عمان- عندما يرتفع صوت الأذان، تعبر أرجاء الغرفة تنهيدة ارتياح. وتؤشر الدعوة إلى الصلاة على نهاية صيام اليوم في شهر رمضان، وتعطي الضوء الأخضر لسبعة أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، وستة متطوعين، وجدة واحدة، واثنين من المشرفين، وكلهم من سورية، ليبدأوا الحفر في جبل وجبات “ماكدونالدز” التي أمامهم.
تجلس سعاد، الجدة، في كرسي متحرك بجواري. وهي بعمرها البالغ 72 سنة، المريض الوحيد المسنّ في هذا المكان، وهو مركز إعادة تأهيل بدني لمبتوري الأطراف من اللاجئين السوريين.
“صحتين”، قلتُ لسعاد وابتسمت، في محاولة لتشجيعها على تناول الطعام. ونظرت في الصينية المتوازنة على ركبتيها، تماماً على أعلى المكان حيث كانت بقية ساقيها ذات مرة.
“في العام الماضي أمضيت رمضان مع أحفادي”، تقول سعاد، وهي تلتقط قطعة من الخس من داخل صندوق الـ”بيغ ماك”. “كانوا في نفس عمر هؤلاء الأطفال”. عبر الغرفة، يصرخ حمودة، البالغ من العمر خمس سنوات، في فتاة تقذفه بنوى التمر. “كان لديّ ابنتان وثلاثة أحفاد،” تقول سعاد. “كنا نحاول أن نعود إلى دمشق عندما ضربت القنبلة سيارتنا”. تقطع الخس إلى قطع صغيرة، وتعيد إسقاطها في الصينية. “لا أعرف لماذا لم يتمكنوا من الخروج. لماذا أنا هنا؟ لماذا بقيت وحدي على قيد الحياة؟”
***
يتمتع الأردن بسمعة كونه جزيرة السلام في منطقة الشرق الأوسط. من الناحية الجغرافية السياسية، وسط وسط انتشار “داعش” في أنحاء العراق، واستمرار الدمار في سورية، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني المتصاعد، تبدو المملكة الأردنية هادئة. ولا تحدث الأزمات في الأردن، كما تقول الرواية -وهو السبب في أنه أصبح يشكل الآن موطناً لأكثر من مليون لاجئ.
كل بضعة أسابيع، تجتاح موجة جديدة من العنف بلاد الشام، ويتجه اهتمام وسائل الإعلام إلى الأردن. ماذا لو يقع الأردن في المرة القادمة؟ هل يمكن أن يحوز المتطرفون السيطرة على البلاد؟ ثم لا تلبث اللحظة أن تعبر وتخفت حدة التكهنات.
لكن الناس مثل سعاد، الذين فروا من التدمير الواقع على بعد بضع ساعات بالسيارة في أي اتجاه من عمان، يدركون جيداً أن أي أزمة لا تنتهي بمجرد أن يعبر ضحاياها الحدود. إنها تغير شكلها فقط، وتفسح هجمة المتطرفين وصخب الصواريخ مكانها لكفاح يومي صامت ضد اليأس.
ليست أزمة الأردن الحقيقية هي تهديد زحف التطرف، وإنما هي الوزن الطاحن الذي تضعه على كاهله استضافة الضحايا من حالات الطوارئ الإنسانية المختلفة في المنطقة. والاسم التقني لهذا هو “أزمة اللاجئين المطوّلة”، وهو العبء الذي يتحمله الأردن بشكل فريد كمضيف لأكثر من مليون من اللاجئين وطالبي اللجوء الهاربين من جحيم الصراعات المحيطة، وفقاً لأرقام الحكومة الأردنية. ومنذ العام 2011، استوعب سكان الأردن الذين يقدر عددهم بنحو 6.3 مليون نسمة ما يقرب من 600.000 نسمة إضافية من السوريين، الذين انضموا إلى حوالي 29.000 من العراقيين، ونحو 4.000 لاجئ من السودان والصومال وغيرهما من البلدان، إلى جانب الآلاف الذين ما يزالون غير مسجلين لدى مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. ولو كانت هذه الولايات المتحدة، فسيكون الأمر تقريباً كما لو ان سكان كندا انتقلوا إليها جميعاً تقريباً في وقت واحد.
يقول جيف كريسب، المسؤول السابق في مفوضية شؤون اللاجئين، والذي يعمل الآن في “المنظمة الدولية للاجئين”: “في الحقيقة، يقع النظام الإنساني الدولي في الوقت الراهن تحت ضغط لم يسبق له مثيل”. ويسرد الأزمات التي داهمت العالم في العام الماضي: الفلبين، وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان وسورية. ويضيف كريسب: “قبل بضعة أسابيع كنا نقول إننا إذا واجهنا حالة طوارئ كبرى جديدة، فإن النظام لن يكون قادراً على المواكبة -والآن أصبح لدينا العراق”.
من منظور الإغاثة الإنسانية، تتعلق أزمة اللاجئين بمسألة البقاء نفسه. وهي تشكل من منظور إنساني قضية ذات غاية. ويتمتع اللاجئون في الأردن بالحماية بموجب ولاية مفوضية شؤون اللاجئين، وهو ما يعني أنهم يمكن أن يعيشوا من دون خوف من التعرض للإعادة القسرية، أو أن تتم إعادتهم إلى بلدانهم التي تمزقها الصراعات. كما أنهم يحصلون على وصول الغذاء والماء والمأوى، والخدمات الطبية الأساسية، على الأقل في المخيمات. ولكن، ما الذي يحدث عندما تتحول مهمة الإغاثة الفورية السريعة إلى جهد إدامة طويل المدى، والذي يتسرب خارجاًيتجه إلى المدن؟
تقول دون تشاتي، مديرة مركز دراسات اللاجئين في جامعة أكسفورد: “يظل الناس، حتى وهم لاجئون، في حاجة إلى بعض السيطرة على الكيفية التي يتكيفون بها ويديرون بها شؤون حياتهم”. وهذا هو السبب في أن المعظم لا يبقون طويلاً في مخيمات اللاجئين. ومع أنه يجري تسجيل السوريين الذين يعبرون الحدود على الفور ويتم إرسالهم إما إلى مخيم الزعتري أو مخيم الأزرق، فإن أكثر من 80 في المئة من السوريين يغادرون بعد ذلك، وينتقلون إلى المناطق الحضرية إلى جانب اللاجئين غير السوريين في الأردن.
خارج المخيمات، يحصل السوريون على إعانة شهرية معينة في شكل مجموعة من كوبونات الغذاء ويتمتعون بإمكانية الحصول على الرعاية الصحية الأولية المجانية. وفي المقابل، يحصل غير السوريين على إعانات طبية يتم تقييمها على أساس كل حالة على حدة من أجل الحصول على مزيد من الإعانات. ولا يسمح لأحد من اللاجئين بالعمل في الأردن، لكنهم يعملون على أي حال، مخاطرين بالتعرض للاحتجاز من أجل الحصول على دخل غير رسمي. وإذا تجولتَ في عمان، فإنك سترى السوريين يعملون على بسطات القهوة، والعراقيين يعملون في المطاعم، والسودانيين في زي عمال البناء. ويعمل المهندسون والمحامون السابقون في غسل السيارات ويكتسحون الشوارع -في الأيام التي يكونون فيها محظوظين بما يكفي ليستخدمهم أحد. ولا تعني فكرة وجود اللاجئين أن الحرب تدمر حياتك ومنزلك فقط، وإنما تعني ما يأتي بعد ذلك أيضاً، حيث تُجبر على أن تكون ضحية إلى أجل غير مسمى. فجأة تصبح –بل ويجب أن تظل- سلبياً، معتمداً على الآخرين، وأن تبقى يداك موثقتين بغض النظر عن كم هما قادرتان.
“ساعات عملي تمتد من الساعة العاشرة مساء وحتى الرابعة فجراً”. قال لي رجل سوداني بإنكليزية مثالية، وهو يحاول كف ابنته ذات الثلاث سنوات عن التسلق على ظهره. كان يعمل في تدريس الأدب المقارن في الخرطوم، لكنه أصبح يستقل الحافلة ليلاً الآن ليلتحق بعمله كبواب في مركز تجاري في غرب عمان.
مع ذلك، يعاني 90 في المئة من اللاجئين السوريين في الأردن من الديون، وأكثر من نصفهم من الأطفال الذين يمكنهم ارتياد المدارس الأردنية بموجب القانون، لكنهم نادراً ما يفعلون، وإنما يعملون بدلاً من ذلك، أكثر من 12 ساعة في كثير من الأحيان في وظائف مثل جمع الخردة المعدنية أو البناء. وتتحمل أكثر من ربع النساء السوريات اللاجئات في الأردن ولبنان والعراق ومصر المسؤولة عن رعاية أسرهن وحدهن، ويكافحن من أجل دفع الإيجارات في حين يعانين القلق، والعزلة، والخوف من كل من العنف الجنسي والوصمة التي تترتب على الإبلاغ عنه. وفي الوقت نفسه، ارتفعت معدلات زواج الأطفال بين السوريين في الأردن إلى أكثر من الضعف منذ بداية الصراع، حيث تقوم العائلات اليائسة بتزويج بناتها في سن المراهقة بهدف درء الفقر وخطر الاغتصاب.
ينقضي عام، واثنان، ثم ثلاثة. الإيجارات ترتفع –لتصل إلى 300 في المائة في بعض المناطق- إلى جانب قيم فواتير الغاز والكهرباء والمياه. والاقتصاد الأردني، غير المستقر أصلاً بسبب تعطل طرق التجارة والنقل في جميع أنحاء المنطقة، يتأرجح. ومعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي ينخفض. والاستثمار الأجنبي المباشر يعتريه الذبول. والعجز في الميزانية والدين العام يتصاعد.
كانت الحكومة الأردنية قد وضعت خطة للصمود الوطني للتخفيف من أثر هذا النوع من الضرر على مواطنيها الذين يعيش 14 في المئة منهم تحت خط الفقر الوطني. لكن الخطة، إلى جانب العمل والإغاثة الإنسانية القائمين في البلاد، تعتمد كلها على التمويل الدولي الذي أصبح يتضاءل. وحتى الآن، تلقت مفوضية شؤون اللاجئين 33 في المئة من مطالباتها الإقليمية للتعامل مع آثار الأزمة السورية في العام 2014، وهو ما يترك فجوة تقترب من مبلغ 2.5 مليار دولار.
ليس المقصود أن يكون الأردن هو البلد المضيف للاجئين إلى أجل غير مسمى. ومن المفترض أن اللاجئين يتوقفون هنا من أجل الحصول على الإغاثة حتى يصلوا إلى “حل دائم” -بمعنى العودة إلى ديارهم أو إعادة توطينهم في مكان ما مع إقامة دائمة. وحتى الآن، تعهدت 22 دولة باستقبال ما يقرب من 35.000 من السوريين، بينما تدعو مفوضية شؤون اللاجئين إلى تعهدات باستقبال 100.000 آخرين بحلول العام 2016، لكن هناك أكثر من 2.6 مليون لاجئ سوري في المجموع، ولم يتم الوفاء سوى بالقليل من التعهدات الخاصة بتوطينهم -121 فقط تم توطينهم في أميركا و24 في المملكة المتحدة، على سبيل المثال. أما بقية اللاجئين فعالقون هنا، حيواتهم مجمدة، ويقال لهم أن ينتظروا حلاً ربما يأتي.
يتساءل كريسب: “ما هو المستقبل طويل المدى لهؤلاء الناس؟”
الذين يبدون أقوى هم اللاجئون الذين وجدوا وسيلة لمساعدة مجتمعاتهم المحلية. على سبيل المثال، يقوم بتشغيل مركز إعادة التأهيل الذي تقيم فيه سعاد كادر من السوريين بالكامل. وبدعم من رجل أعمال سوري كان قد انتقل إلى الأردن قبل اندلاع الحرب في بلاده، يعمل في المنظمة كادر من المتطوعين، بعضهم من مبتوري الأطراف أنفسهم.
قالت لي سارة وهي تلتقط حمودة وتبتسم: “اعتدت على التطوع مع اللاجئين العراقيين هناك في سورية”. تتفقد بعناية الحروق الوردية الشرسة التي تنتشر على ذراعي الطفل وصدره وظهره، وهو يتذمر حريصاً على الانتهاء سريعاً من وجبة الإفطار الرمضاني حتى يتمكن من مشاهدة مسلسل “باب الحارة”. وتضعه سارة على السرير، وتقوم بإدارة جهاز التلفاز على الدراما التلفزيونية، وتقول بلهجة استغراب: “لم أكن أعتقد أنني سأكون لاجئة أنا نفسي”.
هل سيساعد إذا عمل اللاجئون بشكل رسمي؟ تقول تشاتي: “عندما يستطيع الناس العمل، فإنهم يتكيفون بشكل أفضل. سوف يخدمون العائلات بشكل أفضل. وسوف يكونون أفضل بكثير نفسياً واجتماعياً. يجب أن يعملوا -كاستراتيجية إيجابية للتكيف إذا لم تكن أي شيء آخر”. وعادة ما تساعد عمالة اللاجئين اقتصاد البلد المضيف أيضاً، كما تضيف تشاتي، مشيرة إلى دراسة حديثة أنجزتها جامعة أكسفورد، والتي تدعو إلى الاستفادة من ثروة اللاجئين من الإمكانات البشرية لخلق فرص العمل والابتكار، بدلاً من حصرهم في منطقة الاعتمادية التي لا نهاية لها.
“لا يمكنك البقاء هنا إلى الأبد دون مستقبل”
لكنه من غير المرجح أن يسمح الأردن بمثل هذه العمالة في أي وقت قريب، كما أخبرني أردني يعمل في إحدى المنظمات غير الحكومية، فيما يعود إلى حد كبير إلى أن المملكة تنجو بفضل التمويل الدولي الذي تتلقاه لقاء استضافة اللاجئين. ومن غير المرجح أن الدول المانحة ستعطي مثل هذا القدر إذا اعتقدت أن اللاجئين يساعدون الاقتصاد المضيف فعلاً. وقال عامل الإغاثة الذي طلب عدم الكشف عن هويته: “إن الأردن يسعى حقاً إلى المال، وليس إلى دمج الناس. وإلا، فإنه لن يكون هناك عذر للاستمرار في طلب المال من الدول المانحة. هذا هو ما يعيشون عليه حالياً”.
يقول عبد الشكر، وهو لاجئ صومالي مسجل لدى مفوضية شؤون اللاجئين وينتظر إعادة توطينه: “لا يمكنك البقاء هنا إلى الأبد بدون مستقبل”. وقد حاول بعض الآخرين في مجتمعه، ممن يشعرون بأنهم مرفوضون ويائسون، تهريب أنفسهم إلى سورية -نعم، سورية- على أمل الوصول إلى أوروبا، كما يقول. بعضهم يتم القبض عليهم على الحدود الأردنية، ويُتهمون بالإرهاب، ويسجنون. والبعض الآخرون ينجحون في العبور، لكنهم بعد ذلك يختفون، دون أن يظهر لهم أي سجل أو أن تُعرف آثارهم في واحدة من أعنف الحروب في العالم.
ويضيف عبد الشكر: “أعتقد أن هذا انتحار”، ما لم أصبح يائساً، وبلا أي بديل، فإنني لن أذهب. لكنه ليس لديهم أي خيار آخر”.
أليس سو – (ذا أتلانتيك)
ترجمة: علاء الدين أبو زينة