تكهنات مع انطلاق ولاية اوباما الثانية…. بقلم: راغدة درغام
ليس جلياً بعدُ كيف يعتزم الرئيس باراك أوباما توجيه السياسة الخارجية الأميركية في ولايته الثانية، لا سيما أن اكتشاف القدر الضخم من النفط في الولايات المتحدة يعطيها دفعاً استراتيجياً سيميز علاقاتها الدولية ونفوذها العالمي. شطر من المراقبين يعتقد أن أوباما في الولاية الثانية لن يتغير جذرياً عنه في الأولى، من ناحية نزعته «الانعزالية»، بل إنه سيعزز تلك النزعة، نتيجة توجه أميركا نحو الاكتفاء الذاتي من النفط وتقلص القيمة الاستراتيجية للدول المنتجة للنفط. الشطر الآخر يقول إن من الخطأ الافتراض أن الولايات المتحدة على وشك الانسحاب من العالم -إذا جاز التعبير-، وأن المعطيات الجديدة، النفطية منها، وكذلك شخصية الرئيس أوباما في ولايته الثانية، ستصيغ نوعية مختلفة للسياسة الخارجية الأميركية تعيد تعريف «التدخل» و «الانزواء» و «الانعزالية». ومع بدء العد العكسي لانطلاق الولاية الثانية لرئاسة أوباما، تزداد النظريات والافتراضات، لا سيما من منطقة الشرق الأوسط التي تارة تحمّل كل مآسيها لأميركا و «مؤامراتها»، وتارة ترتجف خوفاً من فكرة انسحاب الاهتمام الأميركي بها وتحوله شرقاً على حسابها. ومع مطلع هذا العام، تبقى أولوية أحاديث المنطقة للنظام الإقليمي، الذي سيُفرَز هذه السنة وبعدها، ويبقى السؤال الذي يتكرر دوماً: ماذا تريد أميركا لنا؟ إنما هذا السؤال يُطرح عربياً أكثر منه إيرانياً، أو إسرائيلياً، أو حتى تركياً، فأركان الحكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية يرفضون مقولة »ماذا تريد أميركا لنا»، ويستبدلونها بـ «ماذا لدى الاستراتيجية الإيرانية للتأثير في ما تريده أو تفعله أميركا في المنطقة». رجال الحكم في إسرائيل لا يرضخون لما يريده أي رئيس أميركي، بل هم على ثقة بأن في وسعهم إرضاخه لما يريدون عندما تبرز الحاجة. الأتراك في الحكم يزاوجون بين فوقية إقليمية في بيئتهم الآسيوية وبين مراعاة لبيئتهم الأوروبية والأطلسية. أما رجال الحكم في المنطقة العربية، فإنهم خليط يمتد من المغالاة والمكابرة الى الإقرار بالحجم و الوزن الأميركي، ومعظمهم يرى أن السياسة الأميركية نحو اللاعبين في منطقة الشرق الأوسط هي التي تملي عملياً مستقبل المنطقة وتوجهاتها وموازين القوى الإقليمية. العلاقة الأميركية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية تحتل المرتبة الأولى في قراءة المنطقة العربية لمستقبلها. وهذا ما عاد إلى الواجهة مع قدوم الولاية الثانية لإدارة أوباما بلاعبيها الجدد في وزارة الخارجية والدفاع ومع حلول 20 الشهر الجاري، موعد تنصيب باراك أوباما رئيساً لأربع سنوات آتية.
ويتردد مؤخراً -على متن أرجوحة التكهنات التي ترافق انطلاقة الولاية الثانية- أن ما يُصاغ وراء الكواليس هو مقايضة أميركية-روسية، تقوم على «تجميد» طهران برنامجها النووي الإيراني مقابل «إطلاق» عنان عملية عسكرية نوعية للنظام في دمشق تحرق الأرض التي للمعارضة المسلحة السورية موقع قدم فيها.
الرئيس أوباما ليس متحمساً للدخول طرفاً في الحرب في سورية -التي باتت في رأي بعض الأميركيين حرباً بين النظام والجهاديين، وكلاهما ليس مستحباً لدى أوباما أو الأميركيين عامة. يتردد أن أوباما عاد الى تبني سياسة الاستنزاف والإنهاك لطرفي الحرب ليهلك أحدهما الآخر من دون الحاجة لتورط أميركي مباشر في أي شكل كان. يقال إن التغيير الذي طرأ فور انتهاء الانتخابات الرئاسية، لجهة انخراط أميركي في حسم النزاع -عبر تشجيع إمداد المعارضة المسلحة بالسلاح-، عاد وانتكس خوفاً من تحمل مسؤولية مد أي عون للجهاديين في سورية. تارة يتردد أن أوباما ضاعف استراتيجية «من الوراء»، ليس فقط ليقود من الخلف وإنما ليقبع في الانتظار من الوراء حتى إشعار آخر. وتارة تطفو بوادر عزم على القيادة بحسم وعزم.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية حاضرة في كل الحسابات، في سورية والعراق ولبنان، وفي العلاقة مع دول مجلس التعاون الخليجي ومع روسيا. الرئيس باراك أوباما لا يريد حرباً ولا الاضطرار لعملية عسكرية في إيران لإيقاف برنامجها النووي، وهناك مَن يدعمه داخل الولايات المتحدة -بل يزايد عليه- في المسألة النووية الإيرانية. هؤلاء يقولون إن لا خطر في السماح للجمهورية الإسلامية الإيرانية أن تصبح قوة نووية، ولمَ لا؟ أما أوباما فإنه قطع وعداً بأنه لن يسمح لإيران أن تصبح دولة نووية، وعليه أن «يعالج» هذا الوعد إذا كان في ذهنه تنفيذه، أو تأجيل تفعيله، أو تواريه.
هنا يدخل عنصر روسيا في «رعاية» صفقة بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية قوامها إقناع حكام طهران بـ «تجميد» البرنامج النووي مقابل الحفاظ على الدور الإيراني الإقليمي ليس فقط في العراق وإنما بالضرورة أيضاً في سورية وعبرها.
ما يتردد هو أن الروس يحاولون إقناع جماعة أوباما أن كل ما على الرئيس الأميركي القيام به هو «غض النظر» أو «الالتفات الى مكان آخر»، ريثما تقوم آلية النظام في دمشق بسحق المعارضة المسلحة على أساس أنها تنفذ غاية اجتثاث الجهاديين، في ما يشار إليه بـ «سياسة الأرض المحروقة». هذه السياسة تتطلب إعادة التجمع العسكري النظامي لشن هجوم نوعي ساحق تُستخدم فيه كل أنواع السلاح باستثناء السلاح الكيماوي. وما تود روسيا أن تحصل عليه من الولايات المتحدة هو مجرد »الالتهاء» بأمر آخر فيها ريثما يتم تنفيذ هذا الهجوم النوعي، والذي في رأيها هو «الثمن» الذي لا مناص أن تدفعه الإدارة الأميركية إذا كان لها أن تحصل على وعد إيراني بتجميد البرنامج النووي يحيِّد وعد أوباما. ولربما في ذهن أصحاب هذا الاندفاع الروسي موعد 20 الشهر الجاري، عندما تنتقل الولايات المتحدة من إدارة إلى إدارة ويلتهي باراك أوباما برئاسته الثانية احتفاء وتنصيباً وتشكيل أركان إدارة.
فموسكو تعمل على مقايضة «النووي» بـ «الدور الإقليمي»، اللذين تصر طهران عليهما معاً في أي مفاوضات. موسكو ترى أن هناك مجالاً للتحايل على حاجة الرئيس أوباما لتجنب وعده بعدم السماح أن تصبح إيران دولة نووية، ولذلك تعمل على رعاية الصفقة، التي تؤمّم -برأيها- ضرْبَ عصفورين بحجر: إعطاء الفرصة للرئيس السوري بشار الأسد ونظامه لسحق المعارضة المسلحة و «القضاء» على الجهاديين من جهة، وانتشال النظام في طهران من مواجهة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل بسبب الطموحات النووية، وذلك ليس عبر اجتثاث هذه الطموحات وإنما فقط من خلال تجميدها وتأجيلها قليلاً.
وإذا وافق الرئيس أوباما على مثل هذه الصفقة، فإنه إما يرتكب خطأ استراتيجياً مكلفاً، بشرائه «تجميداً» نووياً تكتيكياً حصراً مقابل صمته على مجازر في سورية تخدم طموحات الهيمنة الإقليمية الإيرانية، أو يكون بذلك يصادق عملياً على النظرية السائدة بأن الاستراتيجية الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط هي إشعال الحروب الطائفية بصورة دائمة، تارة لمصلحة السنّة وتارة لمصلحة الشيعة، كي تبقى المنطقة رهينة نزواتها.
أركان الحكم في طهران، وعلى رأسهم آية الله علي خامنئي، لن يتخلوا أبداً عن الطموحات النووية أو الهيمنة الإقليمية. قد يوافق مرشد الجمهورية الإسلامية على خطوة إلى الوراء لكنه يتخذ دوماً خطوتين إلى الأمام، فيبقى رابحاً نووياً تحت أي ظرف كان، وكذلك إقليمياً، وقد يتنازل بموجب الصفقة المزعومة، لكن ما سيقدمه سيكون نظرياً في ما الثمن الذي سيحصُل عليه ميدانياً في معركة بقاء أساسية للنظام في طهران، وهي المعركة على سورية.
حرب الرئيس جورج دبليو بوش في العراق قدمت العراق هدية لإيران، والمذهل أن دولاً خليجية أساسية شاركت في حرب بوش وأتت النتيجة على حسابها في موازين القوى الإقليمية.
حرب سورية قد تصبح حرب أوباما لو صادق على الصفقة المزعومة بتقديم سورية هدية أخرى إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وإذا فعل تصبح سيرة أوباما التاريخية قائمة على تمكين إيران من أن تصبح دولة نووية ذات هيمنة إقليمية شرعية.
العراق كان ساحة مشرّعة للتجاذبات في الحروب الطائفية في عهد صدام حسين وبعده، وسورية قد تسقط في هذه الدوامة.
مصير الصفقة التي يُقال إنها تُصاغ بين موسكو وواشنطن لن يقع حصراً بين يدي إدارة باراك أوباما أو حكومة فلاديمير بوتين أو ملالي طهران إذا ما اتخذت دول فاعلة في مجلس التعاون الخليجي مواقف واضحة تقفز على مقولة: ماذا تريد أميركا لنا وماذا تصنعه بنا؟ فإذا كان من فرصة أخيرة لنفوذ ووزن مميزَيْن لدول مجلس التعاون فإن توقيته هو الآن، في العنترة ما بين اليوم وبين استكمال القدرات النفطية الأميركية.
حديث الصفقات ما زال في خانة التكهنات والاجتهادات مع أن رائحةً ما تتسرب. المراحل الانتقالية من إدارة الى أخرى تبدو في رأي البعض الفرصة المتاحة لإحداث تغييرات جذرية من دون محاسبة. لربما هذا مجرد تمنّ لدى الذين يريدون الحسم الدموي، فيما أميركا تتلهى باحتفاءاتها، ولربما لا مجال لـ «غض النظر» أو «الصمت» مهما كان.
بل لربما كان كل هذا الكلام عن صفقات من هذا النوع، لمجرد التغطية على واقع مختلف تماماً، واقع تكبيل طهران بعزلة وعقوبات، وواقع انحسار النفوذ الروسي في المنطقة ومع الولايات المتحدة، وواقع انهيار النظام في دمشق قريباً.
كل شيء وارد. المهم عدم الاكتفاء بالنظريات والانتظار، لأننا في مرحلة الحسم التي لا تتحمل الاستلقاء.
الحياة اللندنية.