يقصد هذا التقرير إلى تحريض التفكير في هذه الطائفة المتنوعة والمتسارعة من التغييرات الجيو-سياسية والاقتصادية والتقنية التي تقوم بتحويل عالمنا اليوم، وإلى تأمل تجلياتها المستقبلية خلال السنوات الخمس عشرة إلى العشرين التالية.
ونبدأ هذا التقرير بتحديد ما نرى أنه الاتجاهات الكبرى الأكثر أهمية في عالمنا المتغير –تمكين الفرد؛ توزُّع القوة العالمية إلى شبكات متعددة الوجوه وانسيابها من الشرق إلى الجنوب؛ والأنماط الديمغرافية التي ستكون أبرزها شيخوخة السكان وحدوث انفجار في أعداد المنتمين إلى الطبقات الوسطى؛ والتحديات التي تشكلها الموارد الطبيعية. وهذه الاتجاهات الكبرى تمكن معرفتها، وهي تشير في حد ذاتها إلى عالم متغيّر، لكن العالم يمكن أن يُحوّل نفسه بطرق مختلفة جذرياً. وباختصار: إننا نتجه إلى مياه لا يمكن سبر أغوارها.
ونحن نعتقد بأن هذه الاتجاهات الكبرى تتفاعل مع ستة متغيرات، أو “مغيرات للعبة” (1) والتي سوف تحدد أي نوع من العالم المتغير سوف نَعمُر في العام 2030. و”مغيرات اللعبة” هذه –الأسئلة عن الاقتصاد العالمي، وطبيعة الحكم الوطني والكوني، وطبيعة الصراع، والتدفق الإقليمي، والتقنيات المتقدمة، ودور الولايات المتحدة في المسرح الدولي– هي العناصر الخام التي يمكن أن تزرع بذور الفوضى العالمية أو قدراً مذهلاً من التقدم العالمي على حد سواء.
وبناء على ما نعرفه عن الاتجاهات الرئيسية الكبرى، وبتصور التفاعلات الممكنة بين الاتجاهات الكبرى ومغيرات اللعبة، فإننا نستشرف أربعة أشكال محتملة للعالم: على أحد طرفي الطيف، ثمة عالم متوقف المحركات، والذي تتعاظم فيه الصراعات بين الدول وتعيد فيه الولايات المتحدة تخندقها. وعلى الطرف النقيض، ثمة عالَم مستعادُ التوازن ومُنصهر، والذي يكون فيه التقدم الاجتماعي والاقتصادي والتقني والسياسي واسع الانتشار. وفي الوسط، ثمة إمكانيتان أخريان: عالم “جنّي خارج من القمقم،” والذي تسوده المظالم وتنعدم فيه المساواة؛ أو عالم اللادولة، الذي يزدهر فيه اللاعبون من غير الدول، سواء للخير أو الشر.
وليس في هذه النواتج المحتملة واحد يتعذر تجنبه ولا فكاك منه. وسوف يتشكل الترتيب العالمي المستقبلي بقوة الفعل البشري، بقدر ما سيتشكل بالكثير من الاتجاهات المتكشفة والأحداث التي لا يمكن التنبؤ بها.
في وصفنا لأشكال المستقبل الممكنة، سنقوم بتحديد نقاط الانعطاف، وكذلك الفرص والمخاطر، بغية مساعدة القراء على التفكير في استراتيجيات يمكن أن تؤثر على مسار العالَم.
الفصل الأول
ثمة اتجاهات أربعة كبرى، هي التي ستحدد شكل العالم في العام 2030:
• تمكين الفرد.
• توزيع القوة.
• الأنماط الديمغرافية.
• الترابط المطّرد بين الغذاء، والماء، والطاقة، في علاقتها مع التغير المناخي.
وهذه الاتجاهات موجودة اليوم، لكنها ستتعمق في غضون السنوات الخمس عشرة إلى العشرين المقبلة، وستصبح أكثر تداخلاً لتنتج عالماً مختلفاً نوعياً. وعلى سبيل المثال، سوف يؤدي دخول مئات الملايين من الناس إلى الطبقة الوسطى في كل مناطق وأقاليم العالم إلى خلق إمكانية لتحقق “مواطنية” عالمية، وبتأثير إيجابي على الاقتصاد الكوني والسياسة العالمية. وبنفس المقدار، يمكن أن يعمل غياب الإدارة والتقنيات الأفضل، والمزيد من محدودية الموارد، على الحدّ من تحقيق مزيد من النمو، وبما يتسبب في توقف محركات العالم.
وثمة أسفل هذه الاتجاهات الرئيسية تحوّلات تكتونية(2) –تغيرات حاسمة للخصائص الرئيسية لبيئتنا العالمية، والتي ستؤثر على الكيفية التي “يعمل” بها العالم.
الاتجاهات الكبرى
• الاتجاه الكبير الأول: تمكين الفرد
ربما يكون تمكين الفرد أكثر الاتجاهات الكبرى أهمية، لأنه يشكل سبباً ونتيجة في آن لحركة معظم الاتجاهات الأخرى، بما في ذلك توسُّع الاقتصاد الكوني؛ وتسارع النمو في الدول النامية، والاستثمار واسع النطاق لوسائل الاتصال الجديدة وتقنيات التصنيع. فمن جهة، نرى إمكانية لتحقق قدر أكبر من المبادرة الفردية، والتي ستكون مفتاحاً لمواجهة التحديات العالمية المتعاظمة خلال السنوات الخمس عشرة إلى العشرين القادمة. ومن ناحية أخرى، وفي تحول تكتوني، سيكون لدى الأفراد والجماعات الصغيرة إمكانية أكبر للوصول إلى تقنيات فتاكة وتخريبية مدمِّرة (خاصة قدرات توجيه الضربات الدقيقة، وأدوات الفضاء الافتراضي، وأسلحة الإرهاب البيولوجي)، وبما يمكنهم من إيقاع عنف واسع النطاق –وهي قدرة كانت في السابق حكراً على الدول وحسب.
وسوف يتسارع تمكين الفرد بشكل استثنائي بفضل خفض الفقر، وحدوث نمو كبير للطبقة الوسطى العالمية؛ وتحقق المزيد من التحصيل التعليمي؛ وتحسين سبل العناية الصحية. ويشكل نمو الطبقة الوسطى تحوُّلاً تكتونياً: فللمرة الأولى، سوف تكون أغلبية من سكان العالم خارج فئة الفقر المدقع، وستكون الطبقة الوسطى أهم قطاع اجتماعي واقتصادي في الغالبية العظمى من بلدان العالم. وسوف تتعزز قدرة الأفراد على التأثير في الحكم بسبب كثرة تقنيات الاتصال الموجودة حالياً وتلك الجاري تطويرها. وعلى الرغم من التمكين الأكبر للأفراد، فإن الكثيرين لن يشعروا بالأمن بسبب تعاظم التنافس على الوظائف.
• خفض الفقر
هناك اليوم ما يقارب 1 مليار شخص في العالم ممن يعيشون في فقر مدقع،**** حيث يكسبون أقل من 1.25 دولار في اليوم، وهناك مليار آخرون ممن يعانون سوء التغذية. وكان عدد الذين يعيشون في فقر مدقع في العالم ثابتاً نسبياً لفترة طويلة، لكن معدل الفقر ظل ينخفض مع النمو السكاني. وهناك أعداد يعتد بها من الناس الذين كانوا ينتقلون من مكانة تنخفض كثيراً عن عتبة الفقر إلى مكان أقرب إليها نسبياً، بفضل النمو الاقتصادي واسع النطاق. وفي غياب ركود عالمي، يقدر أن تذهب أعداد الذين يعيشون في فقر مدقع إلى الانخفاض بينما تستمر المداخيل في الارتفاع في معظم أجزاء العالم. ويمكن أن ينخفض الرقم بحدود 50 % في الأعوام بين 2010 و2030، وفقاً لبعض النماذج.
كان النقصان في أعداد الذين يعيشون في فقر مدقع في شرق آسيا، وخاصة في الصين، استثنائياً فعلاً، ويتوقع أن يذهب عددهم إلى مزيد من الانخفاض بفضل النمو الاقتصادي المتسارع. كما يُتوقع أن تنخفض الأعداد بتسارع أيضاً في جنوب آسيا والشرق الأوسط، وكذلك في شمال إفريقيا. ومع ذلك، وفي منطقة جنوب الصحراء الإفريقية، سوف يبقى الشخص الذي يعيش في فقر مدقع عند مستوى يقارب 10 % تحت عتبة الفقر المدقع خلال السنوات الخمس عشرة إلى العشرين المقبلة.
ووفق معظم السيناريوهات –ما عدا الأكثر قتامة- فإن خطوات كبيرة ستكون قد قُطعت باتجاه خفض الفقر المدقع بحلول العام 2030. ومع ذلك، وفي حال حدث ركود عالمي طويل الأمد، فإن نسبة 50 % من الخفض في أعداد الذين يعيشون في فقر مدقع ستنخفض إلى أقل من النصف، وسوف يبقى ما يقدر بحوالي 300 مليون آخرون يعيشون في فقر مدقع ويعانون من سوء التغذية. ووفق سيناريوهات النمو المنخفض، فإن انخفاضات أقل في الفقر المدقع سوف تحدث، وسينضم عدد أقل من الداخلين إلى الطبقة الوسطى العالمية.
• توسع الطبقة الوسطى العالمية
تبدو الطبقات الوسطى في كل مكان في العالم النامي في وضع مرشح لتوسع واسع النطاق، سواء من حيث الأرقام المطلقة أو نسبة السكان التي يمكن أن تكسب مكانة الطبقة المتوسطة خلال السنوات الخمس عشرة إلى العشرين القادمة. وترى حتى النماذج الأكثر محافظة، زيادة في المجموع الكوني للذين يعيشون في الطبقة المتوسطة من 1 مليار حالياً أو نحو ذلك إلى أكثر من 2 مليار نسمة. ويرى آخرون ارتفاعات أكثر جوهرية، حيث ستصل الطبقة الوسطى الكونية، على سبيل المثال، إلى 3 مليار نسمة بحلول العام 2030 (5) وتقترح جميع التحليلات التي قمنا بمراجعتها أن النمو الأكثر تسارعاً للطبقة الوسطى سوف يحصل في آسيا، حيث تكون الهند سابقة على الصين إلى حد ما على المدى الطويل. وحسب بنك التنمية الآسيوي، وفي حال حققت الصين هدف الخطة الجديدة الرامية إلى زيادة إنفاق الأسر بنفس سرعة زيادة الدخل المحلي الإجمالي على الأقل، فإن حجم طبقتها الوسطى سينفجر، حيث “سيتمتع 75 % من سكان الصين بامتيازات ومعايير الطبقة الوسطى، وحيث سينتهي الفقر بمستوى دخل 2 دولار/ يوم للفرد بشكل جوهري”. وفي دراستها للطبقة الوسطى العالمية، شددت مجموعة غولدمان ساكس Goldman Sachs على أنه حتى مع عدم احتساب الصين والهند، فإن “الداخلين الجدد (للطبقة الوسطى) سوف يظلون أكبر مما شهده العالم منذ عقود عديدة حتى الآن”. وتستشرف دراسات عديدة أن معدل النمو في حجم الطبقة الوسطى في إفريقيا سيكون أسرع من الأماكن الأخرى في العالم النامي سريعاً، لكن القاعدة الآن متدنية جداً.
يظل تقدير العتبة التي تحدد متى يكون شخص ما في الطبقة المتوسطة في مقابل الارتقاء صعوداً من الفقر أمراً بالغ الصعوبة، خصوصاً لأن الحسابات تعتمد على استخدام مُعامل القوة الشرائية. وسيكون معظم أعضاء الطبقة الوسطى في العام 2030 عند النهاية الدنيا للطيف. وستكون حصة دخل الفرد ما تزال تصنف ضمن فئة “فقير” بالمعايير الغربية، حتى لو أنهم شرعوا في اكتساب مظاهر وبهارج الطبقة الوسطى. وسيكون النمو في عدد الذين يعيشون في النصف العلوي من مدى هذه الطبقة الوسطى الجديدة –التي يرجح أن تكون أكثر اتساقاً مع معايير الطبقة الوسطى الغربية- استثنائياً وجوهرياً، ليصعد من 330 مليون في العام 2010 إلى 679 مليون في العام 2030. ويرجح أن تأتي الكثير من القيادات العالمية المستقبلية من هذه الشريحة.
وللنمو السريع في الطبقة الوسطى تداعيات مهمة. إذ إن الطلب على السلع الاستهلاكية، بما فيها السيارات، سيرتفع بحدة مع نمو الطبقة الوسطى. وقد أشارت دراسة غولدمان ساكس إلى أن محدودية الموارد سوف تكون “أكثر حدة، كما يمكن القول، مما كانت عليه في أوروبا وأميركا أواخر القرن التاسع عشر، عندما حققت الطبقات الوسطى مكاسب هائلة أيضاً”.
وبشكل عام، سوف تزيد التغييرات في القيم ومعها الطلب على التغيير السياسي-الاجتماعي عندما ينتقل مزيد من الأفراد إلى الطبقة الوسطى. وتاريخياً، أفضى الارتفاع في أعداد الطبقات الوسطى إلى تنامي الشعبوية والدكتاتوريات، وكذلك الضغوط من أجل تحصيل قدر أكبر من الديمقراطية. وفي بعض الأحيان، تعتبر قيمة 12.000 دولار من الدخل المحلي الإجمالي للفرد بمثابة الحد الذي لا تتحول فوقه الديمقراطيات إلى أنظمة استبدادية شمولية.
مع توسع الطبقة الوسطى، ربما تبدأ مظاهر عدم التكافؤ في الدخل –التي كانت خصيصة مدهشة لصعود الدول النامية- بالانخفاض في العالم النامي. وحتى لو كانت معاملات جيني (3) التي تستخدم كمقاييس لعدم المساواة ستنخفض في العديد من الدول النامية، يبقى من غير المرجح أن تقترب من مستوى العديد من الدول الأوروبية الحالية، مثل ألمانيا وفنلندا، حيث انعدام المساواة قليل نسبياً.
وبذلك، فإن الإحساس بانعدام كبير في المساواة ، خصوصاً بين سكان الحضر والريف، سوف يظل يحفز عدداً متزايداً من سكان الريف للهجرة إلى المدن سعياً وراء الفرص الاقتصادية. وستكون فرصهم بأن يصبحوا أكثر غنى أكبر بكثير في المدن، لكن الهجرة المتزايدة إلى المناطق الحضرية ستعنى على الأقل توسعاً أولياً في الأحياء الفقيرة وفي تعظيم شبح الفقر. وإذا ما وجد الداخلون الجدد في الطبقة الوسطى من الصعب التشبث بوضعهم الجديد وتم سحبهم وراء ليعودوا معدمين، فإنهم سيضغطون على الحكومات من أجل التغيير. وقد ظلت التوقعات الكبيرة التي تتعرض للإحباط، تاريخياً، محركاً قوياً لحدوث الاضطرابات السياسية.
وتخفي الزيادة في الأعداد الكلية للطبقة الوسطى في العالم وراءها ضغوطاً متزايدة على الطبقة الوسطى في الاقتصادات الغربية. وسوف تنخفض حصة مستهلكي الطبقة الوسطى العالمية من الولايات المتحدة، وسوف تتغلب عليها موجة مستهلكي الطبقة الوسطى الجدد في العالم النامي. وسوف يفضي النمو الاقتصادي المتباطئ في العديد من دول منظمة التعاون والتنمية الدولية OECD إلى المزيد من تعزيز إمكانية وجود طبقة وسطى غربية مكافحة، والتي تواجه بدورها منافسة أكبر في سوق توظيف يصبح أكثر عولمية، بما في ذلك المنافسة على الوظائف التي تتطلب مهارات عليا. وعلى سبيل المثال، ترى بعض التقديرات أن استهلاك الطبقة الوسطى في أميركا الشمالية وأوروبا سيرتفع بنسبة 0.6 % في السنة فقط خلال العقدين القادمين. وفي المقابل، يمكن أن يرتفع إنفاق المستهلكين من الطبقة الوسطى الآسيويين بنسبة 9 % في السنة حتى العام 2030، وفقاً لتقديرات البنك الآسيوي للتنمية.
• التعليم والفجوة الجندرية
يرجح أن يكون القطاع التعليمي هو المحرك والمستفيد من توسع الطبقة الوسطى. وسوف تعتمد المكانة الاقتصادية للأفراد والدول بشكل كبير على مستويات التعليم. ويرجح أيضاً أن يرتفع معدل سنوات التعليم الرسمي المكتمل في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حوال 7.1 سنة إلى أكثر من 8.7 سنة. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يرتفع مستوى التعليم المكتمل بالنسبة للنساء من 5.0 سنوات إلى 7.0. وتعمل النساء في أماكن كثيرة من أنحاء العالم على تضييق الفجوة بينهن وبين الرجال بثبات فيما يتعلق بالتعليم الرسمي، وقد قطعت النساء خطوات إلى الأمام من حيث الانخراط وإكمال معدلات التعليم الرسمية في أعلى الطبقات الوسطى وفي الدول ذات الدخول الأعلى.
خلال العقدين الأخيرين، كان لإغلاق الفجوة بين الجنسين في الحصول على التعليم (والنواتج الصحية أيضاً) تأثير محدود، مع ذلك، على تضييق الفروقات في المشاركة الاقتصادية والتمكين السياسي. وسوف تكون الدخول المتزايدة واستبقاء النساء في أماكن العمل محركات رئيسية للنجاح في العديد من البلدان، مما يعزز الإنتاجية الاقتصادية ويخفف آثار التشيُّخ. كما يمكن لشكل أفضل من الحاكمية أيضاً أن يكون سبباً في المزيد من الانخراط السياسي للنساء، وتقترح بعض الدراسات أن مشاركة النساء في المواقع البرلمانية أو الحكومية العليا سيرتبط بشكل أقوى بانخفاض مستوى الفساد.
وفقاً لما ذكره “مؤشر فجوة الجندر العالمية” الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن 60 % فقط من الفجوة الاقتصادية، و20 % فقط من الفجوة السياسة بين الجنسين تم جسرها حتى العام 2012. ولم تتمكن أي دولة من إغلاق هذه الفجوة في مجالات المشاركة الاقتصادية أو التمكين السياسي بشكل كامل، لكن دول الشمال أصبحت أقرب إلى المساواة الجندرية. وتعتبر تجاربها مفيدة فيما يتعلق بالوقت والجهد اللازمين لتحقيق التكافؤ. وكانت معظم دول الشمال قد حررت النساء “مبكراً” (في أوائل القرن العشرين)، وقدمت العديد من الأحزاب السياسية كوتات جندرية بشكل طوعي في السبعينيات. وأنتجت تلك الكوتات عدداً كبيراً من النساء البرلمانيات والقائدات السياسيات في تلك المجتمعات. كما عززت دول الشمال أيضاً معدلات توظيف النساء من خلال سياسات رعاية الطفولة والأمومة السخية، مما أسهم في زيادة معدلات الولادات أيضاً.
يقترح النظر قدُماً إلى العام 2030 باستخدام نموذج “أشكال المستقبل الدولية” أن التغيير سوف يستمر في الاتسام بالبطء في كافة المناطق. وسوف تستمر مناطق الشرق الأوسط، وجنوب آسيا، وجنوب الصحارى الإفريقية، التي تبدأ من قاعدة مساواة اقتصادية وسياسية جندرية منخفضة نسبياً، في السير متأخرة خلف المناطق الأخرى. ويرجح أن يكون أسرع الخطوات في جسر الفجوة الجندرية في شرق آسيا وأميركا اللاتينية. وسوف تبقى الفجوة بشكل مؤكد تقريباً أضيق بقدر يعتد به في الدول ذات الدخل المرتفع في أميركا الشمالية وأوروبا في العام 2030، حيث الفجوة الجندرية أضيق مسبقاً من الأماكن الأخرى.
• دور تقنيات الاتصالات
يرجح أن تعمل التقنيات المتولدة أيضاً، مثل اتصالات الجيل الثاني اللاسلكية (الهواتف الذكية) على مسارعة تمكين الأفراد من خلال تقديم قدرات جديدة للعالم النامي بشكل خاص. وتنطوي الموجة الثانية من الاتصالات اللاسلكية على تقليص حاجة الدول النامية إلى استثمار وبناء بنى تحتية متوسعة ومكلفة لقطاع الاتصالات. وستعمل مثل هذه التقنيات على تقليل الانقسام الحضري-الريفي الذي وسم تقنيات الجيل الأول، خاصة في الدول النامية. وكان انتشار الهواتف الذكية في إفريقيا خلال السنوات القليلة الماضية -65 % من سكان القارة يتمتعون الآن بوصول إليها- مثيراً للإعجاب بشكل خاص. والآن، أصبح الملايين من الأفارقة متصلين بالإنترنت والعالم الخارجي، وهم يستخدمون هذه التقنيات لتخفيف مشكلات متأصلة عميقاً، مثل الأمراض المنقولة بواسطة المياه، والتي كانت قد عملت على تبطيء النمو. وعلى سبيل المثال، قام برنامج ابتكاري في غرب كينيا لتوزيع فلاتر المياه ووقف استخدام المياه الملوثة، بتوظيف الهواتف الخلوية لمراقبة التغيرات في السلوك.
• تحسين الصحة
بحلول العام 2030، نتوقع أن نرى تقدماً مستمراً في مجال الصحة –بما في ذلك تحسين نوعية الحياة بالنسبة لأولئك الذين يصلون سناً متقدمة. وحتى في مواجهة وباء نقص المناعة المكتسبة “الإيدز”، كان عبء الوباء العالمي ينتقل بسرعة لعدة عقود من الأمراض المعدية القابلة للانتقال إلى الأمراض غير المعدية. وفي غياب الأوبئة الخبيثة، يتوقع للوفيات العالمية من كل الأمراض المعدية –بما فيها الإيدز، والإسهال، والملاريا والتهابات الجهاز التنفسي- أن تنخفض بنسبة تقارب 30 % بحلول العام 2030، وفقاً لنماذجنا ودراسات أخرى. ويبدو أن مرض الإيدز قد وصل مسبقاً إلى ذروته الكونية –حوالي 2 مليون وفاة سنوياً- في العام 2004. ويجري الآن قطع خطوات كبيرة باتجاه القضاء على مرض الملاريا، لكن فترات سابقة من التقدم واجهت مشكلات في بعض الأحيان بسبب إجهاد المانحين وارتفاع مقاومة المرض للعلاج. ومع ذلك، وفي جنوب الصحراء الإفريقية، حيث كان تقديم خدمات العناية الصحية ضعيفاً تقليدياً، فإننا نعتقد بأن المجموع المنخفض للوفيات نتيجة الأمراض المعدية والعدد المتزايد منها نتيجة مسببات لا تنتقل بالعدوى (مثل من أمراض القلب) سوف تتبادل المواضع في العام 2030.
وفي الأماكن الأخرى –وحتى في أجزاء أخرى من العالم النامي- كانت الوفيات جراء الأمراض “المزمنة،” مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان والسكري، هي الغالبة لبعض الوقت. وقد أفضى التقدم الجاري كونياً في مكافحة الأمراض غير المعدية أو المزمنة إلى زيادة معدلات الأعمار المتوقعة. ومع الانخفاض الدراماتيكي في وفاة الأطفال والرضع بفضل النجاحات المستمرة ضد الأمراض المعدية للأمهات وحديثي الولادة، سوف يتحسن متوسط الأعمار المتوقعة بالتأكيد تقريباً في العالم النامي. ومع ذلك، يرجح أن تبقى فجوة يعتد بها في متوسط الأعمار المتوقعة بين الدول الغنية والفقيرة.
• المزيد من المواقف الإيديولوجية المتعارضة
سوف يعرض عالم سماته تعاظم الطبقات الوسطى باطراد، وتفاوت الإمكانات الاقتصادية، ومزيد من توزع القوة، مشهداً أيديولوجياً يزداد تنوعاً باطراد أيضاً. وقد عملت اقتصادات العولمة على نشر أفكار الغرب ومنطقه العلمي، والنزعة الفردية، والحكم العلماني، وسيادة القانون في المجتمعات الساعية إلى تحصيل تقدم الغرب المادي، لكن تلك المجتمعات ظلت مترددة في التضحية بهوياتها الثقافية وتقاليدها السياسية. وفي إدارة التفاعل المتعاظم بين الأعراف التقليدية والسياسية والدينية والثقافية وبين أيديولوجيات العولمة، سوف يشكل الغرب تحدياً جوهرياً للعديد من المجتمعات النامية بسرعة، وبما يؤثر على آفاق نوعية الحكم المحلي والعالمي وأداء الاقتصادات حتى العام 2030.
وسط هذا المشهد الأيديولوجي المتبدل والسائل، لن يقدم التصور الغربي للحداثة العلمانية بالضرورة القيم المهيمنة الكامنة للنظام الدولي. وفي واقع الأمر، تقوم مثابرة الهوية الدينية -إن لم يكن نموها وتعمقها- ومكامن القلق البيئي المتنامية، ومحدودية الموارد، وتمكين الأفراد من خلال تقنيات الاتصالات الجديدة، تقوم هذه العناصر مسبقاً بتقديم الروايات البديلة للسياسة الدولية. وبينما تستمر المجتمعات غير الغربية في تحولها الاقتصادي، فإن إمكانية إعادة التخندُق على أساس خطوط دينية وإثنية وثقافية وقومية يمكن أن ينتِج اختلالات وظيفية وتشظياً في داخل المجتمعات. وفي المقابل، يمكن لتقاطع الأفكار الغربية مع أفكار الدول الناجمة أن يولد –وخاصة مع الوقت- أيديولوجيات هجينة جديدة تنطوي على احتمال تيسير التعاون في عدد متوسع من الحقول، بما يفضي إلى زيادة النواتج الاقتصادية وتحقيق قدر أكبر من الإجماع على قضايا الحكم الدولي. وقد استشرفت دراسة حديثة للاتحاد الأوروبي حول الاتجاهات الكونية، باستخدام بيانات مسح عالمية، قدراً من “التقارب” أكبر من “التفارق” في الأعراف والقيم بينما تواجه الشعوب المختلفة تحديات اقتصادية وسياسية متشابهة.
ربما يكون الدور الذي تسنده الدولة والمجتمع للدين في مركز الحوارات الأيديولوجية الدائرة في داخل المجتمعات وعبرها. وقد تقوى الدين –وخاصة الإسلام- باعتباره قوة رئيسية في السياسة الدولية بفضل الزيادات العالمية في تجليات الدمقرطة والحريات السياسية التي سمحت للأصوات الدينية بأن تُسمع، بالإضافة إلى تقنيات الاتصال المتقدمة وفشل الحكومات في تقديم الخدمات التي يمكن للجماعات الدينية أن تقدمها. ويرجح أن تعمل قدرة المنظمات الدينية على تحديد الشروط وتحشيد الأتباع حول قضايا اقتصادية وأخرى متعلقة بالعدالة الاجتماعية خلال فترة من الاضطراب الاقتصادي الكوني، على زيادة تأثير الأفكار والمعتقدات الدينية في السياسة الدولية. وفي هذه الحقبة الجديدة، يرجح أن تصبح الأفكار واللاعبون والمؤسسات الدينية أكثر نفوذاً باطراد في أوساط النخب والسياسة على مستوى الكوكب.
وتشكل القومية قوة أخرى يرجح أن تتكثف، خاصة في مناطق –مثل شرق آسيا- حيث النزاعات غير المحلولة على الأراضي، وحيث ربما تتغير ثروات الدول وأقدارها بسرعة. وبالإضافة إلى ذلك، تواجه الكثير من الدول النامية الضعيفة –مثل جنوب الصحارى الإفريقية- صعوبات متزايدة بسبب محدودية الموارد والتغير المناخي، مما يؤلب الجماعات القبَلية والإثنية المختلفة ضد بعضها البعض ويبرز الانفصال بين الهويات المختلفة. ويرجح أن تكون الأيديولوجيا بالتحديد قوية ومدمرة اجتماعياً عندما عندما تعمل الحاجة إلى الموارد على مفاقمة التوترات القائمة أصلاً بين الجماعات القبلية، والإثنية، والدينية، والقومية المختلفة. كما أن التمدُّن –الذي ساد توقع ذات مرة بأنه سيشجع العلمانية- يسهم بدلاً في ذلك في بعض الأماكن، في إنتاج تعبيرات متزايدة عن الهوية الدينية. ونرى المهاجرين إلى المدن –وهم غالباً مسلمون في أوروبا وروسيا، على سبيل المثال- وهم يلتئمون على أساس خطوط دينية. ويقوم التمدُّن بحفز الطلب على الخدمات الاجتماعية التي تقدمها المنظمات الدينية –وهي فُرجة كان الناشطون الإسلاميون والمسيحيون فعالين في استخدامها لتعزيز التلاحم الديني وتقويته.
هوامش
(1) مغيرات اللعبة game changers: مغير اللعبة، هو شخص أو فكرة تغير القواعد المقبولة والعمليات والاستراتيجيات وإدارة المهمات. أو هو عنصر أو مكون مُنتج حديثاً، والذي يغير وضعاً أو نشاطاً قائماً بطريقة يعتد بها.
(2) التحول التكتوني tectonic shift: مشتق من فرع الجيولوجيا المعني بتركيبة قشرة الأرض (الكرة الأرضية)، خاصة ما يتعلق بطبقاتها، والتغيرات التي تطرأ عليها. ويستخدم اصطلاحياً للإشارة إلى تغير أو تطور بالغ الأهمية وكبير المغزى في أي تركيبة أو منظومة.
(3) معامل جيني: (نسبة للعالم كورادو جيني) من المقاييس المهمة والأكثر شيوعاً في قياس عدالة توزيع الدخل القومي، تعتمد فكرته على منحنى لورنز. ويمتاز معامل جيني بأنه يعطي قياسا رقميا لعدالة التوزيع.
(4) الفقر المدقع يعرف بأنه كسب أقل من دولار واحد في اليوم حسب متغير القوة الشرائية؛ والذي قدر مؤخراً بأنه 1.25 دولار في اليوم.
(5) هناك عدة تعريفات مطبقة لما يشكل أعضاء الطبقة الوسطى. ونموذج الخصائص العالمية الذي تستخدمه هذه الدراسة يركز على معدل إنفاق الفرد أكثر من اعتماده على حصة الفرد في الدخل المحلي الإجمالي. وفي هذا النموذج، تتحدد عضوية الطبقة الوسطى بإنفاق الأسرة مبلغ 10-50 دولاراً في اليوم.
(الحلقة الأولى)
ترجمة: علاء الدين أبو زينة – الغد الاردنية.