اشتغلت الدعاية الصهيونية منذ قيام إسرائيل، على خلق أنماط وصور اختزالية سلبية وكريهة عن الفلسطينيين تسهل على الرأي العام العالمي قبول أية ممارسات إسرائيلية ضدهم لا يمكن قبول نظيرتها إن مورست ضد مجموعة أخرى من البشر. وهذه الآلية، أي تنميط مجموعة بشرية معينة وشيطنتها على مدار فترة طويلة من الزمن سمة من سمات الصراعات، وتكون مآلاتها نزع الأنسنة عن الخصم وتسويغ قمعه وربما إبادته. وقد احتل التنميط الصهيوني للفلسطينين موقعاً بارزاً وثابتاً في الاستراتيجية الصهيونية والإسرائيلية والتي تنطلق على مسارين: الأول الانخراط في معركة على أرض الواقع لتغيير جغرافية فلسطين، احتلالياً وعسكرياً، من خلال خلق وقائع استراتيجية وسياسية على الأرض، والثاني الانخراط في معركة مستميتة على مستوى الرطانة والخطاب تقوم على تنميط الفلسطينيين والعرب وتصويرهم بأنهم «النازيون الجدد» الذين يريدون إبادة إسرائيل، بالتالي لا ضير من قمعهم وإبادتهم «وقائياً».
من الصور الأولى، والدائمة، التي تم تخليقها حول الفلسطينيين والعرب كونهم رفضوا الوجود اليهودي جملة وتفصيلاً، ورفضوا لاحقاً أي حل سلمي مع الصهيونية، ثم مع الدولة الإسرائيلية بعد قيامها. هذا على النقيض من الواقع التاريخي الذي يشهد بقبول العرب الوجودَ اليهودي في المنطقة وفي فلسطين لقرون طويلة، وفي ما خص فلسطين تحديداً، وإبان حقبة الاستعمار البريطاني لها وتسهيل الهجرة اليهودية، فإن قيادات رسمية عربية عدة كانت على تواصل مع قيادات المنظمات الصهيونية وبريطانيا بهدف الوصول إلى صيغة تؤمن الوجود اليهودي المتزايد في فلسطين ضمن حكم ذاتي، أو صيغ أخرى لكن من دون أن يكون ذلك على حساب الفلسطينيين والعرب. وفي مراحل لاحقة، حيث صارت صورة وتهمة رفض أي حل وسط لصيقة بالفلسطينيين، كانت الاستراتيجية الصهيونية والغربية تقوم على طرح حلول يكون قبولها شبه مستحيل من جانب الفلسطينيين لدفعهم إلى رفضها، بالتالي تكريس صورة «الفلسطيني الرافض والعدمي»، وهي الصورة التي تم الاشتغال عليها منذ التوصية بقرار التقسيم عام 1947 وحتى الآن. وقد نجحت تلك الصورة التنميطية في التأثير حتى في بعض شرائح الرأي العام العربي التي تلوم الفلسطينيين الآن على عدم قبولهم قرار التقسيم مثلاً، أو مبادرة روجرز عام 1970، أو الشق الفلسطيني من كامب ديفيد بين السادات وبيغن، وهكذا. إن كل طرح من هذه الطروحات كان دائماً أبعد من قدرة الفلسطينيين على قبوله في الظروف التي طرح فيها، وكان الهدف منه الحصول على رفضهم لا قبولهم. لنتوقف على سبيل المثال عند «أطروحة» رفض الفلسطينيين قرارَ التقسيم عام 1947: ابتداءً، ليس هناك شيء اسمه «قرار التقسيم»، بل مجرد توصية من لجنة تحقيق على الأرض قدمت إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل نهاية الانتداب البريطاني، بهدف تفادي الصراع والحرب المحتملة بعد انسحاب البريطانيين. لم يصدر مجلس الأمن حينها «قراراً» بالتقسيم وهو الهيئة المخولة بذلك، وكل القصة آنذاك محصورة بتوصية مقدمة إلى الجمعية العامة. لكن الأهم من ذلك هو المعطيات على الأرض، والتي فرضت منطقياً وبداهة رفض الفلسطينيين، حيث اقترحت التوصية منح اليهود 55 في المئة من مساحة فلسطين، وهم الذي كانوا يومها يملكون ما لا يتجاوز 5,4 في المئة من أراضيها ولا تزيد نسبتهم من عدد السكان فيها عن 32 في المئة، على رغم نصف قرن من تسهيل هجرتهم إليها. لا يمكن عملياً ومنطقياً وسياسياً أن يقبل السكان الأصليون في أي رقعة من رقاع العالم مثل هذه التوصية. لكن رفض الفلسطينيين إياها تحول لاحقاً من موقف يُفهم في سياقه ومعطياته إلى حالة مؤسسة لصورة نمطية وثابتة عن الفلسطيني وهي «الرفض العدمي».
الصورة المكملة لصورة الفلسطيني الرافض هي الفلسطيني الإرهابي لأن كلاً منهما تكمل الأخرى، فالرفض العدمي والعمل الإرهابي متلازمان، ومعاً لا يمكن مقاربتهما إلا بالعنف، لذلك فالعنف ضد الفلسطينيين مبرر ومفهوم، إذ ليس من خيار آخر. وقد تم تسويق هذه الصورة في شكل مذهل أيضاً، وسيطرت على شرائح واسعة من الرأي العام العالمي، بخاصة الغربي إزاء الفلسطينيين. لكن على رغم ذلك، أي بعيداً من أداء الفلسطينيين أنفسهم وحشرهم في صور نمطية سالبة تحرمهم من التأييد والتضامن، بقيت مشكلة مقلقة للخطاب الصهيوني تتمثل في قوة منطق حقوق الفلسطينيين وعدالة قضيتهم حتى لو كان أصحاب تلك القضية شياطين مطلقين. وهنا، تم فتح قوسين لصورة أخرى للفلسطينيين وهي «صورة الضحية»، والتي تهدف إلى تفريغ أي تضامن معهم لتبرئة الضمير الغربي الذي يدرك في داخله مدى الظلم الذي وقع عليهم. من هنا، نفهم الاهتمام المبكر الغربي والعالمي بمسألة «اللاجئين»، بل وإنشاء هيئة خاصة لرعاية شؤونهم، هي وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين. فإنشاء هذه الوكالة بُعيد كارثة تهجير الفلسطينيين في حرب 1948، وإلى جانب حشرها قضيتهم في خانة قضية لاجئين فقط، خدمت مسألة تحرير الضمير الغربي ولو جزئياً من جريمة التواطؤ على تقديم فلسطين للحركة الصهيونية، وإظهار مقدار من التعاطف مع الفلسطينيين، لكنه تعاطف في إطار العمل الخيري وليس العمل السياسي والقانوني الذي يؤيد حقوقهم السياسية والوطنية.
يُحشر الفلسطيني والعربي أيضاً في صورة «المتدين المتعصب» الذي يصر على إحالة الصراع على الأرض إلى مفاهيم دينية صرفة لا يمكنها أن تساوم، مقابل اليهودي المتحضر والسياسي والذي يتعامل بمنطق الدولة الوطنية والسيادة. وعلى رغم أن كل المشروع الصهيوني في فلسطين يقوم على أساس ديني بحت بل وعنصري، استطاعت الدعاية الصهيونية تخفيف تلك السمة، واشتغلت على وسمها بالفلسطينيين والعرب. ومرة أخرى يشير الواقع التاريخي إلى رسوخ المقاربات الوطنية والإنسانية في التعامل مع المسألة اليهودية في فلسطين قبل قيام إسرائيل، ثم اجتراح الفلسطينيين رؤًى إنسانوية في صراعهم ضدها بعد قيام الدولة. فقد شكل طرح الدولة الديموقراطية العلمانية في كل فلسطين العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة التي فرقت بوعي تام وكامل بين الصهيونية كحركة استعمارية توسعية اعتدائية، واليهود كأتباع ديانة، منذ خمسينات القرن الماضي. لكن الإفشال المتواصل للحركة الوطنية الفلسطينية بديموقراطيتها وعلمانيتها عمل على دفع الفلسطينيين إلى مربعات التطرف الديني تدريجاً، خصوصاً مع بروز حركات الإسلام السياسي في المنطقة بعد الثورة الإيرانية في أوائل الثمانينات. وبالتوازي مع ذلك كانت إسرائيل تشهد صعوداً متواصلاً لليمين الديني ليس فقط في قلب المجتمع، بل وأيضاً في قلب الأحزاب السياسية الحاكمة فيها، ما زاد في إضعاف الأطروحة الديموقراطية العلمانية في المشهد الفلسطيني. وفي اللحظة الراهنة، فإن المجتمع والدولة الإسرائيلية برمتها أصبحا أسيرين للخطاب الديني المتطرف، وكلاهما مرهون لدولة المستوطنين الذين يرون في الضفة الغربية أراضي أكثر قداسة من «إسرائيل»، والذين يعتبرون الفلسطينيين مجرد حشرات يجب أن تُداس وتباد. وعلى رغم ذلك كله، فإن الفلسطيني والعربي هما اللذان يُحشران في صورة المتدين المتعصب.
على مستوى أوسع ثمة صورة أخرى اختزالية وتدميرية للفلسطينيين وللصراع تم الاشتغال عليها وهي أن الفلسطينيين والعرب «الجبابرة» يحيطون بإسرائيل «المسكينة والبريئة» من كل جانب ويريدون إلقاءها في البحر. وربما لم تشتهر مقولة حول الصراع بين الصهيونية والفلسطينيين والعرب كما اشتهرت مقولة «رمي إسرائيل في البحر». مرة أخرى كانت إسرائيل تشتغل على الأرض وترمي الفلسطينيين خارج أراضيهم، وترمي السوريين خارج أراضيهم، وترمي اللبنانيين خارج أراضيهم، وترمي المصرييين خارج أراضيهم، وترمي الأردنيين خارج أراضيهم، ثم تضرب العراقيين داخل أراضيهم، والتونسيين داخل أراضيهم، وبالتوازي مع كل ذلك كانت تتباكى بأن العرب يريدون رميها في البحر. من تاريخ قيامها لم تواجه إسرائيل أي تهديد وجودي حقيقي، وحافظت على تفوق استراتيجي هائل ضد كل العرب مجتمعين بسبب الدعم الغربي والأميركي المتواصل بلا انقطاع، ولم تواجه التهديد بـ «الرمي»، لا من قريب أو بعيد. وأخيراً أعادت انتاج مقولة «رمي إسرائيل في البحر» باستخدام أدبيات «حماس» وتهديداتها الفارغة، والتي خدمت الخطاب الصهيوني في شكل غير مباشر، حيث يعيد هذا الخطاب تدوير مقولة أن «حماس تريد تدمير إسرائيل»، ونجحت في تسويقها في الرأي العام العالمي. يتعرض قطاع غزة ومليونان من الفلسطينيين فيه لتدمير مستمر من جانب إسرائيل، و «حماس» لم تستطع تدمير معسكر واحد داخل إسرائيل، ومع ذلك يتم حصر الفلسطينيين بكونهم الخطر الإبادي على إسرائيل، وأنهم يريدون تدميرها.
الحياة اللندنية