شهدت الجبهة الداخلية الفلسطينية تبادلاً للاتهامات وتحريضًا إعلاميًا قبل أن تجف الدماء التي سالت بغزارة في غزة، وقبل إزالة أكوام عشرات آلاف البيوت والمنازل والمدارس والمساجد المهدمة كليًا أو جزئياً، وبعد أن نفى الناطق باسم نتنياهو حديث الرئيس أبو مازن، عن أن رئيس الحكومة الإسرائيلية أبلغه بموافقته على التفاوض على أساس حدود 1967، وفي ظل التنكر الإسرائيلي لاتفاق التهدئة من خلال إصرارها على إبقاء الحصار، وبطء فتح المعابر، وربطها وإعادة الإعمار بالقرار الإسرائيلي وبعودة السلطة إلى غزة، ونزع سلاح المقاومة، أو على الأقل الحد من تطويره ومنعها من تعويض خسائرها.
وجاءت موجة التحريض وتبادل الاتهامات في ظل استمرار الاستيطان وتوسيعه والاعتداءات على المقدسات، وخصوصًا الأقصى، والشروع في تقسيمه زمانيًا تمهيدًا لتقسيمه مكانيًا، وصولًا إلى هدمه وبناء “هيكل سليمان” المزعوم بدلًا منه.
برغم كل ما سبق، وبدلًا من البناء على إنجازات ملحمة الصمود في غزة التي أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية والمقاومة وللإنسان الفلسطيني، وحققت تعزيزًا للوحدة الوطنية؛ شاهدنا تصاعدًا ملحوظاً بتبادل الاتهامات والتحريض الإعلامي على خلفية التباين بشأن تقييم العدوان، ومن يتخذ قرار السلم والحرب، وهل كان بالإمكان تفادي الحرب أو تقصير عمرها لو تمت الموافقة على المبادرة المصرية حين طرحها. في المقابل، ظهر انتقاد لاتخاذ موقف غريب بعد “عملية الخليل” جعل السلطة تبدو وكأنها وسيط، عبر الفصل بين وقف العدوان وتحقيق مطالب المقاومة، مع أن ما لا يمكن تحقيقه أثناء المعارك العسكرية يستحيل تحقيقه من الطرف الأضعف أثناء المفاوضات.
كما ظهر الخلاف أيضًا حول من يشرف على الإعمار: هل الحكومة الوفاقية وحدها أو من خلال لجنة وطنية موثوقة؟ مع المطالبة بحل حكومة الظل القائمة في غزة. هذه الحكومة التي اكتُشِف وجودها في غزة فجأة، مع أن عدم الشروع في إعادة بناء وتوحيد ودمج الوزارات والاتفاق على تأجيل الملف الأمني، وعدم ممارسة حكومة الحمد الله لمهامها في غزة، بما في ذلك عدم دفع رواتب الموظفين، وكذلك عدم الاتفاق على البرنامج السياسي، خصوصًا في ما يتعلق بالمفاوضات والمقاومة والتزامات «أوسلو»، وعدم عقد الإطار القيادي المؤقت للمنظمة، الذي يوفر الشراكة الحقيقية من خلال المؤسسة القيادية الجامعة، التي من شأن وجودها أن يفتح الطريق لوحدة وطنية حقيقية على أساس شراكة سياسية، من شأنه أن يجعل من حكومة الوفاق «طربوشاً» لإدارة الانقسام وغطاءً لحكومة الظل في غزة.
نقطة أخرى ظهر حولها الخلاف، وهي التعامل مع العملاء، وهنا من الضروري محاسبة العملاء ولكن ليس بهذا الشكل، وكذلك فرض الإقامة الجبرية على مئات من أعضاء وكوادر “فتح” وإطلاق الرصاص على من خالف ذلك منهم، وتضخيم الانتصار ونسبه فئويًا إلى هذا الفصيل أو ذاك، وتدخل الكتائب العسكرية بالقرار السياسي، وإظهار دور “حماس”، الذي لا ينكر، مقابل تجاهل أو تبخيس أدوار الفصائل الأخرى، أو التهوين من الانتصار إلى حد وصف البعض ما حدث بنكبة جديدة حلت بالفلسطينيين، والانحياز لمحور عربي من طرف، وكيل المديح لمحاور لدول عربية وإقليمية، وتجاهل أو استعداء دول أخرى من الطرف الآخر، والظهور كامتداد لجماعة «الإخوان المسلمين».
كل ما سبق وغيره كثير يستوجب البحث والشروع فورًا في حوار وطني شامل من خلال عقد مؤتمر وطني، بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني. وبعض هذه الخلافات أو كثير منها، يستوجب تشكيل لجنة تحقيق وطنية محايدة مهمتها تقييم ودراسة ما حصل، واستخلاص الدروس والعبر، وتحميل المسؤولية عن الأخطاء التي وصل بعضها إلى حد الجريمة. أما التمترس الفئوي وإقصاء الآخر والمطالبة عمليًا بالالتحاق الذيلي بقيادة كل طرف للطرف الآخر؛ فإنه أمر ينذر بالثبور وعظائم الأمور التي عنوانها الأبرز عودة الانقسام، من خلال إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل “إعلان الشاطئ” وتشكيل حكومة الوفاق الوطني. هذا الأمر إن حدث من شأنه تحويل الانتصار الذي تحقق إلى هزيمة.
إن الصمود والوحدة الميدانية اللذين جسدتها المقاومة والالتفاف الشعبي حولها والتحرك السياسي المشترك، أنجز انتصارًا واضحًا على الاحتلال المتفوق عسكريًا، والمدعوم أميركيًا، والمسكوت عنه دوليًا إلى حد التغطية على عدوانه في البداية قبل انتفاضة التضامن الدولي، فضلا عن استفادة الاحتلال من الوضع العربي إلى حد ادّعاء قادة إسرائيل، بأن أهم إنجازاتها في العدوان الأخير تبلور حلف عربي إسرائيلي ضد ما وصفوه بالمخاطر المشتركة!
إذا لم يكن ما حصل انتصارًا كما يرى البعض، فإنه في الحد الأدنى صمود من غزة المحاصرة إلى حد الخنق على عدو متفوق عسكرياً بشكل ساحق بعدم تمكينه من تحقيق أهدافه من العدوان الذي بادر إليه ولم يعرف متى وكيف ينهيه، وهذا هو المعيار الأساسي للحكم على أي حرب، ما شكل سقوطًا مدوًيا جديدًا لنظرية “الأمن والردع” الإسرائيلية، التي تقوم على احتفاظ إسرائيل بزمام المبادرة ببدء الحرب وإنهائها بسرعة وبالكيفية التي تناسبها، وإبقائها بعيدة عن الجبهة الداخلية، وتحقيق نصر باهر لا يمكن لأحد أن يشكك به.
لنسمع ونقرأ ما يقوله الإسرائيليون عن هذه الحرب، لنصدق أن استعادة الوعي الفلسطيني والثقة بالنفس وإفشال أهداف العدو انتصار، وأن سقوط خيار الحرب البرية، واحتلال غزة إلا بثمن باهظ جدًا، كما قدرت هيئة أركان جيش الاحتلال وتهجير عشرات آلاف الإسرائيليين، وتعطيل مطار اللد ولو بشكل جزئي هو انتصار، وأن تعزيز الوحدة انتصار، وكذلك رفع سقف المفاوض الفلسطيني، الذي ظهر بأشكال عدة، منها أن الرئيس قال إنه لن يقبل بمفاوضات غائمة، وطالب بالاتفاق على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة على حدود 1967 قبل بدء المفاوضات.
إن صمت المدافع وتوقف قصف الطائرات والبوارج الحربية لا يعني نهاية الحرب، فهذه الحرب لم تُحسم، وستستمر بوسائل أخرى، وستحاول فيها حكومة نتنياهو أن تحقق بالسلم ما عجزت عن تحقيقه في الحرب، من خلال الإبقاء على الحصار وإفشال المصالحة الوطنية ونزع سلاح المقاومة عبر قرار دولي، وربط الإعمار بتحقيق هذا الهدف.
إذا عاد الانقسام فمن شأنه أن يقطع الطريق على فرص تبني الفلسطينيين مقاربة جديدة مختلفة عن المقاربات السابقة، تعتمد على المقاومة والمقاطعة والتفكير بمحاكمة قادة «إسرائيل» عبر التحرك السياسي المسلح بأوراق القوة. إن الرؤية السليمة والإرادة السياسية اللازمة والوحدة، تُعتبر قانون الانتصار لأي شعب تحت الاحتلال.
السفير