قد لا يكون اتفاق وقف النار بين حركة المقاومة الاسلامية “حماس” وإسرائيل الذي انهى حرب غزة موضع اجماع وقبول لدى جميع الإسرائيليين لا سيما الجمهور اليميني الذي كان يرغب في المضي في العملية العسكرية حتى القضاء عسكرياً على “حماس” واقتلاعها من جذورها مهما كان الثمن. لكن الائتلاف اليميني الحاكم الذي وافق على الاتفاق يعتبر نفسه قد حقق كل الاهداف المعلنة التي وضعها للعملية العسكرية من دون ان يكبد الإسرائيليين ثمناً باهظاً في الارواح، ومن دون ان يعرض حياة جنوده للخطر. وفي استطاعة اكبر تحالف انتخابي “ليكود- بيتنا” ان يقول للناخبين انه لقن “حماس” درساً لن تنساه وأنه بعد الانتخابات سيكون على الحكومة الجديدة تولي اتمام المهمة.
بيد ان المؤكد ان ما جرى في غزة خلال الأيام الماضية شكل اختباراً مهماً لعدد من المسائل الاساسية المتعلقة بأمن إسرائيل، بعضها ذو طابع عسكري استراتيجي مثل اختبار مواجهة الجبهة الداخلية الإسرائيلية لهجوم صاروخي، ومدى نجاعة المنظومات الدفاعية الجديدة في هذه المواجهة، والبعض الآخر ذو طابع سياسي مثل اختبار مستقبل العلاقات مع مصر في عهد حكم “الإخوان المسلمين”، ومسار تطور العلاقات الإسرائيلية – الأميركية خلال الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما.
وفي الواقع فان القصف الصاروخي الذي تعرضت له المدن والبلدات الإسرائيلية من جانب التنظيمات الفلسطينية في غزة شكل نموذجاً مصغراً لما يمكن ان يحدث في حال قررت إسرائيل شن عملية عسكرية على المنشآت النووية الإيرانية. إذ يتوقع القادة العسكريون ان تتعرض الجبهة الداخلية الإسرائيلية لهجوم من ثلاثة انواع من الصواريخ: صواريخ بعيدة المدى من إيران، وأخرى متوسطة وقصيرة المدى من “حزب الله” و”حماس”. ومنذ سنوات عدة تنكب القيادة العسكرية في إسرائيل على تحصين الجبهة الداخلية والدفاع عنها بعدما تحولت الساحة الاساسية للمواجهه والاكثر عرضة للخطر في زمن الحروب الصاروخية على المدن.
من هنا يمكن القول انه من الخلاصات المهمة المتعلقة بالحرب الأخيرة على غزة مدى نجاح الجبهة الداخلية في الصمود ومدى فعالية المنظومات الدفاعية المنوط بها حمايتها. ولقد نحت التحليلات الإسرائيلية نحو تضخيم الدور الذي قامت به منظومة “القبة الحديد” لاعتراض الصواريخ المتوسطة المدى. بيد ان الارقام الرسمية الإسرائيلية تظهر انه من مجموع 1500 صاروخ وقذيفة سقطت على إسرائيل نجحت منظومة “القبة الحديد”، وعددها خمس بطاريات، في اسقاط 421، ومهما قيل عن نجاعة هذه المنظومة فان الكلفة الباهظة لها في اسقاط صواريخ محلية الصنع يجعل نجاحها نسبياً للغاية. ومع ذلك فمن المتوقع ان تبني إسرائيل على ما حدث خلال الايام الثمانية سيناريوات المواجهة مع إيران.
الدرس الثاني المهم هو مستقبل اتفاق السلام مع مصر. فقد شكلت عملية “عمود السحاب” اهم تحد لحكم الرئيس المصري الجديد محمد مرسي ولسياسة “الاخوان المسلمين” في مصر. ويبدو ان مصر نقلت خلال ايام القصف رسالة الى إسرائيل مفادها انها في حال شنت هجوماً برياً على غزة فانها ستعلق اتفاق السلام معها. وبالاستناد الى مصادر مقربة من رئيس الوزراء الإسرائيلي فان هذا الموقف المصري كان من بين الاسباب التي دفعته الى عدم اتخاذ قرار بالعملية البرية.
من جهة أخرى، اختبرت إسرائيل خلال جولة العنف الاخيرة توجهات إدارة الرئيس أوباما في ولايته الثانية. وقد اثارت مواقف أوباما الداعمة لحق إسرائيل في الدفاع عن أمن مواطنيها الارتياح داخل إسرائيل، واستغلت حكومة نتنياهو الفرصة لترميم علاقاتها المضطربة مع البيت الأبيض من خلال تجاوبها مع المطلب الأميركي بعدم شن هجوم بري على غزة وضبط النفس.
ولا يمكن تجاهل الفائدة السياسية المباشرة لعملية “عمود السحاب” على صعيد المعركة الانتخابية داخل إسرائيل، إذ وفقاً لأكثر من معلق إسرائيلي نجحت حكومة نتنياهو في تحويل النقاش الانتخابي عن الضائقة الاجتماعية والمطالب الحياتية، التي كانت جوهر الاحتجاج الشعبي في إسرائيل صيف 2011، نحو قضايا الأمن والحرب. وحتى الان لا تزال استطلاعات الرأي تتوقع فوز تحالف “ليكود-بيتنا” بـ37 مقعداً.
بالطبع يحاول المسؤولون الإسرائيليون ابراز اتفاق وقف النار مع “حماس” على انه انجاز، في حين ان ما هو معلن في الاتفاق يظهر بوضوح ان “حماس” استطاعت ان تفرض شروطها للتهدئة التي، الى جانب وقف الاغتيالات ورفع الحصار وفتح المعابر تجبر إسرائيل على التراجع عن المنطقة المحاذية للسياج الحدودي والتي شكلت الدوريات الإسرائيلية داخل غزة سبباً مباشراً للتصعيد.
وتعتقد إسرائيل اليوم ان الرعاية المصرية والأميركية لاتفاق وقف النار مع “حماس” سيجعله فعالاً بحيث يمكن ان يسود على الحدود مع غزة الهدوء الذي يسود الحدود مع لبنان منذ انتهاء حرب تموز 2006.
النهار اللبنانية.