يقصد هذا التقرير إلى تحريض التفكير في هذه الطائفة المتنوعة والمتسارعة من التغييرات الجيو-سياسية والاقتصادية والتقنية التي تقوم بتحويل عالمنا اليوم، وإلى تأمل تجلياتها المستقبلية خلال السنوات الخمس عشرة إلى العشرين التالية.
(بدأ) هذا التقرير بتحديد ما نرى أنه الاتجاهات الكبرى الأكثر أهمية في عالمنا المتغير –تمكين الفرد؛ توزُّع القوة العالمية إلى شبكات متعددة الوجوه وانسيابها إلى الشرق والجنوب؛ والأنماط الديمغرافية التي ستكون أبرزها شيخوخة السكان وحدوث انفجار في أعداد المنتمين إلى الطبقات الوسطى؛ والتحديات التي تشكلها الموارد الطبيعية. وهذه الاتجاهات الكبرى تمكن معرفتها، وهي تشير في حد ذاتها إلى عالم متغيّر، لكن العالم يمكن أن يُحوّل نفسه بطرق مختلفة جذرياً. وباختصار: إننا نتجه إلى مياه لا يمكن سبر أغوارها.
ونعتقد بأن هذه الاتجاهات الكبرى تتفاعل مع ستة متغيرات، أو “مغيرات للعبة” (1) والتي سوف تحدد أي نوع من العالم المختلف سنَعمُر في العام 2030. وفيما يلي، سنجري حفرية في مغيرات اللعبة الستة الرئيسة وتأثيراتها المحتملة:
• اقتصاد عالمي عرضة للأزمات: هل ستفضي الاختلافات بين اللاعبين ذوي المصالح الاقتصادية المختلفة والتقلبات العالمية إلى توقف اقتصادي عالمي شامل وانهيار؟ أم أن تطوير مراكز تنمية متعددة سيفضي إلى زيادة مرونة النظام الاقتصادي العالمي؟
• فجوة الحكم: هل ستكون الحكومات والمؤسسات الدولية الحالية قادرة على التكيف بسرعة كافية لتسخير التغيير واحتوائه بدلاً من أن يطغى هو عليها؟
• احتمال تصاعد الصراعات: هل ستفضي التغيرات المتسارعة والتحولات في مراكز القوة إلى خلق المزيد من الصراعات بين الدول وفي داخلها؟
• توسع نطاق عدم الاستقرار الإقليمي: هل سيعمل الجيَشان الإقليمي، خاصة في الشرق الأوسط وشرق وجنوب آسيا، على التسبب بحالة عدم استقرار عالمي؟
• تأثير التقنيات الجديدة: هل سيتم إحداث اختراقات تكنولوجية في الوقت المناسب لإعطاء دفعة للإنتاجية الاقتصادية وحل المشكلات الناجمة عن الضغط على المصادر الطبيعية والتغير المناخي، بالإضافة إلى الأمراض المزمنة، وشيخوخة السكان، والتمدن السريع؟
• دور الولايات المتحدة: هل ستتمكن الولايات المتحدة من العمل مع شركاء جدد على إعادة ترتيب النظام الدولي، مجترحة أدواراً جديدة في نظام عالمي متوسع؟
الفصل الثاني
• مغير اللعبة الرابع: اتساع نطاق الاضطرابات الإقليمية (الجزء الثاني)
شرق آسيا: مستقبل استراتيجي متعدد الأشكال
عملت عوامل النمو الاقتصادي المتزايد، والتحول الدراماتيكي في القوى، وتجلي النزعات القومية، والتحديث الهجومي للجيوش –وليس في الصين فقط، وإنما في الهند والأماكن الأخرى- على تضخيم التوترات والمنافسة بدلاً من خفضها فيما بين القوى الصاعدة ومع اليابان. وبفضل الطبيعة غير الاعتيادية للتسوية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية في آسيا –وديمومة الصراعات على شبه الجزيرة الكورية ومضيق تايوان نتيجة لتلك التسوية- تعمق الإحساس بالمظالم التاريخية في آسيا. وسوف يعمل الخوف من القوة الصينية، وتصاعد النزعة القومية عبر المنطقة، واحتمالات نجوم التساؤلات حول بقاء قوة الولايات المتحدة، على إشعال التوترات في المنطقة خلال العقود القادمة. وكما يبدو، لم يعمل النمو الاقتصادي وتزايد الاعتمادية المتبادلة على الحد من الشكوى والأحزان القديمة في آسيا، كما يظهر في طبيعة العلاقات الصعبة القائمة اليوم بين الصين واليابان، اليابان وكوريا، الصين وكوريا، الهند والصين، وفيتنام والصين.
سوف تستمر الاتجاهات الإقليمية بشد الدول في اتجاهين: في اتجاه الصين اقتصادياً، وإنما في اتجاه الولايات المتحدة وفي اتجاه الدول نحو بعضها من أجل الأمن. ومنذ العام 1995، شرعت القوى الآسيوية –بما فيها اليابان، وكوريا، وأستراليا، والهند- في استبدال الولايات المتحدة بالصين تدريجياً لتكون شريكها الاقتصادي الأعلى، لكنها قرنت هذه الاعتمادية الاقتصادية المتبادلة المتنامية بوجود “التأمين” الدائم الذي توفره العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة. ويرجح أن يستمر هذا النمط حتى 2030، على الرغم من أن التوجه نحو مزيد من الليبرالية السياسية في الصين –مثل تطبيق حكم القانون واعتماد المزيد من الشفافية حول برنامج تحديث جيشها- يمكن أن يهدئ مخاوف الجيران الأمنية بطرق قد تجعل من مسألة “التحوّط” الإقليمي أقل ضرورة. ويمكن لنمو اقتصادي صيني أفضل مما هو متوقع، ولنجاح بكين في إدارة عملية التحول الصعب إلى اقتصاد مبني على الابتكار ومتجه إلى المستهلك، أن يزيدا من جاذبية بكين كمغناطيس للتجارة والاستثمار الإقليميين، بما يرفع مكانتها باعتبارها المزود الرئيسي للاستثمار الآسيوي الخارجي المباشر.
في المقابل، يمكن لركود أو هبوط جدّي مطول في اقتصاد الصين أن يقلل من قوة نفوذ الصين الإقليمي، وأن يعزز المخاوف الكامنة من التداعليات الإقليمية المحتملة لحدوث حالة عدم استقرار داخلية فيها. وتشمل المتغيرات الأخرى المهمة، إمكانية إقامة كوريا موحدة، وتشكيل تحالف استراتيجي لاحقاً، والذي يكون بعيداً عن مدار الولايات المتحدة.
بما أن القوة الاقتصادية العالمية انتقلت إلى آسيا، يبرز المحيط الهندي-الباسفيكي باعتباره الطريق البحري الدولي المهيمن في القرن الحادي والعشرين -كما كان حال البحر الأبيض المتوسط في العالم القديم والأطلسي في القرن العشرين. وسوف تتآكل الهيمنة البحرية الأميركية على الخطوط البحرية العالمية الرئيسية في هذا المحيط وغيره من المحيطات، بينما تزداد قوة البحرية الصينية في المياه الزرقاء. ويمكن أن يثير ذلك السؤال حول أي قوة هي التي ستكون في وضع أفضل لبناء الائتلافات المعنية بحراسة المناطق البحرية المشاعة، وتأمين الحرية الدولية في المرور البحري.
على المستوى الكلي، ثمة أربعة مسارات محتملة واسعة الإطار للنظام الآسيوي القادم خلال العقود القادمة:
1. استمرار الترتيب الحالي الذي يمزج بين التعاون القائم على القواعد الراسخة، والتنافس الهادئ ضمن أطر العمل الإقليمية القائمة على الائتلافات الموجودة، وهو الترتيب الذي تديمه قيادة الولايات المتحدة. ويعمل التفوق البحري للولايات المتحدة ونظام التحالفات الأميركي على إدامة نظام أمني يجري فيه تخفيف “عسكرة” الصين، والتعامل مع كوريا الشمالية النووية والمعضلات الأمنية الأخرى المحتملة في آسيا باستخدام رجحان القوة التي تتمتع بها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وبذلك ردع قيام بكين وبيونغ يانغ بأي عمل عدواني. وفي الأثناء، تستمر المؤسسات الآسيوية بترسيخ الجذور، ويستمر التكامل الاقتصادي بالتمحور حول محور باسيفيكي بدلاً من محور آسيوي حصري.
2. حلول نظام توازن للقوى يكون قوامه المنافسة غير المحدودة بين القوى الكبرى، والذي تغذيه تحولات دينامية في القوة النسبية وتراجع للدور الأميركي. وسوف يفضي انسحاب الولايات المتحدة إلى الانعزالية أو انحدارها الاقتصادي إلى إضعاف التزامات واشنطن تجاه حلفها في شرق آسيا وتقليل رغبتها في البقاء كضامن لأمن المنطقة. وسوف يكون مثل هذا النظام الإقليمي “مهيأ للمنافسة”. وربما تطور بعض القوى الآسيوية وتسعى إلى حيازة الأسلحة النووية باعتبارها الوسائل الوحيدة للتعويض في ظل انخفاض منسوب الأمن الذي تقدمه الولايات المتحدة.
3. نظام إقليمي أكثر تماسكاً، يتطور فيه مجتمع شرق آسيوي على أساس خطوط سلام أوروبا الديمقراطي، حيث يكون تحقق الليبرالية في السياسية الصينية شرطاً مسبقاً لمثل هذا التحول الإقليمي. ويفترض مثل هذا المسار للنظام الإقليمي تشكل إقليموية آسيوية موسومة بالتعددية، تحتفظ باستقلال الدول الآسيوية الأصغر. وربما يتطلب قيام مجتمع شرق آسيوي تعددي ومحب للسلام استمرار دور الولايات المتحدة كضامن لأمن المنطقة.
4. نظام محوره الصين، والذي يكون متركزاً على بكين لتقوم بدعم نوع مختلف من مجتمع شرق آسيوي على أساس توسيع الصين لمنطقة نفوذ ممتدة عبر المنطقة. ويفترض قيام نظام آسيوي تجلس فيه الصين على قمة نظام هرمي إقليمي أن يتطور بناء المؤسسات الآسيوية على أساس خطوط مغلقة من التفرد الآسيوية، وليس من خلال الإقليموية عبر-الباسيفيكية المفتوحة التي كانت الدافع المهيمن وراء بناء المجتمع الآسيوي منذ بواكير التسعينيات.
العديد من بطاقات الجوكر
في حال فشلت الهند في الصعود، أو فشلت اليابان تهدئة مسار انحدارها النسبي، يصبح قيام النظام المتمحور حول الصين أكثر احتمالاً. وفي حال امتلك شركاء الولايات المتحدة الآسيويون الأساسيون قدرات أقل أو رغبة أقل في موازنة قوة الصين بأنفسهم، ربما تحتاج الولايات المتحدة إلى زيادة درجة انخراطها كقّوة موازنة مضادة، مخاطرة باحتمال خوض صراع مباشر مع الصين.
ربما يكون احتمال الضعف الصيني أكبر سبب للشكوك وانعدام اليقين. ففي حال فشلت بكين في التحول إلى نموذج اقتصادي أكثر قابلية للاستدامة، وقائم على أساس الابتكار، فإنها ستبقى لاعباً من الطراز الأول في آسيا، لكن الهالة المحيطة بما كان يشكل لديها صعوداً مدهشاً ومثيراً للإعجاب سوف تتبدد. وفي حالة متطرفة، سوف تنهار الصين في وقت تحدث انقسامات عميقة بين مناطقها الساحلية الثرية والداخل المعدم، بالإضافة إلى تنامي النزعة الانفصالية في مناطق الصين القصية، التبت وزيانغيانغ. وضمن هذه الظروف، سوف تصبح الصين قوة يصعب التنبؤ بسلوكها، بل وربما بالغة العدائية بينما تحاول القيادة صرف الانتباه بعيداً عن المشكلات المحلية. كما يمكن لصراع تخسره الصين مع واحد من جيرانها و/أو الولايات المتحدة أن يضعف موقفها أيضاً. ومن ناحية أخرى، سوف يزيد تحقيقها انتصاراً من فرص قيام النظام المتمحور حول الصين.
أوروبا: في طور تحويل ذاتها
وفق معظم المعايير –الدخل المحلي الإجمالي، قيمة التجارة، عدد الشركات متعددة القوميات، أو القدرات التقنية- سوف تبقى أوروبا، في مجموعها، قوة عظمى في العام 2030. والسؤال الرئيسي هو ما إذا كانت ستقوم هي نفسها بتوجيه ضربة لوزنها الجمعي في المستقبل. وبشكل عام، تظل المخاطر كبيرة، سياسياً واقتصادياً على حد سواء، ويبقى مستقبل أوروبا غير أكيد إلى حد كبير.
حتى قبل حلول أزمة الدين السيادي الأخيرة غير المسبوقة، جعلت القوى المتعارضة بين اتجاه الانقسام واتجاه التكامل من أوروبا لاعباً غير قابل للتنبؤ به هيكلياً. ولأنه نشأ من اتحاد لـ”الشعوب”، لم يهدف الاتحاد الأوروبي إلى دمج الشعوب الأوروبية في كيان واحد مفرد. وقد كشفت أزمة اليورو عن التوترات والانقسامات القائمة بين الدول الأعضاء، وللمرة الأولى في عقود، أثارت هذه الأزمة أسئلة أساسية عن مستقبل أوروبا. وعلى الرغم من عدم وجود إجماع على شكل المنطقة أو دورها المستقبلي، يتفق خبراؤنا على أنها لن تكون شبيهة بأوروبا اليوم.
على قمة الأزمات الراهنة، يعاني الاقتصاد الأوروبي من عيوب هيكلية هائلة. كانت الإنتاجية الأوروبية في انحدار في مقابل اقتصادات نامية أخرى خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، كما أن الإنفاق على البحث والتطوير منخفض، والحكومات الأوروبية كبيرة جداً مقارنة باقتصاداتها، وتشير الاتجاهات الديمغرافية إلى انكماش في قوة عمل، وإلى اختلال توازن عمري بين المواطنين الناشطين وغير الناشطين.
ولأن منطقة اليورو تفتقر إلى العديد من الخصائص التي يعتبرها الاقتصاديون ضرورية لتشكيل منطقة عملة مثلى وعاملة جيداً (بما في ذلك مرونة حركة العمل، التحويلات المالية، وجود ثقافة اقتصادية متشابهة، ورسوخ مشاعر التضامن)، شهد العقد الأول لليورو افتراقاً ملحوظاً بين اقتصادات مركز منطقة اليورو وبين أطرافها. وقد ازدهرت منطقة المركز بشكل عام بينما خبرت الأطراف تدفقاً كبيراً لرأس المال، والذي أفضى إلى تشكيل فقاعات في السوق في وقت فُقدت فيه التنافسية، بما قاد إلى أزمات الديون السيادية. ومنذ 2010، ظل قادة منطقة اليورو يقدمون إصلاحات وأدوات جديدة لمعالجة الأزمة، لكن الأمر ربما يتطلب مزيداً من التكامل من أجل التغلب على الأزمات ومعالجة المشكلات الهيكلية. وسوف تتضمن “قفزة (أصيلة) إلى الأمام” في اتجاه التكامل إجراء تحويلات في السيادة إلى سلطات مركزية، مع ما يصاحب ذلك من فقدان للاستقلال، وهو الأمر الذي يصبح أقل شعبية باطراد لدى الشعوب الأوروبية. وقد ربحت المشاعر الشعبية ضد الاتحاد الأوروبي جاذبية مع كسب الأحزاب الشعبوية المناهضة للاتحاد الأوروبي مزيداً من القوة، حتى في الدول المؤيدة تقليدياً للاتحاد الأوروبي. ويتعارض المنطق الاقتصادي –الذي يدعو إلى المزيد من التكامل والاندماج- مع منطق تلك الجماهير التي تريد التمسك بولاءات وطنية منفصلة، والحد من تحقيق مزيد من الاندماج.
فيما يلي، نورد الخطوط العامة لثلاثة سيناريوهات محتملة لأوروبا ودورها العالمي في العام 2030:
يتسم سيناريو “الانهيار” باحتمالية تحقق منخفضة، لكنه سينطوي في حال حصوله على مخاطر عالمية عالية جداً. وفي هذا السيناريو، تكون ردة فعل المؤسسات المحلية والأسر على تداعيات تغيير وشيك في نظام العملة في شكل تسارع مطرد في سحب ودائع اليورو من المؤسسات المالية المحلية. وبعد انتقال العدوى إلى الدول الأعضاء الأخرى والضرر الاقتصادي الذي سيصيب الدول المحورية، سوف يكون اليورو هو أول الخسائر. وسيكون الاتحاد الأوروبي، كمؤسسة، ضحية عرَضية مرجحة لأن السوق الواحدة وحرية الحركة عبر أوروبا ستتعرض للخطر بسبب العودة بضوابط حركة رأس المال والحدود إلى وضعها السابق. ووفق هذا السيناريو، سوف يفضي الاختلال الاقتصادي الحاد والتمزق السياسي إلى إحداث انهيار في المجتمع المدني. وفي حال جاء الانهيار مفاجئاً وغير متوقع، فإنه يرجح كثيراً أن يؤذن بركود عالمي أو بقدوم “كساد عظيم” آخر.
في سيناريو “الانحدار البطيء”، ستستطيع أوروبا تجنب العناصر الأسوأ من الأزمات الراهنة، لكنها ستخفق في إجراء الإصلاحات الهيكلية الضرورية. وبينما تتحمل الدول الأعضاء سنوات من النمو الاقتصادي المنخفض، فإنها تبقى متماسكة معاً من أجل تجنب حدوث اضطرابات سياسية واقتصادية رئيسية. وسوف تبقى مؤسسات الاتحاد الأوروبي متماسكة، لكن السخط الجماهيري سيبقى عالياً. وسينجو اليورو، لكنه لن يصبح منافساً للدولار أو الريمينبي (عملة الصين). ونظراً لسنوات من النمو الاقتصادي المنخفض، سوف يتضاءل حضور أوروبا العالمي؛ وستقوم الدول بإعادة تأميم سياساتها الخارجية.
أما السيناريو الثالث الذي وضعناه “النهضة”، فيقوم على النمط المعتاد للأزمات والتجدد، الذي خبرته أوروبا عدداً من المرات في الماضي. فبعد التحديق في الهاوية، يوافق معظم القادة الأوروبيين على إجراء “قفزة ليبرالية.” وسوف تدعم الجماهير مثل هذه الخطوة، نظراً للمخاطر الوشيكة التي تنطوي عليها إدامة الحالة الراهنة. وربما تبدأ أوروبا أكثر فيدرالية فقط بمجموعة نووية من دول منطقة اليورو، فيما تختار البعض أو تتبنى سياسة “لننتظر ونر”. ومع مرور الوقت، وعلى الرغم من وجود أوروبا متعددة السرعات، سيظل بالوسع استكمال مشروع السوق الموحدة، وسيتم التوافق على سياسة خارجية وأمنية أكثر توحداً مع تحسين عناصر الديمقراطية الأوروبية. وسوف يزداد النفوذ الأوروبي، بما يقوي دور أوروبا ودور المؤسسات متعددة الأطراف على المسرح العالمي.
جنوب الصحارى الإفريقية: هل تشهد نقطة تحول بحلول 2030؟
تمتلك العديد من الدول الأفريقية الفرصة للتقدم بشكل كبير، بينما يرجح لأخريات أن يُتركن في الخلف، بما ينتج أفريقيا أكثر تنوعاً في العام 2030. سوف يكون على الدول الأفريقية الاختيار من بين المناهج والتقنيات المجربة جيداً في العالم المتقدم من دون الحاجة إلى نظم التكيف والإصلاح القديمة. لكن اتجاه الاقتصاد الريعي، الوصاية، الشعبوية والفساد، ربما تغوي الكثيرين وتعيق التخطيط طويل الأجل. ومع أن الانتخابات تجرى من حين آخر في إفريقيا اليوم، فإن المساواة وتجذير الديمقراطية غالباً ما تكون ضحلة وموضوعاً للنكوص والتراجع.
سوف تقوم الاتجاهات الكبرى لنمو السكان من دون شيخوخة، والتمدن السريع، وإلى حد ما توسع الطبقة الوسطى، بتشكيل مسارات معظم الدول الإفريقية إلى حد كبير، وثمة بعض الدول على الأقل، خاصة في مناطق الساحل والصحارى المهددة بالتغير المناخي، والتي ستواجه تحديات حادة بسبب ندرة الموارد. ومع ذهاب مناطق أخرى إلى الشيخوخة، سوف يقوم عدد يصبح أقل تناسباً باطراد من الأفارقة بتعويض سكان العالم في عمر العمل. ومع ذلك، سوف يتحسن اتجاه تمكين الفرد ببطء فقط في معظم المناطق شديدة الفقر، وسوف تلحق أفريقيا بركب العالم في إنتاج التقنيات القائمة والجديدة.
سوف تسخّر الدول التي تحسّن الحكم وإدارة اقتصاداتها الإنتاجية الأعلى شريحة سكان شباب ومتحضرين نسبياً، وعلى نحو يحفز النمو الاقتصادي. ويمكن للتقنيات الجديدة، وأطر العمل القانونية، وحوافز التجارة والاستثمار أن تفضي إلى إنتاج أكثر كفاءة للغذاء والطاقة وإدارة موارد المياه. وستواجه الحكومات التي لا تستجيب للتغيرات الديمغرافية ولا تلبي التوقعات الشعبية المزيد من فقدان الاستقرار، والإجرام، والهجرة، خاصة في قطاع مواطنيها الأعلى مهارة. وسيكون التعليم مغير لعبة أساسيا لتلك البلدان الأفريقية التي لا تعرض فقط تعليماً مدرسياً اسمياً واسع الانتشار فقط، وإنما تتأكد من وجود معلمين مؤهلين في الغرف الصفية، تفتقر إليهم القارة كلها. وسوف يكون توفير الكهرباء وإنشاء البنى التحتية، وخلق أنظمة سياسية أفضل وأكثر استقراراً، ورفع مستويات كفاءة العاملين، وصيانة الأمن، وفتح فضاءات لتطوير القطاع الخاص والريادة في الأعمال، وإغلاق الفرص أمام الفساد، ستكون كلها أموراً حاسمة أيضاً.
ينبغي أن تشعر البلدان المصدرة للسلع بالقلق من احتمال حدوث تقلبات أعلى في الأسواق العالمية، وهو ما سيعيق سلامتها المالية وينزع استقرارها إذا لم تعمل على تنويع اقتصاداتها. وربما يقلل التقدم التقني في العالم المتقدم الطلب على الهيدروكربونات الإفريقية والمعادن الأخرى. وقد لا تدوم أسعار النفط العالية للسنوات الأخيرة، والتي استمتعت بها الاقتصادات المعتمدة على النفط مثل أنغولا ونيجيريا. ومن ناحية أخرى، بقيت أفريقيا منعزلة إلى حد كبير عن صدمة الأزمات المالية الدولية الأخيرة لأن الاقتراض الأفريقي من مقرضي القطاع الخاص كان محدوداً.
من غير المرجح أن يمنح توزُّع القوة في النظام الدولي باتجاه التعددية صوتاً أقوى بكثير لأفريقيا في المنتديات العالمية بحلول العام 2030، نظراً لوزنها الاقتصادي الأضعف في النظام الدولي. ويرجح أن تكون القوى العالمية أقل قدرة على التوصل إلى إجماع حول معالجة الأزمات الأفريقية في حال كانت الولايات المتحدة وأوروبا أقل قدرة على تأكيد القيادة وتقديم المساعدة. وتبعاً لذلك، سوف تحتاج أفريقيا إلى أن تصبح أكثر قدرة واستقلالية في معاجلة التهديدات الإقليمية. وثمة فرص قائمة لتقوية الاتحاد الأوروبي والمنظمات دون الإقليمية لتحقيق هذه الغاية.
ستكون أفريقيا تحت خطر مواجهة الأزمات وتصاعد العنف بينما تمضي التنمية بشكل غير متساو بين وفي داخل البلدان الأفريقية. وتواجه معظم الدول الأفريقية مسبقاً تهديدات متوسطة إلى مرتفعة من عدم الاستقرار، لكن تطبيق حاكمية أفضل، وإدارة أفضل للموارد، وتنويعاً للاقتصادات، تعرض فرصة للتقدم نحو أرضية أكثر استقراراً. سوف تكون منطقة الساحل، الكونغو/ جمهورية الكونغو الديمقراطية، والصومال هي الأكثر هشاشة، وسوف تواجه تحديات في مجالات تحسين الحكم وإدارة الموارد. وفي بعض الحالات، سيعمل تمكين الفرد، والتخلص من أوهام الوعود غير المتحققة للديمقراطية الحديثة، والتعليم، والطب، على إبراز الانقسامات العرقية والدينية على حساب الوحدة الوطنية. وفيما وراء الأزمة التقليدية، ستكون الشبكات الإجرامية والمتطرفة قادرة على توسيع وصولها في داخل البلدان وعبر الحدود إذا لم تتمكن قدرات الحكومات الوطنية من مواكبة الأحداث.
على الرغم من الخطوات التي تم قطعها باتجاه تحقيق مزيد من الاستقرار في جنوب الصحارى الأفريقية، سوف تمس الحاجة إلى تلقي مساعدات إنسانية واقتصادية خارجية استثنائية لضمان أن لا تنساب الصراعات المستمرة هناك وتتحول إلى حرائق إقليمية وعالمية أوسع نطاقاً.
أميركا اللاتينية: أكثر ازدهاراً، وإنما ضعيفة بنيوياً
شهدت أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي تغيرات كبيرة خلال العقد الماضي، بما في ذلك نمو اقتصادي مستدام وخفض في معدلات الفقر. وقد تكامل من خلال اتفاقيات التجارة الحرة واتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، ليمتد إلى اتفاقيات تجارة حرة إقليمية وفوق إقليمية أخرى، خاصة من جهة كندا، وتشيلي، وكولومبيا، والمكسيك والبيرو. ومع نمو سنوي حقيقي في الدخل المحلي الإجمالي بنسبة 4 %، انتفخت مكونات الطبقات الوسطى، إلى جانب تحقيق مشاركة اقتصادية وسياسية أوسع للنساء، والشعوب الأصلية، وجماعات الأقليات، والذين استفاد معظمهم من الوصول الأفضل إلى التعليم وخدمات الرعاية الصحية. ومع ذلك، يبقى توزيع هذه المنافع السياسية والاقتصادية غير متساو عبر أميركا اللاتينية والكاريبي، حتى على الرغم من خفض نسب اللامساواة في الدخل خلال السنوات الأخيرة.
قامت اتجاهات أخرى، مثل انتشار العنف الإجرامي المتصل بتهريب المخدرات والعصابات الإجرامية بإلحاق أضرار بالمنطقة. وهناك عاملان أساسيان، واحد داخلي وآخر خارجي، سوف يقودان معدل النمو الاقتصادي والمساواة المعيشية في أميركا اللاتينية على مدى الثماني عشرة سنة القادمة. العامل الأول هو سرعة وإيقاع النمو الاقتصادي العالمي، الذي يؤثر على الطلب على السلع الأميركية اللاتينية، والبضائع، والعمل والخدمات الأخرى. وقد دخلت الصين إلى هناك، وزادت الطلب على السلع الأميركية اللاتينية إلى الحد الذي جعل العديد من الخبراء في البرازيل والأماكن الأخرى يشعرون بالقلق من حدوث اعتمادية مفرطة على تصدير السلع. كما عملت الواردات الصينية الرخيصة أيضاً على تخفيض تنافسية السلع الصناعية، ويشعر بعض محاورينا بالقلق على مستقبل القطاع الصناعي.
أما العامل الرئيسي الثاني فهو الطريقة التي تموضع بها دول أميركا اللاتينية نفسها لتحصل على المكاسب الاقتصادية الممكنة من خلال الاستثمارات في التعليم، وإصلاحات فتح السوق، وتحسين حكم القانون وقدرة الحكم. وبافتراض أن نمو معدل الدخل المحلي الإجمالي في المنطقة سينخفض إلى 3.5 مع التوقعات بانخفاض النمو عالمي، سيبلغ مجموع الدخل المحلي الإجمالي لأميركا اللاتينية 9 ترليون دولار بحلول العام 2030، ويمكن أن يصل إلى نصف حجم الاقتصاد الأميركي. ونظراً لتناقص معدلات نمو السكان، فإن حصة دخل الفرد في أميركا اللاتينية يمكن أن تصل إلى 14.000 دولار –ما يساوي تقريباً 50 % أكثر من المعدلات الحالية. وفي الوقت نفسه، سوف يخلق ظهور طبقة وسطى أكبر في أميركا اللاتينية المزيد من التوقعات السياسية والاقتصادية الإضافية، والتي ينبغي أن تكون الحكومات مستعدة للتكيف معها.
تحت شروط عالمية أكثر تنوعاً، يمكن أن تولّد نقاط الضعف في بعض بلدان أميركا اللاتينية أزمات كبيرة على المستوى الاستراتيجي في حال تعرض استقرارها للخطر وسط تصاعد انعدام الأمن والنشاط الإجرامي العابر للدول؛ وستضعف المؤسسات الرسمية لصالح السياسات الشعبوية؛ وستهبط اتجاهات التكامل والتجارة والنمو باندفاع حاد بينما تنتشر العدوى على نطاق أكثر اتساعاً عبر المنطقة. وضمن مثل هذا السيناريو، ربما يجد اللاعبون الخارجيون، مثل الولايات المتحدة، أنفسهم وهم يواجهون طيفاً من المعضلات المكلفة سياسياً واقتصادياً، والتي ستملي إجراء مقايضات في قدرات الولايات المتحدة والآخرين على التكيف مع الحالات الطارئة في أميركا اللاتينية والأماكن الأخرى. ويمكن أن تكون للكوارث الطبيعية –كثيرة الحدوث أصلاً في أميركا الوسطى والكاريبي- تداعيات أساسية على الاستقرار في بيئة اقتصادية عالمية أضعف.
وحتى في حالة وجود اقتصاد عالمي أكثر قوة نسبياً، سوف تجد المناطق الهامشية، مثل أميركا الوسطى والكاريبي، أن من الأصعب عليها التكيف مع تحديات الأمن والحكم. ويرجح أن تضيف أسعار الغذاء والوقود المتصاعدة مزيداً من الضغط على بنى الحكم الأكثر هشاشة في أميركا الوسطى والكاريبي. وفي السنوات الأخيرة، استخدمت عصابات المخدرات المكسيكية باطراد أميركا الوسطى لأغراض إعادة الشحن، وهو ما يعمل على تقويض الحاكمية وحكم القانون أيضاً. وعلى عكس الأماكن الأخرى في المنطقة، يعني افتقار أميركا الوسطى إلى التنافسية، والاعتمادية المستمرة على الأسواق الأميركية فقط، أن لا ينمو اقتصادها بالمعدل الذي تحتاج إليه لجذب الاستثمار وتوليد الوظائف لسكانها الكثيرين في سن الشباب.
سوف تلعب البرازيل دوراً هائلاً في صناعة مستقبل المنطقة. ويمكن أن تعرض مواردها وحجمها فوائد وخصوصية يفتقر إليهما الآخرون. ومع ذلك، يمكن أن تواجه البرازيل تحديات في حال انحدرت التجارة والتنمية الدوليتان، وفي حال تزايدت حالات عدم الاستقرار على أطرافها، وكثرت الجريمة والضغوط على البنية التحتية للمدن العملاقة، ولم يكن هناك قدر أكبر من الاستثمار في التعليم. ويمكن أن تلعب البيئة دوراً حاسماً في تحديد حظوظ البرازيل خلال السنوات الخمس عشرة إلى العشرين المقبلة –وينتج حوض الأمازون حوالي 20 % من إمدادات المياه العذبة التي ترفد المحيطات في العالم، والتي لها تأثير كبير على المناخ العالمي. ويمكن أن يفضي ذبول حوض الأمازون وموته التدريجي أو إزالة الغابات هناك إلى تحويل دورة المياه في المنطقة بطريقة يمكن أن تدمر الكثير من الزراعة البرازيلية والأرجنتينية. وتشير الأنماط الأخيرة إلى أن نقطة التحول في ذبول الأمازون يمكن أن تحدث عندما يصل مستوى التجريد من الغابات إلى نسبة 20 %؛ ويقف المعدل الآن عند 18 %.
ترجمة: علاء الدين أبو زينة– الغد الاردنية.
هوامش
(1) مغيرات اللعبة game changers: مغير اللعبة، هو شخص أو فكرة تغير القواعد المقبولة والعمليات والاستراتيجيات وإدارة المهمات. أو هو عنصر أو مكون مُنتج حديثاً، والذي يغير وضعاً أو نشاطاً قائماً بطريقة يعتد بها.