة مشكلة الندرة في المستقبل. وربما لن تكون لدى الكثير من الدول الوسائل لتجنب العجز في الماء والغذاء من دون مساعدة كبيرة من الخارج. وستدور الأسئلة حول ما إذا كانت إدارة المصادر الحرجة ستصبح أكثر كفاءة، وحول المدى الذي ستخفف فيه التقنيات من التحديات التي تشكلها هذه المصادر، وإذا ما كان سيتم تطبيق أشكال أفضل من الحاكمية لتجنب مواجهة أسوأ النواتج الممكنة. وفي الوقت الحالي، لا يوجد أي إطار دولي فعال للتعامل مع ضوابط التصدير التي عادة ما تفاقم حالات النقص في الغذاء. ويمكن لتعزيز استيراد الغذاء أن يساعد الدول التي تعاني ندرة في المياه لتقليل الضغط على مصادر مياهها. وسوف تتكشف هذه “الشكوك” القائمة على التقديرات البشرية غالباً بتفصيل أكبر في الفصول التالية من هذا التقرير، والتي ستناقش مغيرات اللعبة والعوالم البديلة. وسيركز هذا الفصل على الضغوطات التي ربما تتعرض لها هذه المصادر.
لن تكون معالجة المشاكل المتعلقة بإحدى السلع المذكورة ممكنة من دون التأثير على مستويات العرض والطلب بالنسبة للأخريات. وتعتمد الزراعة إلى حد كبير على قدرة الوصول إلى موارد مناسبة من المياه، وكذلك الأسمدة الغنية بالطاقة. وتشكل الطاقة الكهرومائية مصدراً مهماً للطاقة في بعض المناطق، بينما تهدد مصادر جديدة للطاقة –مثل الوقود الحيوي- بمفاقمة احتمال حدوث نقص في الغذاء. وهناك إمكانية للمفاضلات السلبية بين هذه العناصر بقدر ما هنالك إمكانية للتآزر الإيجابي.
كما أن السوق أيضاً في حالة تغير. وتقوم استراتيجيات استثمار الموارد الآسيوية المدعومة من الدول بتغيير بيئة الأعمال بالنسبة للمتنافسين في قطاع الصناعات الاستخراجية والاستثمارات الأخرى في البنية التحتية في البلدان النامية. وقد ركزت الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تقوم بها الشركات المملوكة للدولة –الموجودة بشكل كبير في الأسواق الصاعدة- باطراد على التنقيب، والتعدين، والبترول. وبشكل عام، أصبحت السلع الأساسية الآن مسؤولة عن حوالي ثلثي الاستثمار الخارجي المباشر للشركات المملوكة للدولة. وتقوم الدول الآسيوية مسبقاً بإعطاء الأولوية لعقود التوريد المحررة طويلة الأمد لتوريد النفط والغاز والفحم، مقرونة بحزم للمساعدات السياسية والاقتصادية.
الغذاء، الماء، والمناخ
يكشف استقراء للاتجاهات الحالية لأنماط حصة الفرد من استهلاك الغذاء والماء عن المدى المتوقع للمشكلة المتعلقة بهما خلال العقدين القادمين. ويتوقع الاستقراء أن يرتفع الطلب على الغذاء بنسبة تزيد عن 35 % بحلول العام 2030، لكن مكاسب الإنتاجية العالمية هبطت من 2.0 % بين العامين 1970 و2000 إلى 1.1 % اليوم، وما تزال في انخفاض. وقد استهلك العالم من الغذاء أكثر مما أنتج خلال سبعة من الأعوام الثمانية الماضية. وتجد دراسة عالمية مهمة أن الطلب العالمي السنوي على المياه سوف يصل إلى 6.900 مليار متر مكعب في العام 2030، مرتفعاً بنسبة 40 % فوق مصادر الماء المستدامة الحالية. والزراعة، التي تستهلك ما يقارب 3.100 مليار متر مكعب، أو أقل من 70 % من مسحوبات المياه اليوم فقط، سوف تحتاج إلى 4.500 مليار متر مكعب من دون تحقيق فوائد في الكفاءة. وتعيش ما نسبته حوالي 40 % من الإنسانية في أو بالقرب من أحواض أنهار دولية؛ وتتقاسم أكثر من 200 من هذه الأحواض أكثر من دولتين، ما يزيد من الاعتمادية ونقاط الضعف الناجمة عن التغيرات في الطلب ومدى توفر المياه. وبالقياس على التوقعات الحالية، تقدر منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD أن ما يقارب نصف سكان العالم سوف يعيشون في مناطق تعاني من ضغط شديد في موارد المياه في العام 2030.
لقد أفضى النمو الاقتصادي في الدول النامية إلى زيادة الطلب على الغذاء القائم على اللحوم. ويضع الطلب على اللحوم ضغوطاً إضافية على سوق الحبوب -لأن الماشية تتغذى على الحبوب- وكذلك على موارد المياه. ويزيد مقدار المياه المطلوبة لإنتاج اللحوم بكثير عن ذلك المطلوب لإنتاج مقدار مماثل من الحبوب أو الخضراوات. وبالإضافة إلى الزيادات في أعداد السكان، سوف يؤدي التمدن المتسارع إلى زيادة الضغط على موارد الأرض والمياه الضرورية لإنتاج الغذاء. كما يزيد الوقود الحيوي من الطلب على السلع الزراعية؛ ويتم تحويل ما نسبته 30-40 % من محصول الذرة في الولايات المتحدة إلى وقود في السنة الواحدة.
يشكل المناخ أهم محرك لإمدادات المحاصيل على المدى القصير. وبطبيعة الحال، يمكن للطقس الجيد أن يعزز مخرجات الحصاد، لكن الطقس السيئ أو الاضطرابات واسعة المدى المتصلة بالمناخ يمكن أن تأتي بنكسات جدية وخطيرة. وكان الحصاد السيئ الناجم عن سوء الطقس، وحالات الجفاف أو تفشي الأوبئة في مناطق الإنتاج الرئيسية، قد أسهمت فعلاً في رفع أسعار الغذاء.
سوف تتباين تأثيرات التغير المناخي على توفر المياه والغذاء بشكل كبير حسب المنطقة، وربما ستكون هذه التأثيرات أكثر محدودية في الفترة حتى العام 2030 من العقود التي ستلي ذلك. وعلى المدى المتوسط، يُتوقع لزيادة نسبة الكربون في الغلاف الجوي أن تعزز تسميد الكربون، وبالتالي غلة المحاصيل؛ ومع ذلك، فإن تأثير التغير المناخي على حوادث الطقس المتطرفة ربما يوازن التأثير الإيجابي على الزراعة. وبالإضافة إلى ذلك، تقترح تحليلات التغير المناخي أن أنماط متوسط هطول الأمطار سوف تتغير بحيث تصبح المناطق الرطبة أكثر رطوبة، فيما ستزداد الأماكن المجدبة جدباً. وسوف يحدث أكبر انخفاض في معدلات هطول الأمطار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما في كل من جنوب وسط آسيا، وجنوب أوروبا، وجنوب إفريقيا وجنوب غرب الولايات المتحدة. وفي أماكن مثل الجزائر والعربية السعودية، يتوقع أن ينخفض معدل هطول الأمطار في العام 2050 بنسبة 4.9 % و10.5 % على التوالي، بينما يتوقع أن يهبط معدل هطول الأمطار في إيران والعراق بنسبة 15.6 % و13.3 % على التوالي. وسيكون التغير في معدلات درجات الحرارة كبيراً في العديد من المناطق.
في منطقة الأنديز، تقوم المياه الجليدية الذائبة بتعزيز تدفق الأنهار وتزويد المياه لعشرات الملايين من الناس خلال الموسم الجاف الطويل. وهناك كميات صغيرة من المياه الذائبة، على سبيل المثال في بوليفيا والإكوادور والبيرو، والتي ستختفي في غضون العقود القليلة القادمة، والتي ستؤثر سلباً على الناس والأنظمة الإيكولوجية. ويعتمد مئات الملايين من الناس في كل من الصين والهند والباكستان على مياه الجليد الذائبة من مناطق هندو كوش والهيمالايا الجبلية.
سوف يتأثر مخزون الغذاء بقوة بتوفر الأراضي والمياه، وكذلك بمدى استخدام التقنيات الجديدة. ونظراً إلى أن الزراعة تستخدم 70 % من مصادر الماء العذب في العالم، وتستهلك تربية المواشي حصة غير متناسبة من هذه المياه، فإن إدارة المياه ستصبح أمراً حاسماً فيما يتعلق بالأمن الغذائي على المدى الطويل. ومع ذلك، فإن ممارسات إدارة المياه –بما في ذلك تنظيم أسعار المياه، والذي يمكن أن يحفز الاستثمار وتحقيق إدارة أفضل- قد تأتي بكلف سياسية عالية.
إن العالم يقوم مسبقاً بزراعة معظم أراضيه المنتجة. ونظراً للتوفر المحدود لأراض زراعية جديدة، سوف يصبح تحسين كفاءة المحاصيل مهماً بشكل خاص للوفاء بالحاجة العالمية للغذاء. ويتوقع للاقتصادات ذات معدلات النمو العالية في شرق آسيا أن تكون مسؤولة عن ثلثي الزيادة في استخدام الأسمدة خلال السنوات الخمس القادمة. وفي الدول الأكثر فقراً، عمل نقص استخدام الأسمدة بسبب انخفاض أسعار المحاصيل على حتّ نوعية التربة، معرضاً بذلك استدامة إنتاج المحاصيل للخطر.
وتقترح نماذجنا أن الاتجاه بعيد المدى لانخفاض أسعار الغذاء العالمية، الذي قام فعلاً بعكس اتجاهه، ربما يكون قد وصل إلى نهايته، وبتداعيات على المستهلكين، خاصة الأفقر منهم. وطالما أن الاقتصاد العالمي يستمر في النمو –وهو ما تقترحه نماذجنا أيضاً- فإن زيادة كلف الغذاء لن تفضي بالضرورة إلى التسبب بالمزيد من انتشار سوء التغذية بين الأطفال. وستنجم عن وجود أسواق أكثر تشدداً وضيقاً أسعار أعلى وتزايد في تقلبات الأسعار، ولكن ليس في شكل نقص أساسي في الغذاء. وسوف يعمل استمرار الاعتماد على الذرة في إنتاج الوقود الحيوي أيضاً على زيادة احتمالات تقلب الأسعار.
سوف يحتاج توفير معروض مستقر من السلع الزراعية لتحقيق الأمن الغذائي العالمي إلى ضمان إمكانية تدفق التجارة من خلال إدارة جانب العرض لتعزيز إنتاج المحاصيل –بما في ذلك استخدام التقنيات الجديدة- من أجل تخفيف احتمالات التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية.
ومع ذلك، فإن عدداً من عوامل العرض والطلب يمكن أن تغير هذا الحاصل. وتشتمل هذه العوامل على معيقات كبيرة متصلة بالطقس، تنجم عن التغير المناخي إذا لم يتم تخفيفه؛ والفترات المطولة من الإدارة السيئة للمياه والتربة؛ والاستخدام غير المناسب للتقنيات والأسمدة الزراعية الحديثة. وإذا ما لعب أحد هذه العوامل دوراً، فإنه يمكن أن يساهم في إنتاج حاصل ثان أكثر خطراً، وبحيث يفشل إنتاج الغذاء في مواكبة مواكبة النمو في الطلب. وسيكون من شأن مثل هذا التطور أن ينتج عجوزات يمكن أن تكون لها تداعيات جيو-سياسية، واجتماعية واقتصادية.
قد توفر الإنتاجية الزراعية المتزايدة في إفريقيا فرصة مهمة لتعزيز وتنويع الإنتاجية العالمية ومعالجة الفقر الإقليمي والأمن الغذائي. ومع ذلك، فإن الإنتاجية الزراعية في إفريقيا سوف تتطلب إجراء تغييرات أساسية من أجل تجنب حالات النقص. وعلى العكس من آسيا وأميركا الجنوبية اللتين حققتا تحسينات مهمة في الإنتاجية بالنسبة لحصة الفرد، فقد عادت إفريقيا مؤخراً فقط إلى مستويات السبعينيات. ولدى العديد من الدول الإفريقية بيئات فقيرة من حيث تمكين التنمية الزراعية، بما في ذلك الافتقار إلى بنية تحتية ريفية كافية، وأنظمة نقل مناسبة لإيصال البذور والأسمدة من الموانئ إلى المناطق الداخلية، وكذلك الحاكمية الضعيفة. ويمكن حتى لتحسينات هامشية قليلة في إدارة سلسلة معروض الغذاء أن تترجم إلى تخفيض يعتد به في الهدر، مما يحيّد قدراً كبيراً من الضغوط الناجمة عن تنامي عدد السكان وتزايد الثروة.
من دون استثمار سريع في مشاريع التكيف، يتوقع أن يفضي التغير المناخي أيضاً إلى انخفاضات حادة في الغلال. ويمكن أن تفضي زيادة إنتاجية المحاصيل في الأراضي المروية إلى تقليل الحاجة لري أراض أخرى. ويتطلب ذلك قدراً كبيراً من الضغط غير المتناسب على المصادر المائية. وبذلك يمكن أن يكون لمخاطر الفشل في تحقيق إنتاجية أعلى في المحاصيل تأثير سلبي، ليس فقط على الأمن الغذائي، وإنما على الأمن المائي أيضاً.
يواجه إنتاج الحبوب في الصين والهند تحديات كبيرة من الضغوط البيئية المتصلة بندرة المياه، واستنزاف التربة، والتغير المناخي والضغوط على الأراضي المتاحة بسبب التوسع المدني. وهذان البلدان منتجان رئيسيان للقمح، كما تشكل الصين ثاني أكبر منتج ومستهلك للذرة بعد الولايات المتحدة. وتستثمر الصين، خصوصاً، بكثافة في التقنيات الزراعية والإنتاجية. ومن غير المرجح أن توقف الصين والهند جهودهما لتحقيق اكتفاء ذاتي في الحبوب حتى العام 2020. ومع ذلك، وبحلول العام 2030، ربما تجبر الضغوط الديمغرافية والمحددات البيئية المتصاعدة كلا البلدين على زيادة الواردات، مما يمكن أن يتسبب برفع كبير في الأسعار في الأسواق الدولية.
سيكون التداعي الرئيس لتزايد أسعار السلع الزراعية هو ارتفاع متناسب لأسعار المواد الغذائية الرئيسية بالنسبة للأسرة المتوسطة. وعلى الرغم من أن الدول الغنية سوف تشعر أيضاً باللدغة، فإن حصة الإنفاق على الغذاء في الأسر ذات الدخل المتوسط في الدول الأكثر فقراً ستكون أكبر بكثير، وستتأثر هذه الأسر إلى أقصى الحدود. ونتيجة لذلك، ربما يعمل التضخم في أسعار الغذاء على إثارة مشاعر السخط الشعبي حول قضايا اقتصادية أخرى، مثل تدني الأجور والحاكمية الرديئة.
ويرجح أن يعرض القمح بالتحديد أعلى تقلب في الأسعار. ذلك أن قدراً يعتد به من إنتاجه يأتي من مناطق تعاني من ضغط ندرة المياه والهشاشة أمام التغير المناخي في كل من الصين، والهند، والباكستان، وأستراليا، مما يعني أن الأسواق ستبقى ضيقة وضعيفة أمام الهزات التي تصيب الغلال، بما في ذلك الأمراض النباتية.
بشكل عام، ستكون الجماعات الأكثر تأثراً بآثار التضخم في أسعار الغذاء هي الدول الفقيرة المعتمدة على الاستيراد، مثل بنغلاديش، ومصر، وجيبوتي، والسودان. وبالنسبة لهذه المجموعة من الدول، سيكون خط الدفاع الأول لوقف التضخم في أسعار الغذاء هو إدامة، أو إذا كان ذلك ضرورياً، توسيع الدعم الحكومي والمعونات الحالية للسلع الغذائية الأساسية. وسوف تكون لهذه الاستراتيجية محدداتها مع ذلك، حيث ستواجه الحكومات قيود الميزانية أو تخفيض الإنفاق اللازم للبرامج الأخرى من أجل إبقاء أسعار الغذاء منخفضة. وبالإضافة إلى ذلك، ليست الدول الفقيرة المعتمدة على الاستيراد في وضع يؤهلها للقيام باستثمارات خارجية من أجل تأمين مخرجات محصولية أكبر في أماكن أخرى.
أما الأسواق الكبيرة الصاعدة مثل الصين، والهند، وروسيا –والتي يرجح أن تشهد جميعاً ارتفاعات مستمرة في تضخم أسعار الغذاء- فلا يرجح أن تشهد ارتفاعات معطلة خطيرة في منسوب الاضطرابات الاجتماعية. وستكون الدول الكبيرة المنتجة للقمح، مثل روسيا والصين، أكثر قدرة على حماية نفسها محلياً من أسعار الغذاء المرتفعة عن طريق فرض قيود على تصدير المحاصيل، ولو أن مثل هذه السياسات سوف تفاقم التضخم في أسعار الغذاء والأمن الغذائي على المستوى العالمي. وبالإضافة إلى القيود التي يمكن فرضها على التصدير، فإن لدى هذه الدول ميزانيات عمومية أكثر قوة على رفد وإدامة الإعانات وضوابط الأسعار المحلية، وإتاحة استخدام أدوات السياسات النقدية للسيطرة على التضخم بفعالية أكبر من الدول الأصغر والأقل تقدماً. وكانت كل من الصين، والعربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة تقوم بشراء أراض زراعية خارج حدودها. وربما يستمر هذا التوجه بينما ترتفع أسعار الغذاء وتزداد احتمالات حالات الندرة.
نظرة أكثر إشراقاً في حقل الطاقة
يبدو الخبراء متأكدين عملياً من أن الطلب على الطاقة سيرتفع بشكل دراماتيكي –حوالي 50 %- خلال السنوات الخمس عشرة إلى العشرين المقبلة، استجابة للنمو الاقتصادي المتسارع في العالم النامي. وتتوقع وكالة إعلام الطاقة الأميركية ارتفاعاً عالمياً صاعداً بثبات في الإنتاج حتى العام 2035، والذي تحفزه بشكل أساسي مزيج من الزيادات في إنتاج دول منظمة “أوبيك” ومصادر جديدة غير تقليدية. ويفترض السيناريو أو المرجع الأساسي لوكالة الطاقة الدولية أيضاً إنتاجاً عالمياً متنامياً في إنتاج الأنواع الرئيسية من الوقود الحيوي حتى العام 2030 (حوالي 1 % سنوياً بالنسبة للنفط).
وسيُشتق الكثير من هذا الإنتاج المتزايد –والتفاؤل الحالي- من النفط والغاز غير التقليديين اللذين يتم استخلاصهما في أميركا الشمالية. ويعمل التقدم في استخدام تقنيتين، هما الحفر الأفقي والحقن والتفتيت الهيدروليكي على الدفع بهذه الاندفاعة في الطاقة. وكان المنتجون قد عرّفوا الصخر الزيتي منذ وقت طويل باسم “المصدر الصخري” –وهو صخر هاجر منه النفط والغاز الطبيعي ببطء إلى المخازن التقليدية تحت الأرض على مدى ملايين من السنوات. ولأنهم افتقروا إلى الوسائل –اقتصادياً- للإفراج عن الكميات الهائلة من الهيدروكربونات الموجودة في المصدر الصخري، ركز المنتجون جهودهم على استخراج الاحتياطيات التقليدية. وبمجرد أن اكتشفت الصناعة كيفية الجمع بين التفتيت الهيدروليكي والحفر الأفقي، أصبحت مخزونات الغاز الهائلة العالقة في رواسب الصخر الزيتي في المتناول.
سوف تكون التداعيات الاقتصادية، وحتى السياسية، لهذه الثورة التقنية التي لن تكون مفهومة بالكامل قبل مرور بعض الوقت، كبيرة فعلاً. وفي تحول تكتوني، لم يعد استقلال الولايات المتحدة في الطاقة أمراً غير واقعي في وقت قصير لا يتجاوز 10-20 سنة. ويمكن للزيادة في إنتاج النفط والثورة في إنتاج غاز الصخر الزيتي أن توفرا مثل هذا الاستقلال. وقد انفجر إنتاج الولايات المتحدة من غاز الصخر الزيتي بنسبة تقارب 50 % سنوياً في السنوات ما بين 2007 و2011، وانهارت أسعار الغاز في الولايات المتحدة. ولدى الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي ما يكفي للوفاء بالحاجات المحلية لعقود قادمة، بالإضافة إلى إمكانية توفير صادرات عالمية استثنائية. وتقوم شركات الخدمات بتطوير تقنيات “تعقب فائق” والتي يمكن أن تزيد معدلات الاسترداد دراماتيكياً إلى مقادير أكبر.
ما يزال إنتاج النفط من الصخر الزيتي في الولايات المتحدة في مراحله المبكرة، وتبقى إمكاناته الكاملة غير أكيدة، لكن التطور يحدث بوتيرة أسرع من استخراج الغاز من الصخر الزيتي. وتتراوح التقديرات الأولية للإنتاج في العام 2020 ما بين 5-15 مليون برميل يومياً، وبكلفة إنتاج منخفضة تبلغ 44-68 دولاراً للبرميل، اعتماداً على الحقل المعنيّ. وبحلول العام 2020، يمكن أن تظهر الولايات المتحدة كمصدر رئيسي للطاقة.
ستكون العقبة الأكبر أمام انتشار القتنيات الجديدة لاستخراج احتياطيات النفط والغاز غير التقليديين في كل من أميركا الشمالية والأماكن الأخرى هي تأثيراتها البيئية. وسوف يكون سوء بناء الآبار وتدعيمها، وإدارة المياه العادمة والمخاطر الأخرى الفوق-سطحية سبباً في وقوع الحوادث. وقد لفت النشاط الزلزالي حول مناطق إنتاج الصخر الزيتي انتباه العامة في الولايات المتحدة إلى المخاطر الزلزالية الممكنة. ويمكن للنشاط الزلزالي أن يؤثر على سلامة الآبار وبنيتها، مما يزيد احتمالات تسرب غاز الميثان إلى مصادر مياه الشرب. ويمكن أن تتفاقم الكثير من مكامن القلق البيئية بسبب تكنيكات إدارة المياه العادمة الحالية. ويمكن لوضع مزيد من القوانين والضوابط البيئية –وهو ما شرع بالحدوث في الولايات المتحدة- أن يغلق بعض الثغرات وأن يعيد طمأنة الناس حول السلامة العامة. ومع ذلك، فإنه يمكن لحادث رئيسي متصل بالحفر أن يتسبب بردة فعل جماهيرية عكسية، مما يوقف النشاط الحقن والتفتيت في مناطق إنتاج رئيسية.
سوف يكون لاحتمال تحقق أسعار طاقة منخفضة بشكل ملحوظ تأثير فقاعة إيجابية مهمة على اقتصاد الولايات المتحدة، مما يشجع الشركات على الاستفادة من أسعار الطاقة المنخفضة واستثمارها في وضع وإعادة توضيع أنفسها داخل الولايات المتحدة. وتشير التحليلات الأولية للتأثير على اقتصاد الولايات المتحدة أن هذه التطورات يمكن أن تنتج زيادة بقدر 1.7 إلى 2.2 % في الدخل المحلي الإجمالي و2.4 إلى 3.0 % مليون وظيفة إضافية بحلول العام 2030. وسوف يفضي إنتاج النفط الخام الإضافي إلى خفض كبير في الميزان التجاري الصافي للولايات المتحدة. وسوف تستورد الولايات المتحدة نفطاً خاماً أقل -أو أنها لن تستورد منه شيئاً من مزوديها الحاليين –الصين، المكسيك، العربية السعودية، أميركا اللاتينية وغرب إفريقيا- بحيث تجبرهم على البحث عن أسواق أخرى. كما يمكن لتوسع دراماتيكي في إنتاج الولايات المتحدة أيضاً أن يدفع بالطاقة العالمية الفائضة لتتجاوز 8 ملايين برميلاً يومياً، وهي النقطة التي يمكن لمنظمة الأوبيك أن تفقد عندها السيطرة على الأسعار بحيث تهبط أسعار النفط، ربما بشكل حاد. وسيكون لمثل هذا الهبوط حصيلة ثقيلة على العديد من منتجي النفط الذين يصبحون أكثر اعتمادية باطراد على أسعار الطاقة المرتفعة نسبياً من أجل دعم ميزانياتهم.
وتوجد احتياطيات كبيرة من الصخر الزيتي في مناطق وبلدان أخرى. ووفقاً لدراسة أولية أعدتها وزارة الأراضي والموارد، تمتلك الصين أكبر احتياطيات الغاز غير التقليدية في العالم –ضعف الكميات المقدرة في الولايات المتحدة. وربما يعمل افتقار الصين النسبي للمعدات، والخبرة، وربما مصادر الاستخلاص الضرورية –وخاصة الماء- على تثبيط أو تبطيء تطوير الاستخراج هناك.
في المقابل، يبدو القادة الأوروبيون متشككين إزاء الجيولوجيا، والقابلية السياسية والشعبية، والتأثير البيئي والصلاحية المالية لغاز الصخر الزيتي في أوروبا. وعلى سبيل المثال، تتباين إجراءات التخويل الوطنية بالتنقيب بشكل يعتد به بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهي أكثر حزماً بشكل عام من أميركا الشمالية. وتنظر الحكومة البولندية إلى غاز الصخر الزيتي كمصدر هام للتنويع بعيداً عن الاعتماد على الغاز الروسي، ولذلك قامت بمنح تراخيص التنقيب، بينما حظرت الحكومة الفرنسية العمل بأساليب الحقن الهيدروليكي.
البدائل –اللاعب الضعيف في انفجار الغاز الطبيعي
سوف يكون لإمكانية وجود إمدادات أكثر وفرة وأقل سعراً من الغاز الطبيعي لتحل محل الفحم بحلول العام 2030 منافع لا يمكن إنكارها في الحد من انبعاثات الكربون. ومع ذلك، يمكن أن يكون من التداعيات الأخرى للاعتماد المتزايد على غاز طبيعي أنظف نسبياً كمصدر للطاقة، إضعاف حدوث دفعة رئيسية في اعتماد أشكال الوقود البديلة، مثل الطاقة المائية، وطاقة الرياح، والطاقة الشمسية. ووفق معظم السيناريوهات، ستستمر المصادر البديلة بتقديم زيادة صغيرة نسبياً في الحصة الكلية من متطلبات الطاقة. ويكشف السيناريو الأساسي لوكالة الطاقة الدولية عن أن حصة مصادر الطاقة المتجددة سترتفع بنسبة 4 % فقط خلال الفترة من 2007 إلى 2050. وتقدم الطاقة المائية الأغلبية الغامرة من مصادر الطاقة المتجددة في هذا السيناريو، حيث تقدم الرياح والطاقة الشمسية مساهمات بنسبة 5 و2 % على التوالي في العام 2050. بل إن إسهاماتهما في العام 2030 ستكون أقل. وتعرض سيناريوهات وكالة الطاقة الدولية “الزرقاء” (التي بنيت حول أهداف طموحة لتحقيق خفض في انبعاثات الكربون) مسارات محتملة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح بحيث تقدم حصصاً أكثر قدراً بكثير بحلول العام 2050 –في مكان ما بين 12 إلى 25 % في حالة الطاقة الشمسية، و12 إلى 22 % بالنسبة لطاقة الرياح، اعتماداً على الخفض المرغوب في انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون وفق السيناريوهات “الزرقاء” المختلفة. وسوف تكون هذه الأرقام في العام 2030 أقل بكثير. وسوف يتطلب تحقيق حصص بنسبة 12-25 % وفق السيناريوهات الزرقاء أيضاً، وفقاً لحسابات وكالة الطاقة الدولية، استثماراً اسثنائياً في البدائل مقارنة مع السيناريو الأساسي.
(1) مغيرات اللعبة game changers: مغير اللعبة، هو شخص أو فكرة تغير القواعد المقبولة والعمليات والاستراتيجيات وإدارة المهمات. أو هو عنصر أو مكون مُنتج حديثاً، والذي يغير وضعاً أو نشاطاً قائماً بطريقة يعتد بها.
(2) التحول التكتوني tectonic shift: مشتق من فرع الجيولوجيا المعني بتركيبة قشرة الأرض (الكرة الأرضية)، خاصة ما يتعلق بطبقاتها، والتغيرات التي تطرأ عليها. ويستخدم اصطلاحياً للإشارة إلى تغير أو تطور بالغ الأهمية وكبير المغزى في أي تركيبة أو منظومة.
ترجمة: علاء الدين أبو زينة- الغد الاردنية.
ان الاّراء المذكورة هنا تعبر عن وجهة نظر أصحابها ولاتعبر بالضرورة عن اراء جريدة