لم تكن انطلاقة جبهة النضال الشعبي الفلسطيني في الخامس عشر من تموز عام ١٩٦٧ مكانيا وزمانيا وليدة حدث أو حرب صهيونية خاطفة كانت نتيجتها هزيمة النظام العربي برمته، وإن كانت تلك النكسة قد أعطت ابعادا ومعان جديدة لهذه الانطلاقة، إلا أنها أتت ثمرة نضالات ثلة من المناضلين المؤسسين الاوائل ورفاقهم الذين تمرسوا في العمل النضالي ولعبوا ادوارا مركزية في مسار تنظيم وتطوير الحركة الوطنية الفلسطينية.
فقد تفردت جبهة النضال الشعبي الفلسطيني بانطلاقتها بالشكل والجوهر. فهي التنظيم الفلسطيني الوحيد الذي أعلن انطلاقته من داخل الوطن المحتل وبالتحديد من زهرة وسيدة المدائن وعروس الأرض القدس، فحملت الانطلاقة طهر الأرض وقدسيتها، وانغمست بمجد زيتونها وعبق برتقالها، فاكتسبت مناعة مطلقة ضد محاولات الاحتواء والارتهان والتبعية، وبقي ارتهانها وتبعيتها فقط لفلسطين الوطن، وشعبنا الفلسطيني أينما وجد.
لقد سبق الاعلان الرسمي عن ولادة جبهة النضال الشعبي الفلسطيني سنوات طويلة من النضال المضني راكم خلالها الرفاق القادة المؤسسون التجارب والجهود والعمل الكفاحي بمختلف أشكاله النضالية، وعملوا على جمع أكبر عدد ممكن من المناضلين المستعدين لخوض معركة النضال الوطني، حيث تشكلت المجموعات الاولى في القدس وعدد من مدن الضفة الغربية ، ثم امتدت لتصل إلى الأرض المحتلة عام ١٩٤٨ ، نتيجة قناعتهم المبكرة بأن على الشعب الفلسطيني الاعتماد على نفسه في الأساس في معركة تحرير وطنه . وحين نضجت الظروف، تم إعلان الانطلاقة لا سيما وأنه بعد حرب حزيران عام ١٩٦٧ وجد شعبنا الفلسطيني نفسه داخل الأرض المحتلة وجها لوجه مع عدوه على أرضه، مع سقوط الرهان نهائيا عن دور الجيوش النظامية العربية في معركة التحرير.
لقد كان مبدأ استقلالية القرار الوطني الفلسطيني لدى الجبهة منذ انطلاقتها ، نتاجا لقناعة القادة المؤسسين وما استخلصوه من نتائج ودروس ترسخت لديهم خلال نضالهم المرير في مختلف المواقع والساحات فقد كانوا في طليعة المناضلين منذ بدء الصراع.
فالقائد الشهيد بهجت أبو غربية يعرفه الجميع باسم شيخ المناضلين والمجاهدين. لم يتوانى عن المشاركة في المعارك ضد الاحتلال، حيث أصيب وزج به في السجون عدة مرات. وخلال ثورة ١٩٣٦ شكل فرقة عسكرية أطلق عليها اسم ” تنظيم الحرية” ، وساهم في قيادة جيش الجهاد المقدس ، كما يعود له الفضل في وضع مخطط تسليحي وتنظيمي في القدس مع عبد القادر الحسيني قائد جيش الجهاد المقدس خلال نيسان عام ١٩٤٧ ، وشارك في معركة القسطل غرب القدس عام ١٩٤٨ منفذا عدة عمليات عسكرية لحماية القدس من الصهاينة.
وفي بدايات الحلم الكياني الفلسطيني وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية كان من أصحاب الأدوار الرئيسية التي تتطلب رؤية عسكرية وقتالية، فأصبح عضوا في اللجنة التنفيذية للمنظمة منذ تأسيسها، و قائدا وأبا روحيا لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني منذ البدايات.
لقد ساهم المخزون الفكري والخبرة العسكرية والسياسية للقادة المؤسسين ورفاقهم في صياغة البناء الفكري للجبهة ومنطلقاتها السياسية وبناءها التنظيمي. فالرفيق القائد المؤسس الدكتور صبحي غوشه كان مفكرا واديبا وسياسيا، وواحدا من مؤسسي حركة القوميين العرب مع جورج حبش وهاني الهندي وغيرهم، ومؤسسا لجمعية المقاصد الخيرية في القدس عام ١٩٥٤ ، وعضوا في بلدية وأمانة القدس قبل نكسة عام ١٩٦٧ .
لقد امتلك القائد المؤسس صبحي غوشه وعيا قوميا تشكل مع النكبة، ونذر حياته في سبيل استرداد الأرض السليبة وتحرير المجتمعات العربية التي خضعت عقودا للاستعمار، وبقيت على تبعيتها للخارج بعد استقلالها الشكلي. وفي تحضيره مع الرفاق الاوائل لإعلان انطلاقة جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، بدأ في تنظيم المقاومة بما فيها مقاطعة البضائع الإسرائيلية والتنسيق مع القوى المقاومة المسلحة، مما عرضه للاعتقال على أيدي جيش الاحتلال ومحاكمته أمام محاكمه العسكرية.
وحين نتكلم عن المحرك الأساسي للجبهة منذ انطلاقتها وباني صروحها على الصعد السياسية والتنظيمية ، فانما نتحدث عن قائد تاريخي حفر اسمه في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية والنضال الوطني بحروف من ذهب، فارس القدس القائد الأمين الدكتور سمير غوشه، والذي قال عنه حامل الأمانة الأمين العام للجبهة الدكتور أحمد مجدلاني أن رحيله لم يترك فراغا رغم أن مكانه ومكانته لا يمكن ملؤها، لأنه خلف وراءه مؤسسة ديمقراطية قابلة للديمومة والاستمرار، ترسخت فيها قيم وتقاليد العمل التنظيمي و النضالي والديمقراطي، مؤكدا أن التطور والإنجازات التي نشهدها هي نتيجة للبنيان الصحيح والجهد الطويل الذي أسسه وقام به القائد الراحل. فقد كان مدرسة فكرية ونضالية ورجل الحوار والقرار الفلسطيني المستقل، والحريص على تحقيق أرقى أشكال ومضامين الوحدة الوطنية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
واذا كان فارس القدس القائد الدكتور سمير غوشه قد رسم مفاهيم وتقاليد وقيم العمل التنظيمي و النضالي والديمقراطي، فقد حسمت الجبهة بقيادة الأمين العام الرفيق الدكتور أحمد مجدلاني هوية الجبهة الفكرية والتنظيمية وطابعها الطبقي والاجتماعي من خلال نقل الجبهة إلى موقع ريادي متقدم بتحويلها إلى حزب اشتراكي ديمقراطي ملتزم بأهداف شعبنا وثوابته الوطنية، ومنحاز للطبقة العاملة والفقراء والمهمشين. وقد استطاعت الجبهة مع الأمين العام الرفيق الدكتور أحمد مجدلاني ترسيخ وجودها في كل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية، بالتوازي مع نضالها اليومي في المقاومة الشعبية ومواجهتها لجيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه في بيت دجن وبيتا وكل ساحات المواجهة. كما توسعت دائرة علاقاتها مع المئات من الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية على امتداد المعمورة . وبفضل هذه الشبكة من العلاقات تمكنت الجبهة من ممارسة دورها مع هذه القوى والتأثير في تغير الرأي العام خلال الحرب العدوانية الحالية على شعبنا في فلسطين .
ان جبهة زرعت بذرتها الأولى في اقدس واطهر أرض، في زهرة المدائن القدس، وسقيت بنضالات قادة عظام ذوي بصمات لا تمحى في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية والنضال العربي منذ الانتداب ، وقدمت القافلة تلو الأخرى من الشهداء، هي جبهة لا تهزها ريح ولا تكسرها عواصف. جبهة عصية على الاحتواء، ملتزمة بالقرار الوطني الفلسطيني المستقل ومنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا لشعبنا الفلسطيني، وعنصرا جامعا ومناضلا وعاملا على إنجاز وحدة فلسطينية هي طريقنا لمواجهة مشاريع وجرائم الاحتلال.