إنهم يقتلون ليقتلوا. هم يعلمون أنّ الضحايا الذين يسقطون، أطفالاً ونسوة ورجالاً، هم من أهل البيت… لكنهم لا يأبهون. لذّة القتل تجعل القتل يخترق الحدود المرسومة له…
إنهم يدمّرون، يقصفون المدن والأحياء بضراوة، مع أنهم يعرفون جيداً أنها مدنهم وأحياؤهم… مع ذلك يقصفون.
إنهم يحرقون الحقول والغابات، يضرمون النار في البيوت والمدارس والمستشفيات، مدركين أنّها على خريطة وطن كان حتى الأمس القريب وطنهم. القتل الأهلي هو أقسى ما يمكن أن يبلغه فعل القتل. لا رحمة هنا ولا شفقة. أنت أخي وعليّ أن أقتلك. لو كنت عدوّي لكنت أقل عنفاً معك. يقتل الجندي أخاً له يجهله ثمّ يغسل يديه. الديكتاتور يقتل لكنّه لا يغسل يديه. هذا الديكتاتور ينعشه لون الدم الأحمر ورائحته تزكي روحه. لقد ورث هذه «الخصلة» عن أبيه الديكتاتور الذي كان يقتل من غير أن يرفّ له جفن. القتل رسالة أوكل بها، وعلى الأرض هو إله إغريقي، يدمّر ويفني أعداءه الذين هم أهل بيته.
لم يشهد العالم العربي الحديث من قبل، ما يشهد الآن من مجازر ومذابح لا يمكن وصفها إلاّ بالأهلية. هذه المجازر والمذابح تكاد تنسي العرب ما حصل في فلسطين الأربعينات من مقتلات رهيبة. حينذاك كان الصهاينة الغزاة يقتلون بعنف ليحتلوا أرض فلسطين ويطردوا أهلها. كان الصهيوني هو العدو الطالع من قلب التوراة، عنيفاً، ضارياً في عنفه اليهودي، يقتل ويذبح ويخرّب ويحرق، على مرأى من العالم…
وعلى مرأى من العالم نفسه يواجه الآن شعب عربي قدره المأسوي. شعب عربي قدّر له أن يحكمه ديكتاتور واحد، ديكتاتور بوجوه متعدّدة، أو بأقنعة متعدّدة. أليس وجه صدام قناعاً للقذافي، ووجه القذافي قناعاً لبشار…؟ وهلمّ جراً. الديكتاتور واحد والقتيل واحد والخراب واحد والدم واحد والرعب والسقوط والصراخ…
لم يشهد العالم العربي الحديث مثل هذا الصعود المفاجئ – بل غير المفاجئ – للبربرية: من العراق إلى ليبيا فتونس واليمن وسورية… ناهيك بغزة. قتل هنا وهناك، قصف وتدمير، خراب وخراب وخراب. القتلى أفراد عزّل وجماعات. شاب يحرق نفسه احتجاجاً على عنف الفقر الذي ليست السلطة براءً منه. شاعر ومغنٍّ تُقتلع حنجرته ويُذبح من الوريد إلى الوريد. كتّاب يُرمون في السجون كي يموتوا هناك. رسام تُكسر أصابعه لئلا يعاود الرسم… إنهم أفراد وقعوا بين أيدي الديكتاتور، أيديه المتحرّكة… أما الجماعات فهي تساق إلى الذبح كالخرفان. الدماء تختلط بالدماء، الأشلاء تضيع في الأشلاء، قمصان وأحذية، أرغفة ومناديل يغسلها الدم والرماد. الأفران تُقصف بوحشية، المستشفيات يجب ألا يخرج أحد منها حياً، الضرائح، المساجد، الكنائس، المدارس… كلّها تنتهبها القذائف.
العنف «الديكتاتوري» العربي، بصفاته كلها، فاق المخيلة. هذا ليس عنفاً غريزياً، بحسب مقولة فرويد، وليس عنفاً تاريخياً كما وصف ماركس العنف الذي هو التاريخ وليس صانعه، هذا ليس العنف الحيواني الراقد في قرارة الإنسان الأول… هذا عنف يفوق نفسه، عنف يتخطى حدود العنف… عنف أهلي، وما أشقّ مثل هذا العنف وأشدّه ضراوة وهمجية وبربرية. لم يكن منتظراً أن يبلغ العنف في العالم العربي ما بلغه أخيراً. هذا مشهد «أبوكاليبسي» لم يكن من المتوقع أن يندلع في بلدان عربية مثل ليبيا والعراق وسورية. عنف «توراتي» حلّ على العالم العربي مثل لعنة إغريقية.
عشية انصرام هذه السنة يشهد هنا كتّاب ورسامون عرب على صعود «ثقافة العنف» التي اجتاحت، وما زالت تجتاح العالم العربي.
الحياة اللندنية.
(*) شارك في جمع الشهادات: مايا الحاج، سلوى عبد الحليم